لم الشمل وتبدد الوهم الأخير
تاريخ النشر: 14/01/12 | 23:00ردت المحكمة العليا الإسرائيلية الالتماسات التي تقدمت بها منظمات حقوق الإنسان لإلغاء تعديلات في قانون المواطنة تمنع لم شمل العائلات الفلسطينية من طرفي الخط الأخضر. وصوت إلى جانب رفض الالتماسات ستة قضاة في حين قبل بها خمسة قضاة، بينهم الرئيسة الحالية للمحكمة القاضية دوريت بينيش التي ستخرج قريباً إلى التقاعد، ليتولى مكانها القاضي آشر غرونيس، الذي قاد الأغلبية التي رفضت الالتماسات.
لعل التغيير في رئاسة المحكمة العليا الإسرائيلية هو خير دليل على التحول، الذي لا يتوقف، في الدولة العبرية نحو مزيد من العنصرية ومن العداء للمواطنين الفلسطينيين في الداخل ولحقوقهم. لقد اعتبر الكثيرون المحكمة العليا الإسرائيلية “الحصن الأخير” للديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقلية من طغيان الأكثرية. هناك مبالغة كبيرة في هذا الرأي، لكنه الرأي السائد في الكثير من كليات الحقوق في أوروبا والولايات المتحدة وفي المؤسسات الدولية.
رغم المبالغة في تقييم المحكمة العليا الإسرائيلية، إلا أنه ما من شك أنها، بوصفها الهيئة العليا للسلطة القضائية، كانت أكثر اعتدالاً من السلطة التشريعية ممثلة بالكنيست ومن السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة الإسرائيلية، وقد برز ذلك في السنوات الأخيرة مع موجات العنصرية الهوجاء التي اكتسحت الساحة السياسية في إسرائيل.
مع أنها أكثر اعتدالاً من غيرها، إلا أن المحكمة العليا الإسرائيلية لم تقف في يوم من الأيام حجر عثرة في القضايا المركزية، ولم يكن لها سوى من حين لآخر بعض الانتقادات الخجولة على بعض الممارسات الحكومية وبعض القرارات التي هدفت إلى ترشيد عمل الحكومة والبرلمان وملائمته للقوانين الأساسية التي لها صبغة دستورية.
رغم ان المحكمة العليا صادقت على هدم البيوت وعلى مصادرة الأراضي وعلى جرائم القتل وعلى الإبعاد والسجن الإداري وعلى الاستيطان وبناء الجدار وعلى حصار غزة وتهويد القدس، إلا أن انتقاداتها المحدودة للحكومة والكنيست لم ترق لليمين الذي قام بمساع محمومة للحد من صلاحية المحكمة وتغيير تركيبة قضاتها، ولعل دخول قضاة جدد محافظين بدلاً ممن يوصفون بالليبراليين يخرجون للتقاعد هو المؤشر الأقوى على اتجاه رياح الحكم والسياسة في إسرائيل باتجاه التطرف اليميني.
جاء قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بالمصادقة على قانون عنصري سافر مثل قانون المواطنة منسجماً مع اجواء التطرف الشوفيني ومانحاً ضوء اخضراً للمزيد من القوانين العنصرية وقوانين سلب حقوق المواطن العربي في الداخل.
احد أهم الدوافع لسن القوانين العنصرية هو الانتهازية السياسية والسعي المحموم لأعضاء كنيست لزيادة فرصتهم بالوصول إلى مراتب عالية في القوائم الانتخابية لأحزابهم، وللفوز بشعبية رخيصة في الشارع الإسرائيلي عموماً. هذا دليل على ان العنصرية تهيمن على المجتمع وتمنح حامليها المكشوفين نقاطاً ومزيد من القوة والنفوذ. مع هذا تبقى الاعتبارات العنصرية الخالصة هي الدافع الأهم وفي مركزها التحكم بالجغرافيا والديموغرافيا.
لقد سنت الكنيست في دورتها الحالية مجموعة من القوانين التي استهدفت الجغرافيا وسلب الأراضي من العرب ومنحها لليهود، وهي صادقت مرة تلو الأخرى على قانون منع لم الشمل، الذي غايته التحكم بما يسمى التوازن الديموغرافي ، والذي يمزق عائلات بأكملها ويبعد الأم عن ابنها والوالد عن ابنته، بذريعة المحافظة على امن إسرائيل وصيانة الدولة كدولة يهودية.
المسألة ليست ان المحكمة العليا الإسرائيلية قد منحت شرعية لقانون عنصري في احد قراراتها، بل أنها تمنح الشرعية للعنصرية بشكل عام. وتكفي مراجعة حيثيات القرار وما كتبه القضاة الذين صادقوا على قانون منع لم الشمل، لنرى بأنه نص رثاء لحقوق الإنسان وتبرير للعنصرية قانوناً وممارسة بحجة المحافظة على الأمن وعلى يهودية الدولة اليهودية.
بقلم د. جمال زحالقة
لعل في قرار المحكمة الإسرائيلية جانب يمكن الاستفادة منه, وهو انه يسقط ورقة التوت عن عورة ما يسمى بالديمقراطية الإسرائيلية. علينا ان نبلغ المؤسسات الحقوقية في العالم، التي راهنت، ولو بغير حق، على القضاء الإسرائيلي، بأنه لم يعد فرق يذكر بين الوزير الفاشي، وعضو الكنيست العنصري والقاضي الذي يطبطب على كتفيهما.
لعل الأمر الأهم في قرار الهيئة القضائية الإسرائيلية العليا هو أن مصادقتها على قانونية قانون المواطنة العنصري يستند إلى كون الدولة دولة يهودية. قالت المحكمة بوضوح بأن المحافظة على الدولة اليهودية يستلزم حرمان المواطن الفلسطيني حقاً أساسيا هو الحق في إقامة العائلة, وقالت له المحكمة بوقاحة وبوضوح سافر “إذا أردت الزواج هاجر!”.
قرار المحكمة وحيثياته تنسف من الأساس شرعية مطلب الاعتراف باسرائيل كدولة يهودية، وتضع دول العالم أمام حقيقة أن الاعتراف بالدولة اليهودية يعني مباشرة الاعتراف بالعنصرية. هذا هو المعنى الحقيقي لقرار المحكمة الإسرائيلية.
لقد تبنى المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان مبدأ أن “العنصرية ليست شأناً داخلياً للدول”، وها هي العنصرية الإسرائيلية تخضع كافة المؤسسات الإسرائيلية لسلطتها وهيمنتها المباشرة والمكشوفة، فلماذا لا يقوم العالم بواجبه في لجم هذا الانفلات العنصري؟
المطلوب منا، قيادة الفلسطينيين في الداخل، ومن القيادات والمؤسسات الفلسطينية والعربية ومن كل المدافعين عن حقوق الإنسان والشعوب، إحداث نقلة نوعية في مواجهة العنصرية الإسرائيلية وفي العمل على فرض عقوبات على نظام العنصرية في إسرائيل كما فرض قبل ذلك على نظام الابرتهايد في جنوب أفريقيا.
هناك من اعتقد أن الكنيست “مجنونة” تسن قوانين وهي فاقدة لصوابها، وأن المحكمة “عاقلة” تصحح وتلجم الجنون العنصري، وهناك من ظن بأن المحكمة العليا الإسرائيلية هي كلب حراسة للديمقراطية وكان من اعتبرها حصناً لحقوق الإنسان. من راهن على أن هذه الهيئة القضائية هي حصن للحقوق، ومهما كان رأينا ببؤس هذه المراهنة، فإن هذا الحصن قد سقط، ولو كان الحصن وهماً فقد تبدد الوهم الأخير.
لقد اسقط قرار المحكمة العليا الادعاء بأن هناك توازنات داخلية في إسرائيل، وان القضاء يلجم الحكومة والبرلمان، ولم يعد هناك داخل إسرائيل ما يربط وحش العنصرية المنفلت. لقد آن الأوان لمحاسبة إسرائيل على ممارساتها ضد المواطنين الفلسطينيين في الداخل وليس فقط ما تقوم به في الضفة والقطاع.
قد يقول البعض أن النظام الإسرائيلي يختلف عن نظام الابرتهايد البائد. هذا صحيح، فهو ليس نسخة طبق الأصل عنه، لكنه بالتأكيد من نفس العائلة ويستحق نفس المعاملة.