نفحاتٌ من رحاب البيت العتيق ( 3 )
تاريخ النشر: 06/01/12 | 3:14الشعور داخل الحرم شعور روحاني، فكلما دخلنا الحرم لنصلي فيه ، أشعر أنه تتنزل على المكان ومن فيه السكينة، وعلى القلوب تنزل الطمأنينة. لا كلام في شؤون الدنيا، بل صلاة وتسبيح وتهليل من أجل العليا، لا يُسمع سوى حسيس الحركةأثناءالطّواف،أو أثناء الصلاة، ولا يُسمع سوى صوت “آمين” وراء الإمام يتردد صداه، هذا الصوت لا أنساه، إنه يرافقني في كل حركاتي وسكناتي، وفي تهجدي وصلاتي، لأنه صوت ملائكي، وكأني بالمصلين في رحاب البيت العتيق، تفتح لهم أبواب السماء، لكي يسمعوا ويتجاوبوا مع التأمين والتصديق من الملائكة الكرماء.
مرت الأيام كأسعد ما تكون، بين صلاة واستغفار وشجون، وحل يوم التروية،اليوم الذي تيقّن فيه أبو الأنبياء (عليه السلام) من صدق الرؤيا، وزحفت جموع الحجيج إلى عرفة، ووصلتها بعد المزدلفة، وامسى المساء وخيّم الليل علىالجبال والوهاد، وأخلص الحجاج بالابتهال الى رب العباد. وأصبح الجبل عنقوداً من المؤمنين، يتوجهون إلىخالقهم ضارعين. هنا كان لأبي البشر سيدنا آدم (عليه السلام) آخر المطاف، وهنا كان الاعتراف، بالخطأ الذي ارتكبه، وهنا كان استغفاره لله الذي خلقه وأحبه. هذه الملايين تعترف كما اعترف، وتستغفر ، وتتّبع السُّنّة وتنال الشرف.
حلّ الليل…! يكتنف الملايين، وهو هادئ أمين، ينقل النجوى من الألسن والقلوب، إلى رب الليل والغروب. وانقضى الليل بهدوئه، وبزغ الفجر بنوره وضوئه، وحل يوم عرفة الذي فيه تستجاب الدعوات، فلا ترى إلا عيوناً راجيات، وأكفاً مستجديات، وشفاهاً مناجيات، من ملايين المسلمين، التائبين، المستغفرين، المبتهلين، والذين لرحمة ربهم من الراجين.
هذا الارتقاء من وادي مكة إلى المزدلفة، ثم إلى جبل عرفة… كأنه الارتقاء بالعلاقة بين العبد العاجز وربه، دون وساطة أو حاجز.
ألله يا جبل عرفة…! نحن الآن في مكانٍ ألله كرّمه، وفي يومٍ ألله حرّمه.
هنا وقف الأنبياء، سيدنا آدم، وسيدنا ابراهيم، وسيدنا اسماعيل (عليهم السلام)، وهنا وقف سيدنا محمد(صلى الله عليه وسلم)وأحيى سنّتهم.
هذا اليوم ليس كسائر الأيام، فالوقوف والصلاة والدعاء فيه، من خير ما يفعله الأنام. فهذا المكان، وهذا الزمان، لا يُرَدُّ فيه دعاءٌ أتى من قلبٍ سليم، بل يُستجاب من الله الكريم، وهل بعد هذا التكريم من تكريم؟!كل العيون فيها استجداء، في يوم يُستجاب فيه الدعاء، ويُجْزَلُ فيه العطاء. فهذه الخيام تقي الأجساد، والدعاء والاستغفار يقي وينقي الفؤاد.
ومر الوقت يطهّر القلوب، واقتربت ساعة الغروب، فشخصت العيون إلى السماء، وانهمرت الدموع تقطر مع كلمات الرجاء، وصار الجميع يسابق الزمان، ويدعو الله الحنّان المنّان. وسقطت الشمس في حضن أفقها، وسقطت الدموع ترجو خالقها، أن يستجيب الدعاء، وأن يقبل التوب وأن يغفر الذنب لمن أساء.
هذا وقت النفير…وكأنه صورة من صور يوم البعث الكبير. الجميع قائمٌ يودع عرفة، ويتوجه إلى المزدلفة. الملايين ينفضون الذنوب، كما يُنْفَضُ الغبارعن الثوب، وينزلون وهم متيقنون من استجابة ربهم لتوبهم ودعائهم. العيون مستبشرة، والوجوه نضرة للشعور بالراحة، بعد إتمام أهم مناسك الحج ألا وهي الوقوف بعرفة.
نزلنا الى المزدلفة،وكانت ليلة لالتقاط الأنفاس، وذكرى سيدنا إبراهيم عندما أسرع للابتعاد عن الوسواس الخناس، وتنفيذ أمر الله بذبح ولده، سيدنا اسماعيل فلذة كبده. وجُمعت الحصوات لرجم الشيطان عند الجمرات.
وفي الصباح تم طواف الإفاضة، وعدنا إلى مسيرة رجم الشيطان في مِنى. قطعنا المسافات حتى وصلنا إلى الجمرة الكبرى، هنا كان الامتحان أمام سيد الأيمان، وعدوه اللدود الشيطان .لم يخضع للوسواس، بل رجمه ليبقى قدوة للناس، حيث بث فينا قوة الارادة، وعمق الايمان والشهادة،بأنه لا إله إلا الله، ولا طاعة لأحد سواه.
وعلى مدى الايام الثلاثة، جالت في خيالي صور الماضي، الاب ينوي أن يذبح ابنه، والابن يمشي معه مطيعاً له بكل حب وتراضٍ، فقط لانهما يأتمران بأمر الله، ولا يقدمان على حبه أي أمر من أمور الحياة.
يا إلهي…! ما قوة الايمان هذه؟! ما هذا التوكل؟! في كل مرة يصعَّد الامتحان، وتنجح يا صاحب القلب الطافح بالإيمان… في المرة الاولى اُمرتَ أن تترك فلذة كبدك، وشريكة عمرك، في مكان مقفر، لا ماء ولا زرع فيه، وكانت المكافأة، معجزة الى يوم الدين… عين الماء تفجرت تحت قدميه من بين رمال الصحراء، ولا زالت إلى يومنا هذا فياضة، والمناسك حولها رياضة، للجسم والنفس والروح.
يا الهي…! ما هذه المسافات التي قطعها أبو الانبياء، فارّاً بدينه وايمانه من مكان الى مكان، لكي يبلّغها إلى بني الانسان، فيمنع عبادة الاصنام، ويوجه القلوب والنفوس والارواح الى عبادة خالق الانام.
صور الماضي ناصعة، منعهد سيدنا ادم وابراهيم واسماعيل(عليهم السلام)الى سيدنا محمد( صلّى الله عليه وسلّم ) ساطعة، فمن هنا مرَّ نبينا الكريم، مقتدياً بجديه اسماعيل وابراهيم، ونحن اليوم نمرّ حيثما مرّوا، ونستذكر قصتهم مع التوحيد، عندما بدينهم فرّوا، من ظلم المشركين والكفار، وبعهد ربهم برّوا.
مرت أيام عيد الأضحى المبارك، وتمّت جميع المناسك، فعدنا إلى البيت العتيق، نودعه وداعاً بقدره يليق، طفنا طواف الوداع، ودّعناه… والقلب يصبو إلى لقياه، والعين تدمع شوقاً لرؤياه، واللسان يدعو أن نكون من العُوّاد، إذا ما بقي للعمر امتداد.
ودّعنا مكة المكرمة، وهي للقلوبمشوقة، والعيون والأرواح بها متعلقة،لا نستطيع أن نمكث فيها ثانية، ولكنها هي في القلوب باقية…
ودّعناها وركبنا الحافلة، وكانت الوجهة: ألمدينة المنوّرة…!
بقلم الحاجة: نبيهة راشد جبارين