"اعمل مليح وارميه في البحر"
تاريخ النشر: 17/01/12 | 22:33السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
المقال الذي بين يديك يتعدى المثل المعنون به ليصبح شبه يوميات مرب يصف حالة البؤس التي عشناها أيام الحكم العسكري البغيض، ويشيد بمآثر قرانا وإكرامها لمعلميها، وخاصة مدينة أم الفحم.
والعمل المليح هو العمل الطيب، الجيد، أي عمل المعروف. “ارميه” أي ألقه في البحر، ليبحر بعيدا بعيدا، دعه وشأنه وتوكل على الله ولا تبغ من ورائه جزاءا ولا شكورا، وأحيانا ما يثمر العمل الطيب ويعطي أكله الطيب.
ولي مع مثل هذا العمل قصة بدايتها عام 1952 عندما كنت طالبا في الصف العاشر في مدرسة باقة الغربية الثانوية، وكان الفصل صيفا أما الوقت فكان بعيد صلاة العشاء، كنا مجموعة من الأتراب نتجاذب الحديث وقوفا حول الامتحانات المدرسية في ساحة صغيرة ضيقة، تقع وسط القرية وعلى حافة الشارع الرئيسي المعبد، وكنا نتردد أحيانا بالوقوف في وسط الشارع أو نجلس القرفصاء وأحيانا كنا نفترشه لندرة السيارات المارة وشحها أو لانعدامها آنذاك…وكان أن وصلت ووقفت بالقرب منا، ونحن خارج الشارع، سيارة شرطة مغلقة ومن جميع جهاتها اللهم إلا من كوه (طاقة) صغيرة أو كوتين، أطلقوا على هذه السيارة اسم الزنزانة، وقد أثار فينا وقوفها المفاجىء الهلع والذعر وزاد هلعنا وتراجعنا الى الوراء عندما ترجل منها شرطيان ليدخلا حانوتا، ونحن نبتعد عن هذه الآلة الشريرة واذ بصوت ينطلق مجلجلا من أعماق الزنزانة يقول موجها الكلام لنا: “آه…متنا من الجوع…أسعفونا ولو بالخبز الحاف”، وهرولت مع من هرول من أترابي وتوجهت الى بيتنا القريب من الساحة، وكانت أمي ولحسن الحظ قد خبزت في طابوننا كومة من الأرغفة نسميها “طرحة” تكفي عائلتنا كثيرة الأولاد زاد تلك الليلة واليوم الذي يليها لأنشغالها ووالدي في الغداة بالأعمال الزراعية، وبسرعة البرق تناولت رغيفين من القمح أو ثلاثة على ما أذكر، أسرعت بها نحو الزنزانة لتلتقفها يد امتدت عبر الكوة…شكرني صاحب اليد وسألني: ما اسمك يا شاب؟! ولم أجبه، وعندما أعاد السؤال قلت له: اسمي حسني حسن، وانصرفت الزنزانة وكان حظي أوفر من بقية أترابي الذين لم يسعفهم الحظ وتقديم ما أتوا به من بيوتهم.
وكان لي جار يكبرني بعامين اسمه عبد الله يعمل في منطقة تل أبيب كعامل أجير “بالتهريب” أي دون أن يتزود بتصريح للعمل والخروج من المنطقة العسكرية، أي من قريتنا باقة، حيث كانت تخضع كل قرانا وتجمعاتنا السكنية ومدينتنا الوحيدة الناصرة لأحكام عسكرية جائرة وصارمة وغير إنسانية، فهي مناطق عسكرية مغلقة الخروج والدخول اليها يتمان بواسطة “تصاريح” خاصة يصدرها الحاكم العسكري، وكان جاري هذا يضطره وضعه الصعب جدا لخوفه الدائم من الوقوع في قبضة الشرطة أو رجال الأمن الغياب عن قريته وبيته، سعيا وراء لقمة العيش المغموسة بالذل والخوف أسابيع أو أشهر أحيانا، وكانت البيارات والبيوت المهجورة أو التي هي في طور الانشاء أو المساجد هي الملاذ الوحيد والمأوى له ولأمثاله من العمال الذين تسللوا للعمل…وشاءت الصدف أن يتعرف جاري على هذا الشخص الذي تناول مني أرغفة الخبز، اسمه “حسن” وهو من قرية أم الفحم، وكان أن سأله السيد الفحماوي عني ذاكرا له اسمي، فقال له جاري: أعرفه حق المعرفة فهو جاري، وفي كل زيارة له لقريته باقة كان السيد عبد الله يبلغني سلام السيد حسن ولأزوده أنا كذلك بسلام لا يقل حرارة عن سلامه….
ودارت الأيام وأنهيت الصف الثاني عشر بعد أن اجتزت امتحانات البجروت في ظل ظروف تعليمية ودراسية قاسية وقاهرة، لأعين وبعض زملائي الذين أنهوا الثانوية معي معلما في المدارس الابتدائية، ولخمس سنوات عملت مدرسا في مدارس:برطعة، معاوية وأم الفحم الابتدائية، لأنتقل بعدها الى بلدي باقة.
وفي مدرسة أم الفحم للبنين ومع بداية العام الدراسي 1957 / 1958 باشرت العمل ولأنضم الى هيئة تدريسية شابة تمثل المثلث بأسره: بدءا من أم الفحم وانتهاءا بطيرة بني صعب، وكانت لدى أهل أم الفحم وقرية معاوية التي سبق وأن درست فيها عادة حميدة وهي أن يقوم الزملاء أبناء البلدة أو غيرهم من ذوي الامكانيات وخاصة امكانية السكن، باستضافة المعلمين الجدد والذين هم من خارج بلدتهم ليوم أو لبضعة أيام وحتى يقضي الله أمرا، ويتدبروا أمورهم من حيث المأوى والمسكن، وكان من نصيبي أنا وزميل من قرية جت المثلث أن نزلنا ضيوفا، وبكل ما تعني كلمة ضيف، عند زميلنا الأستاذ أحمد خضر حسن جبارين (أبو خضر) لنقيم في منزله العامر عدة أيام معززين مكرمين…
أما من لم يحظ من الزملاء المحليين باستضافة أحد الزملاء الجدد في بيته ليوم أو أكثر فكان يستعيض عن ذلك بدعوة كافة المعلمين الى وليمة عشاء ينضم اليها غالبا بعض أقارب وأصدقاء جيران الداعي…
وفي احدى الولائم التي دعيت اليها والتي ضمت حوالي عشرين مدعوا، وقف أحد المدعوييين الفحماويين وهو من غير المعلمين، مباشرة بعد أن تناولنا طعام العشاء (عرفنا فيما بعد أنه قريب صاحب الدعوة) وقف مرحبا بنا وبالقرى التي أتينا منها…وتساءل: “هل بينكم أحد من قرية باقة الغربية؟” أجبته وقلت: “أنا من باقة الغربية” خير ان شاء الله، فقال: خير… وكان يجلس بجانبي زميلي المرحوم الأستاذ عبد القادر وتد من قرية جت… وأردف:وهل تعرف شخصا اسمه حسني حسن؟! لم أجبه، وضغطت على خاصرة زميلي عبد القادر بأن لا يتكلم، لأنني لا أعرف ماذا يريد بسؤاله هذا، هل هو من أجل الذم أو المديح!! وأعاد علي السؤال وقال:هل تعرفه؟! قلت:سمعت بهذا الاسم، ولا غبار عليه، ولكن ما لك ولهذا الانسان؟! وانتقل من مكانه واتجه نحوي ليقف خطيبا ويروي قصته مع الطالب “حسني حسن” وكيف أحضر له ولزملائه المعتقلين الأرغفة وكيف التهموها التهاما لشدة الجوع والعطش الذي عانوه وهم في الزنزانة الشريرة في طريقهم الى السجن، ومن ثم الى المحكمة العسكرية، بعد أن ألقوا القبض عليهم وهم يعملون بشكل مهرب، أي بدون تصاريح الحاكم العسكري البغيضة وسيئة الذكر…. عندها لم يتمالك أخي وصديقي المرحوم عبد القادر أعصابه وصاح بأعلى صوته:ها هو “حسني حسن” الذي حدثتنا عنه، انه يجلس أمامك بلحمه وشحمه ودمه…نظر “حسن” الى نظرة ملؤها الود والحنان، الحياء والتعبير عن الشكر، وقال: صحيح… أنت حسني؟ قلت: صحيح…وهل أنت حسن الذي كان يبعث لي بالسلام مع جاري “عبد الله” وقال: نعم… أنا حسن.. وما كاد ينهي هذه الكلمة حتى انقض علي معانقا ومقبلا وقد أغرورقت عيناه بالدموع الساخنة… دموع السرور والعرفان بالجميل…
ثم بدا عليه زهو المنتصر الفائز وليوجه كلامه الى الحضور ويقول: “كرمال الأستاذ حسني، عشاؤكم غدا عندي…كلكم مدعوون، ولا أقبل عذرا لأحد منكم، بالله عليكم أن تلبوا طلبي ودعوتي اكراما للأستاذ حسني وبعمله النبيل…..
وفي الغداة كان له ما أراد وأقيمت وليمة العشاء الفاخرة، وصدق الذين قالوا: اعمل مليح وارميه في البحر.
جميل ما كتبته استاذي الفاضل وكلنا على طريقك نعمل الخير ونرمي بالبحر عله ياتي يوم ونسعد مثلك اطال الله في عمرك واعز قدرك ورفع شانك
استاذي الكريم..حياك الباري وجمل ايامك بالسعادة ومكارم الاخلاق..
لقد زرعت خيرا وعملت معروف..ودارت الايام واكرمت بمعروف جميل..
الحياة تتكحل بالمكارم..والفضائل..السلوكيات الايجابية صورة نبيلة لمجتمعنا
العربي في السنين الماضية…
استاذي الكريم..مقالاتك جوهرية المضامين..بها دروس وعبر ونصائح من الذهب
العتيق..صفحات فاضلة من تاريخ مجتمعنا..
استمر بالكتابة وحلق للمعالي شموخ النخيل..تمتع بالعطاء الخالد..
اتمنى لك الصحة والعافية..ودوام العطاء الخير الجميل..
كيف الحال استاذي- تحيه لابو مسلمه
استاذ الكريم حسني بيادسة ،
ما أحوجنا إلى رصد واع لتلك المرحلة ، اسميها البدايات ، فهذه المرحلة جُزء من تاريخ عشناه وعايشناه بألم ، كم يجمل بنا أن ننقل للأجيال الحالية والقادمة قساوة وبشاعة تلك الفترة وما كان فيها من بذور خير و تكافل إنسانيٍّ حقيقي .
مقالتك ستفتح أمام عقلي وعيْنيَّ وخيالي ما سأدونه في عمل أدبي لاحقا ، ما دمت حيا أفكر وأكتب . أعتقد أن ما كتبه من قبل الدكتور الصديق محمود أبو فنة يطرح مهمة أدبية ، ثقافية وتوثيقية هامة أمام كثيرين من مُثقفي شعبنا ، أينما كانوا ، لرصد واع وأمين لكل مرحلة .
أخوكم في الأمل
ابراهيم مالك
عزيزي وعديلي الأستاذ حسني بيادسة
أضمّ صوتي لما كتبه الأديب المبدع إبراهيم مالك:
كم تحتاج أجيالنا الصاعدة الواعدة للتعرّف على تاريخنا
وجذورنا ومعاناتنا، فمن رحم هذه المعاناة شمخت قاماتنا،
واشتدّت سواعدنا، وواصل شعبنا مسيرته الرائعة على درب
الصمود والانتماء والتقدّم..
عزيزي أبا إياد:
أبارك يراعك المعطاء، وإبداعك المميّز، ولا تبخل علينا بهذه
النفحات المنعشة للروح المتعطشة لكلّ جديد مبتكر!
عديلك أبو سامي
جزاك الله خيرا استاذنا الفاضل
لا عجب من هذه القصة يومذاك حيث كانت النخوه
اسرعت انت واترانك من الشباب لاغاثت الملهوف
بالرام من القله والحاجة وكان المعروف
معروف يشكر عليه فاعله ويثنى ياريت اهل هذه
الايام يتعلموا منك واترابك الذين سارعوا للخير
ويتعلموا من الفحماوي صفة الشكر حتى يبقى
المعروف بين الناس ففي ايامنا وللاسف الشديد
ان وجدت من يعمل امعروف قليل جدا تجد من
يشكر عليه ما اجمل البدايه وما اروع النهايه
[…] في هذا السياق:“اعمل مليح وارميه في البحر” رقم 1 اقرأ أيضاً في […]