الكتابة الأدبية انتقاء من الواقع
تاريخ النشر: 04/06/14 | 11:35كثيرًا ما يطلب مني بعض الأصدقاء في أعقاب قصة مؤثرة أو حدث خطير أن اعبّر عن ذلك كتابة، فأصف حكاية ما جرى بدقة ومحاكاة، لكي تجد الكلمات صدق الواقع بعيدة عن الغلو والتحليق.
ومصدر الخطأ في الطلب تصورهم أن الكتابة الأدبية مجرد وصف عبارات، وسبك حكايات تتأتى للكاتب في كل حين، ناسين أن الأديب لا يعمد في عمله الإبداعي إلى تسجيل الحدث كما جرى على أرضية الواقع، بل هو يتخير ويتنخـّل ما يبني به البِناءَ الجديد الموظَّف لغرض سامٍ وفكرة يرمي إليها.
ولو أنعمنا النظر في حادثة جرت حقيقة فإننا نلحظ في بنيتها أو في تصويرها نوعـًا من الاضطراب والفوضى، أو على الأقل أنها طُهيت على مسرح الحياة، فخرجت – مع ذلك – بشيء من النقص أو عدم النضج نسبيًا. ومن جهة أخرى فإن الكاتب إذا انفعل بهذه الحادثة فإنه يصوغها في عمل فني، فيه النظام المتسق، وفيه الحبكة والفنية في اختيار أو التقاط الحوادث وتقديمها وتأخيرها، وفقـًا لرؤية يرمي إليها الكاتب، حتى تصبح مكتملة ناضجة.
وقصة/ رواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ كانت مادتها الخام من حكاية محمود أمين سليمان – سفاح عاش وقتها في الإسكندرية، وقد أشغل الجمهور المصري حينًا، وتناقلت أخباره الصحف (انظر مثلاً أخبار اليوم – 12 – مارس 1960)، ومحمود هذا خانته زوجته مع محاميــه، ولما خرج من السجن كان وكده أن ينتقم منهما…… وتذكر الصحيفة أنه كان يختفي في منزل سيدة تغار عليه، وكان يتردد على مقهى مهجور في منطقة المقابر يقدم المخدرات، وقد عثرت عليه الشرطة بعد أن استعانت بالكلاب البوليسية……………..
إن قارئ “اللص والكلاب” يستطيع أن يترجم الخبر إلى الرموز الأدبية، بلا أدنى صعوبة. فهذه التفصيلات الواقعية أفاد منها محفوظ في تحديد الشكل الروائي الخارجي، فقد عايشها، ورأى كيف أن الجمهور كان يتعاطف ومحمود سليمان، لأنه كان يقاوم الخيانة والغدر من جهة، ولأنه يقاوم الشرطة (ممثلة بالبطش لدى الحاكم) من جهة أخرى. ومحفوظ ينفعل هو كذلك بهذا الحدث، وتتولد لديه الأفكار والصور في مخزن – ريبوتوار – تظل مثقلة حتى ينفس عنها في القالب الملائم– الذي يتمثل في شخصية سعيد مهران.
كان سعيد مهران هو التعبير النموذجي لقضايا وجودية وفلسفية تتصارع في نفسية الكاتب. وقد جعل محفوظ هذا اللص مثقفـًا، يبحث عن انتمائه ويواجه العالم، رغم صرامة القدر المتربص به.
على ضوء ذلك، فالكاتب ليس مؤرخـًا يسجل يوميات مجردة، بل ينطلق في تسجيل الواقع من خلال نفسيته، فيحوّر ويغير وفق ضرورة فنية تلزمه وتوجهه. وفي هذا المجال تطرق نجيب محفوظ إلى وصف المبدع:
“إنه مثل بنّاء، يشيّد مبنى بحجارة مأخوذة من جبل. هذه الحجارة لا تأخذ في المبنى الشكل الذي كانت عليه في الجبل بأي حال من الأحوال، فما يهم البنّاء هنا ليس تصوير الجبل، وإنما يأخذ الحجر، ويظل يغيّر فيه حتى يتوافق مع صورة البناء الذي صممه، والذي يريد أن يستخدم الحجارة فيه “ (أتحدث إليكم ص 113).
فإذا كان سعيد مهران هو الترجمة الفنية لمحمود سليمان فإن الثاني سرعان ما يتلاشى، ويبقى الأول نموذجًا ومثالا لفكرة.
أما سعيد مهران وعلاقته برؤوف علوان و الموقف الفلسفي في هذه العلاقة فكل ذلك كان انعكاسًا عميقـًا لدى الكاتب وخبرته ورؤيته، وليس لمحمود سليمان أدنى صلة بكل هذا، مع أن هناك احتمالاً أن تكون قصة واقعية أخرى وجدت مكانها لها هنا لتعكس شخصية رؤوف علوان. ومع كل تشابه هنا وهناك فإن ذلك لا يعطي الدارس الحق في اعتبارها وثائق تاريخية (لأن عوامل مختلفة وعناصر جديدة تختلط فيها، منها ما هو حقيقي، ومنها ما هو غير حقيقي، ولأن الاعتبارات الفنية تنسينا عند الكتابة أن ننفـي الوقائع الحقيقية مما تقتضيه ظروف الحبكة الروائية (انظر الحوار مع توفيق الحكيم في كتاب فؤاد دوارة في عشرة أدباء يتحدثون ص 34).
ويضيف الحكيم:
“فإذا استطاع الإنسان أن يذكر حقيقة الوقائع المجردة قبل أن تصاغ في القصص، ثم بعد أن صارت جزءًا من القصة فإن الفارق بين الحالين سيكون مثيرًا للدهشة“.
وقد رأى أدوين موير في كتابه (بناء الرواية) أن الاختيار في الفن يكون من خلال إعطاء صورة كاملة يحددها بالزمان والمكان، بيد أن تقليد الحياة في تدفقها – الذي يبدو عفويـًا لا يحدّه تصميم– إنما يجري في تقاطعات مستمرة من الزمان والمكان معًا.
ويعارض ذلك د. محمد حسن عبد الله في كتابه الواقعية في الرواية العربية – ص 294، ويرى أن التسجيلية هي موقف وأسلوب قبل أن تكون قياسًا كميًا للزمان والمكان.
“… والموقف عندنا يتمثل في حيادية النظرة إلى الشخصيات والمواقف والأحداث، بمعنى رصدها كما حدثت أو يمكن أن تحدث…”.
أما الإضافات التي يمنحها الكاتب فيجب أن تكون لها دلالات يتحملها الموقف بالضرورة.
نخلص إلى القول أن الأدب هو انتقاء فني من الواقع، وليس تسجيلاً حرفيًا له، وليس أدل على ذلك من المعاناة والجهد والنظام في الإبداع.
……………………………………..
من كتابي “أدبيات- مواقف نقدية”. القدس- 1991، ص 55-58.
ب.فاروق مواسي