مؤتمر الفنّ القصصي المحلّي في مجمع القاسمي
تاريخ النشر: 22/01/12 | 23:02كلية القاسمي في باقة الغربية/ المثلث أقامت مؤتمرَ الفن القصصيّ العربي المَحليّ الخامس في أكاديمية القاسمي، بتاريخ 21-1-2012، وبحضور لفيفٍ من الأكاديميّين والنقاد والشّعراء والأدباء، وحشد كبير من مفتشين ومدراء ومُركّزي اللغة العربية في المدارس، ومديري مكتبات ومديري مراكز تطوير كوادر التعليم، ومن حمَلة الأقلام ومُحبّي اللغة العربيّة.
تولت عرافة الجلسة الأولى السيّدة هيفاء مجادلة، وافتتحَ اللقاء د. محمد عيساوي رئيس أكاديمية القاسمي بكلمة ترحيب بالضيوف، والإشادة بدوْرِ كلية القاسمي في دعم النشاطات الثقافيّة وتكريم الأدباء، كمساهمةٍ في رفع شأن الأدب المَحليّ وترسيخ وجودنا العرب كأقلية في البلاد.
تلاه د. ياسين كتاني في كلمة جاء فيها:
أيّها الحفل الكريم.. يهدفُ هذا المؤتمر إلى إبراز دوْر مُبدعينا في إنهاض أمّتِهم، والأخذ بيدها في مدارج العزة، والتقدّم في وقتٍ تضيقُ علينا فيه المسالك والمنافذ، يهدفُ المؤتمرُ فيما يهدف إليه إلى تعريف وتقريب مُجتمعِنا العربي الفلسطيني، مِن هذه الكوكبة المبدعة المتألقة من أدبائنا، الذين حملوا لواءَ التنوير ودافعوا بأقلامهم وبشجاعة عن وجودنا وعن حقوقنا، كما يهدف المؤتمر إلى الانتصارِ للمطالعةِ وللكتاب في زمن الولع بالحاسوب، الذي هيمنَ على حياتِنا واستبد بها، وصرَفَ الأجيالَ الشابّة على وجهِ الخصوص عن الكتاب وعن الرّواية والقصّة.
الإخوة والأخوات.. يضطلعُ المُثقّفُ الثوري المبدع في بلادنا وفي زمننا بدوْرٍ رياديّ، وبطاقةٍ مبدعةٍ خلاّقةٍ في تثوير الواقع، وفي نشر التوعية بحقوق هذه الأقليّة الأصلانيّة مِن شعبنا في حياة كريمةٍ، وحقّهم في حرّيّة التعبير وتساوي الفرص، وحقهم في التعليم والتوظيف، وحقهم في في المسكن والأمان وفي دعة العيش.
وما احتفاؤنا بالمبدعين في فن القصّ في هذا العام، كما احتفاؤنا من شعرائنا في العام الماضي، سوى تعبيرٍ عن امتناننا العميق واعترافنا المخلص الصادق بفضلكم ومنزلتكم واعتباركم في نفوسنا، وعُمق مسؤوليّتكم في العبور بنا صوْبَ الأعدل والأنقى والأجمل.
إنّ المثقفَ المبدعَ الذي نحتفي به هو مَن في قاماتكم السامقة، مَن يشعرُ بنبض شعبه ويُكابدُ معه في محنتِهِ، كما يهزج معه في أفراحِهِ، مَن يجعلُ ضميرَهُ رائدَهُ كما يقول قدري طوقان: “وعقلُه قائدُهُ، ومعاملة الناس بالحسنى، والتواضع شعارُهُ”.
ليسَ مِن المثقفين في شيء مَن انتفخت وداجُهُ ونفشَ ريشُهُ، ولو حملَ درجة جامعية مرموقة، وليسَ منهم في شيءٍ مَن يسعى إلى تقويض وإحباط كل مبادرةٍ جميلة، انتصارًا لنزواتِهِ وممارسةً لأنويتِهِ المُتورّمة!
السيّدات والسّادة.. رأت لجنة المؤتمر أن نُرجئ الاحتفاءَ بالأدباء الكبار الآخرين، الذين ليسوا في قائمة التكريم هذا اليوم إلى مؤتمر آخر، في الخامس من أيار، بغية إعطاء كل أديبٍ حقهُ من التكريم ومن الاهتمام، مستفيدين في ذلك مما خلُصنا إليه مِن عِبرٍ في مؤتمر الشعر في العام الماضي، وفي القائمة المؤجلة قاماتٌ كبيرة أخرى مِن مبدعينا سنتشرّفُ بدعوتِهم في مؤتمر أيّار.
وبعد، أيّها الإخوة وأيتها الأخوات، فإن ثراءَ أدبنا القصصيّ كيفًا، وتنوّعَهُ كمًّا، لَيَمنحان أدبَنا وأدباءَنا مكانةً متميّزة. لقد حقّقت القصّة في بلادنا إنجازاتٍ بارزةً على مستوى الرّؤية والتقنيّة، تُستلهَمُ هذه الإنجازاتُ مِن الأصول الغربية والمؤثرات الأجنبيّة في مستوياتها الجمالية حينًا، وتستلهمُها في حين آخرَ مِن الأصول التراثيّةِ الفلسطينيّة، فيتجاذبُ مبدعونا مع هذه المنابع ويمتحونَ منها.
إن هذه التجارب الثرية تحتاجُ إلى حركةٍ نقديّةٍ نشِطة تواكبُها وتؤصّلُ لها، ولكننا نشهدُ تقاعسًا نسبيًّا لدى النقّاد عن دراسة بُنيةِ العمل الأدبي وتشكيلها الفنيّ، وفي ذلك إغفالٌ للتجديداتِ وقصورٌ في استقراءِ التطوّر في مفهوم النّص السّرديّ لدى كُتّابنا، خلال سعيهم في البحث عن صِيغٍ جمالية غير تلك المألوفةِ والمُستهلَكة، مِن أجل إعادة بناء الواقع وتشكيله على نحو يُحقّقُ توازنَ البناء الفنّيّ، مع أبنية المجتمع التي يكون متأثّرًا بها ومُؤثّرًا فيها.
وعوضًا عن رصد هذه التبديلات والتغييرات في مفهوم النصّ بارتباطِهِ بالحياة والواقع، ينصرفُ كثيرٌ من النقاد والباحثين على الغالب إلى نفض أيديهم من معالجة الشكل الفنّيّ للأعمال القصصيّة، مُتجاهِلين كوْنَهُ واحدًا مِن مستويات العمل الأدبيّ، مُقتصِرين في دراستهم على مقاربةِ السّياقِ الاجتماعيّ والتّاريخيّ، مع ما لهذه السّياقات من أهمّيّةٍ في العمل الفنّيّ.
إنّ إحدى السّمات المُميّزة للنصوص القصصيّة التي تهيمن على المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ المعاصر في السنوات العشر الأخيرة، هي ذلك الالتحام بين القيم الفكريّة والجماليّة على الصّورة التي تصبح معها كلّ منهما وجهًا للأخرى.
إنّهُ إنتاجٌ يطمح إلى خلق وضع فكريّ يضيءُ الحالة العقليّة للأمّة، ويسعى بها نحو الأرقى في الفنّ، وتتخلّق حداثته مِن اللحظة التي يكتشف فيها المبدع عُقم الواقع وجموده، فيتمرّدُ عليه محاوِلًا إزاحته وخلق واقع مُغاير، يتجاوز الخطوط الحمراء أحيانًا عبرَ بناءِ نسَقٍ جماليّ إبداعيّ متفرّدٍ وجديد.
وجاء في كلمة د. فهد أبو خضرة المحاضر في جامعة حيفا، والعضو المؤسّس في مجمع القاسمي ومستشارها الأكاديميّ:
أعضاء المجمع، المبدعون والباحثون، المحاضرون، الطلاب الأعزاء والضيوف الكرام، باسمي وباسم رئيس وأعضاء مجمع القاسمي للغة العربية أرحّب بكم أجمل ترحيب، في هذا المؤتمر الأدبي الحافل وأتمنى لكم يومًا مُمتِعًا ومُفيدًا.
أودّ في كلمتي هذه أن أتحدث بإيجاز عن إنجازات المجمع التي تمّ تحقيقها حتى الآن، وعن المشاريع التي هي قيد التنفيذ والتي نأمل أن يتم إنجازها قريبًا.
1 – المؤتمرات: فقد أقام المجمع حتى الآن أربعة مؤتمرات، تناولت على التوالي مواضيعَ اللغة والاستعارة والشعر والتصوّف، وها هو المؤتمرُ الخامس، والمجمع يُخطط لإقامة مؤتمرات أخرى في فترات قريبة، وهذا المؤتمر الحالي عن القصّة مؤتمرٌ هامّ لنا جميعًا، لأنّه يُسلّط الضّوءَ على أدبنا المَحليّ في مجال رئيسيّ من مجالاته المتعدّدة، ونحن في حاجةٍ ماسّةٍ إلى العديد من المؤتمرات والدّراسات الجادة التي تتناولُ أدبَنا المَحلّيّ، وتدرسُهُ دراسة موضوعيّة مُتعمّقة وشاملة، وتُعيدُ النظر في كثير من الآراء التي قيلت حوله.
2 – الإصدارات: تم حتى الآن إصدار عشرة كتب في البحث الأدبي والفكري، تناولت حقولاً مختلفة من التراث الحضاري واللغة والبلاغة والأدب الحديث، لعشرة من الباحثين البارزين، ومشروع الإصدارات مستمرٌّ دون توقف إن شاء الله، والباب مفتوح أمام الباحثين في المجالات المذكورة وما إليها، بحسب الشروط المنصوص عليها في منشورات المجمع.
3 – موسوعة أبحاثٍ ودراسات في الأدب الفلسطينيّ الحديث، وقد تمّ إصدارُ الجزء الأوّل من هذه الموسوعة، وهو يتناولُ إنتاجَ واحد وعشرين مُبدِعًا مَحلّيًّا بأقلام واحد وعشرين باحثا، والعملُ جارٍ لإصدار الجزء الثاني في أقرب وقت ممكن، وستتلوهُ بحسب التخطيط أجزاءٌ أخرى لم يُحدَّد عددُها، والمطلوبُ تناول أكبر عدد ممكن من المبدعين والمفكّرين والباحثين الدّاخلين في نطاق الأدب الفلسطينيّ الحديث، بغضّ النظر عن المكان الجغرافيّ الذي يعيشون فيه، والباحثون جميعًا مدعوّون للمساهمة في هذه الموسوعة، لِما لها مِن أهميّةٍ أدبيةٍ وفكريةٍ وتاريخية.
4 – مجلة المجمع: وهي مجلة مُحكّمة تضمُ أبحاثا في اللغة العربية والأدب والفِكر، صدر منها حتى الآن خمسة أعداد في أربعة مجلدات، وهيئة التحرير تُخطط حاليًا لإصدار عددٍ خاص باللغة في مختلف مجالاتها: صرْفِها ونحْوِها ودلالاتِها وكل ما يتعلق بذلك ويجري مجراه، والباحثون هنا أيضًا مدعوون للمساهمة في هذا العدد كلّ بحسب تخصصه، وللمساهمة في الأعداد الأخرى التالية له مساهمات مستمرة.
5 – قاموس المجمع: بعد عمل متواصل لمدة سنتين قامت به لجنة مؤلفة من عدة أساتذة، تم إعداد قاموس موسع للغة العربية المعاصرة، واللغة التراثية التي ما زالت مستعملة، يضمّ أكثر من عشرين ألف كلمة، وهو اليوم في مرحلة الإعداد للطباعة، ونأمل أن يصدر قريبًا جدًّا، وقد بدأت اللجنة نفسها بإعداد معجم شامل وموسّع للمصطلحات الخاصة بالأدب وبعلوم العربية، ونأمل أن يتم هذا الإعداد في السّنة القادمة، وبحسب التخطيط سيستمرّ العملُ في مجال المعاجم، بعد إصدار قاموس المصطلحات أيضًا.
6 – مركز الترجمة هذا المركز أقيم مؤخرًا بهدف ترجمة إنتاجنا المَحلّيّ، في مجالي الإبداع والفكر إلى لغات أخرى لاطلاع الآخرين على هذا الإنتاج الذي نعتز به، ونرى أنه يستحقّ أن يُنشر على أوسع نطاق ممكن، وقد بدأت الترجمة فعلاً إلى اللغة الإنجليزيّة، وستبدأ قريبًا إلى اللغة العبريّة، ونحن نرجو من كلّ الباحثين المتخصّصين بالترجمة أن يتصلوا بالمجمع إذا رغبوا في المساهمة بهذا العمل الهامّ.
7 – مركز المبدع الصّغير وهو يهتمّ بإبداعات البراعم، وذلك بالاشتراك مع مركز أدب الأطفال التابع لأكاديميّة القاسمي، وقد بدأ هذا المركز منذ عام تقريبًا، وقد صدر عنه كرّاس صغير تحت عنوان “مشروع المبدعين الصّغار”. ونحن نأمل أن يُسهم هذا المركز في مساعدة هؤلاء المبدعين على تطوير إبداعهم بصور مستمرة!
8 – الورشة الإبداعيّة ستبدأ قريبًا جدًّا، وذلك اعتبارا من يوم السبت القادم، اي في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، وهي بإشراف الفنان الأديب عفيف شليوط، وهناك مشاريع أخرى ما زالت في مرحلة التشاور والتخطيط سنتحدث عنها في لقاءات قادمة.
في الجلسة الأولى توالت نماذج من قراءات إبداعيّة لكلّ من الأدباء؛
مصطفى مرار، محمد علي طه، محمد نفاع، سهيل كيوان، د. راوية بربارة، فاطمة ذياب، شوقية عروق ورجاء بكرية.
وفي نهاية الجلسة تمّ تكريمُ الأدباء المشاركين في المؤتمر.
بعد الاستراحة قدم الفنان الاديب عفيف شليوط فقرة ساخرة من مسرحيته عاهر سياسي، ومن ثمّ قام البروفيسور أ. د. فاروق مواسي بعرافة الجلسة النقدية الثانية فقال في كلمته:
يعرف الكثيرون أنني أضع على رأسي أكثر من قبعة: قبعة الشاعر وقبعة الناقد وقبعة كاتب المقالة، إلا أنني هنا أبدو بقبعة القاص، وقد أصدرت ثلاث مجموعات، وكتبت عددًا من المقالات النقدية، فاعذروني إن أنا تحدثت عن تجربتي، فلعلها توحي برؤية ما في في منظاري النقدي.
كنت أتابع الطريقة التي يصف أو يصور بها الکاتب جزءًا من الحدث أو جانباً من جوانب الزمان أو المکان اللذين يدور فيهما، أو ملمحاً من الملامح الخارجية للشخصية،أو يتوغل إلی الأعماق فيصف عالمها الداخلي، وما يدور فيه من خواطر نفسية، أو حديث خاص مع الذات.
كتبت القصة الأولى “فقر للبيع” بعد أن أخذت الفكرة من برنامج أدبي أذاعته محطة الشرق الأدنى، ونُشرت في عدد أدبي خاص من مجلة المصور التي رأس تحريرها فؤاد شابي، العدد 45 ، ص 16 سنة 16/5/ 1962. من هنا يبدو لي أن بداية النشر الأدبي كانت لدي هي القصة لا القصيدة أو الدراسة، وهذه معلومة فوجئت بها وأنا أوثق سيرتي.
كنت أتابع الشخصية التي تبث عنصر الحرکة والحيوية في مسار الحدث، ولا تهمني إن كانت نامية متطورة أم مسطحة ثابتة، فالمهم أن تقنعني، تمامًا كحالنا نحن في عالمنا الذي نعايشه، فما يهمني من الشخصية التي ألتقيها، أن أقبلها كما هي، ولا ضرورة لتبدل الدور أو المفاجأة أو المفارقة، فماذا يضيرني إذا بقيت على طبيعتها، ولماذا كانت مسطحة أصلاً، ومن قرر ذلك؟ فورستر؟ صاحب أركان القصة؟
أهتم بالطريقة التي يتناول فيها الکاتب الحدث، وکيفية رصده، و ربطه بعناصر القصة الأخرى ربطاً عضوياً بحيث لا يبدو وکأنه عنصر منفصل أو مفقود لذاته. ولا يهمني ما يراه البعض من أن سير الأحداث يجب أن يتم وفق نظام العلة و المعلول، أو السبب والمسبب، بحيث لا يجری حدث إلا وهو نتيجة لحدث سابق أو مؤثر سابق، ولا يعنيني أن يكون تسلسل الأحداث تسلسلاً رتيباً متوقعاً، بل قد تأتي غير متسلسلة، وقد تبدو متناقضة في الظاهر، ولکن هناك خيطاً شفافًا ينتظمها، ويربط بين أجزائها ويفسر تعاقبها أو عدم تعاقبها.
في رأيي ليس هناك حدود ما للبيئة التي يرسمها القاص،وتتحرك من خلالها الشخصيات وتتعاقب الأحداث، مع أن وظيفة الزمان والمكان في العمل القصصي هي خلق الوهم لدی القارئ بأن ما يقرأه قريب من الواقع أو جزء منه. ومع ذلك فقد تكون الشخصية في أكثر من مكان وأكثر من زمان حسب تطور الحدث وملابسات تنقل الشخصية.
في السرد كنت أحب الحوار، وأعرف صعوبته، ولكم جربت أن أجري حوارًا طويلاً له معنى مسرحي أو درامي فما أفلحت. من هنا كان سبب عدم كتابتي المسرحية، وكم من مرة طُلب مني أن أعد مسرحية طلابية، فكانت خطابية مباشرة أكثر من كونها مجالاً لإبراز عناصر الصراع الداخلي والخارجي بين الشخصيات.
كما أنني لم أفكر في نشر روايتي اليتيمة الحب البعيد، إذ بقيت في الدرج، وأنا أخشى أن أعود إليها، أو حتى أروي لكم حكايتها، مع أن هناك ناشرًا أراد نشرها “على الغميض”، ثقة منه بي، ولكني رفضت ذلك، فأنى لي أن أكون روائيًا وأنا لم أقرأ روايات عالمية وعربية بصورة تشفع لي ولوج هذا اللون أو النوع.
سألتني مجلة الشرق (العدد الرابع تشرين الأول،1996، ص 5):
القصة القصيرة… هل تعتبر نفسك ذا خصوصية فيها بعد أن أصدرت مجموعة أمام المرآة سنة 1985، وأعدت نشرها مضافة إليها قصص أخرى سنة 1995؟
أجبت: القصص جميعها لدي فيها تكثيف، وفيها لغة السرد الذاتي (الأوتوبيوغرافي)، تجمع القصة لديّ زخمًا أو طاقة فنيّة، هي أشبه بالقصيدة، فما عجزت عنه شعرًا في رثاء غسان كنفاني – مثلاً – عبّرت عنه قصتي “أمام المرآة”، كما يعرف دارس الواقعية معنى قصة “أنفة” – إذا قرأها، ويحضرني هنا قول القاص سهيل كيوان عن هذه القصة “أرغمتني دائمًا على تخيل حركة حمدي السكاك”.
“هل هناك قواعد ثابتة لكتابة القصة ؟
أما زلت تفكر أن القصة مقدمة فعقدة فحل؟
هل قرأت قصص الطيب صالح ويوسف إدريس وزكريا تامر كلها؟ أم أن قصصهم لوحات؟
أقول: إني أرى ألا قاعدة ثابتة للقصة، ومقياسها فقط قول كاتبها إنها قصة، وبعدها نتعامل معها وفق أذواقنا ومواهبنا.
نشرت قصصي الأولى في صحيفة الفجر الأدبي التي حررها الشاعر علي الخليلي، كما نشرت فلسطين الثورة بعضًا منها، وعلق الشاعر فيصل قرقطي على قصة “وخرجت زرقاء اليمامة” تعليقًا ذكيًا ومستقصيًا.
في المجموعة الثانية أمام المرآة وقصص أخرى أضفت إلى القصص السابقة سبع قصص، أولها “حجر…علم” التي تتوقع الدولة الفلسطينية، و”شيخ وأمنية” وهي قصة قصيرة مهمة جدًا – اسمحوا لي أن أزكي نفسي- تتناول مدينة القدس، وكانت قصة “عيد للصدق”، و “أنفة”، و “وقوف على الضريح” قد أعيد نشرها في منشورات ومواقع كثيرة.
في تصدير هذا الكتاب كتبت:
لا شك أن بعض القراء المتابعين لكتاباتي سيتساءلون: ما لصاحبنا والقصة؟! حسبه النقد والشعر والمقالة، وكأني بهم ينكرون علي أن أدلي دلوي فيما أنا مضطر فيه، فالإبداع يبحث عن مخرج أو طريقة يتفتق فيها مَعِـينه، ويعلم الله أنني لا أقبل على لون إلا لأن أخاكم مكره لا بطل.
في كتاب د. حبيب بولس أنتولوجيا القصة العربية الفلسطينية – 1987 ورد ما يلي:
” فهو – أي مواسي يخربش في قصصه سير الزمان ولا يحدد المكان” ؟
لكنه يتابع:
” قصصه تعتمد السرد، ولكنه سرد مكثف موجز بعيد عن الترهل، ويكتنف معظم قصصه الغموض والرمز. مواضيعه فلسطينية، ولكنها تحرق المسافة بين الخاص والعام. من قصصه يبدو الكاتب متأثرًا بالقصة الأوربية الحديثة، وخاصة وليم فوكنر” (ص 381).
مِن أنصف ما نُقدتْ به قصتي تحليلاً وتعمقًا كانت دراسة محمد علي سعيد بعنوان “أبعاد المضامين في مجموعة فاروق مواسي القصصية” – قراءات في الأدب المحلي، مطبعة الشرق، 1995 (ص71-81)، إذ انتهى الكاتب إلى القول:
“إننا أمام مجموعة قصصية ناجحة تمتاز بتعدد الأبعاد، وهذا ما حاولت الوقوف عليه، وأما الناحية الشكلية المبنوية فإنها تحتاج إلى دراسة مستقلة”.
لم أنشر أية قصة قصيرة بعد صدور كتابي نهاية سنة 1995، حتى إذا اشتهر أمر القصة القصيرة جدًا وجدت لي مسلكًا جديدًا، فأخذت أنشرها في المواقع، وحفزني أكثر ما كتبه بعض النقاد في المواقع، مبرزين أهمية قصصي، بل منهم من اختار اسمي في رأس قائمة المبدعين في هذا الفن، على غرار مقالة الناقد المغربي جميل حمداوي – انظر مثلاً: http://dawawin.ibda3.org/t3749-topic
شجعني ذلك على أن أصدر أول مجموعة في بلادنا – في أدبنا المحلي، بعنوان مرايا وحكايا (دار آسية 2006)، وقد قدمت للمجموعة بما يلي:
“أريد من قصتي أن تشي، أن تهمس، أن تنقل، أن تحرك، أن تجتاز إلى مناطق مختلفة معلومة ومجهولة.
أن أقص قصة فهذا اضطرار، تمامًا كما قلت عن كتابتي – عامة:
أكتب لأنني مضطر أن أكتب، وليس ترفًا أو طواعية، فالقاص فيَّ أسوة بالشاعر والناقد مشوق للقص ، يبغيه ،” يموت ” حتى يحكيه.
عندما تكون لدي قصة أسأل نفسي: لماذا أقص؟ ولماذا الآن؟ ولماذا لهؤلاء؟
فإذا لم أجد جوابًا شافيًا فهذا يعني أن القصة ليست بمستوى.
أسأل نفسي ما جدوى القصة لدى المتلقين، فإن لم تكن ثمة جدوى فلن يقبل علي أحد فيما بعد.
بالطبع سأجعل من النهاية المفتوحة مثار نقاش، وسيلة تفكير ومتعة.
أختار أنا الراوي وأكون حميمًا له، فليس بالضرورة أن يكون هذا إياي، ولكنه من الضروري أن يكون قريبًا مني جدًا، فقصتي تنطلق من ساحتي الذاتية، وهي صلاتي ونسكي بطريقتي.
هناك محاور تتصل – كما أراها- بكتّاب القصة:
أنت – قدرتك وشخصيتك راويًا، وعليك تبعًا لذلك تطوير هذه القدرة وتثقيف النفس بالخبرة المتعددة المصادر.
الجمهور، حيث لا ننس أن القصة هي حوار اجتماعي، ومن هذا الحوار يتولد التغيير، ولو بطيئًا.
القص، وهو مسرحيد درامي بصورة أو بأخرى، وتتسع أبواب القصة في تكثيفها وطاقتها الكامنة فيها.
أما ق. ق. ج فمن المفروض أن تعبر عن أحاسيس عفوية واعية مقاربة للحياة بألفتها وتواصلها.
أعدكم أنني سأقتصد بكلماتي، وأحاسب كل حرف قبل أن يدخل حرم قصصي.
سأكثف ما وسعتني الحيلة حتى أجانب السطح، ولن أستطرد وصفًا، و قد أستبدل عنصرًا قصصيًا بآخر، فأستغني عن الزمان أو المكان أو السرد الوصفي، لكني سأرافق المفارقة وأهتز معها، وأعمد إلى الدفــقة الختامية.
وإذا كانت نتالي ساروت قد أصدرت أول مجموعة قصصية قصيرة جدًا سنة 1938 وسمتها (انفعالات) فها أنا أترسم الصيغة وأقدم انفعالات أخرى أو مرايا، فإن صحبتموني أدع لكم:
قراءة ممتعة !”
ختمت الكتاب بشهادات نقدية هي مبعث فخر لي، كتبها كمال العيادي، أديب كمال الدين، بريهان قمق، وصبري يوسف.
بعد صدور الكتاب لم تواتني أية فكرة لقصة أو لقصة قصيرة جدًا، ولعلني عوضت عن ذلك بدراسة عن “القصة القصيرة جدًا وإلى أي مدى هي قصيدة نثر” ألقيتها في مؤتمر جامعة اليرموك النقدي حول تداخل الأنواع الأدبية.
وفي كلمة الناقد أنطوان شلحت عن القصة المحلية وتحدّيات ماثلة أمامها جاء:
(*) يمكن تقسيم التحديات التي تواجه القصة المحلية في الزمان الراهن إلى صنفين:
– أولاً، تحديات ناجمة عن عوامل تحت وطأة “الواقع القائم” والمتغيرات الاجتماعية- الاقتصادية ولا سيما المرتبطة بالعلاقة بين المبدع والمتلقي والتي تُحيل بطبيعة الحال إلى موضوع الاتصالات والإعلام في العصر الحديث؛
– ثانيًا، تحديات ذاتية ناجمة بشكل رئيس عن أداء الكاتب.
ولا شك في أن أنها تحديات متداخلة ببعضها البعض كما سيتبين من هذه المقاربة.
1) إن أول تحد نصادفه هو ما يمكن تسميته تحدّي النشر، وذلك نظرًا لما شكله من الناحية التاريخية من عامل مهم في ظهور هذا الجانر الأدبي حتى وفق اعترافات عدد من كتاب القصة القصيرة العرب وخصوصًا في مصر، والتي (الاعترافات) تكاد تجمع على أن القصة القصيرة في مراحل ظهورها الأولى كانت ابنة الصحافة الأدبية، حيث أنها ازدهرت على حدّ قول الكاتب بهاء طاهر بسبب رعاية الصحافة لها ما جعل هذا الفن ينمو بين القراء نظرًا إلى وجود قاعدة ضخمة من القراء تحظى بها الصحف الشعبية، وهذا الأمر سبق أن أكده يحيى حقي أيضًا.
بكلمات أخرى فإن طريقة نشر القصة القصيرة المستوعبة للموضوع في الصحف، والتي بدورها فضلت نشرها على نشر قصة مطولة أو على نشر روايات على حلقات، كانت سبيلها إلى الانتشار بين المتلقين، في وقت كانت فيه روح المرحلة أو العصر مرتبطة بالصحف أكثر من ارتباطها بالكتاب المطبوع.
وإذا ما انتقلنا بقفزة سريعة إلى مرحلتنا الراهنة فإن روح العصر فيها تبدو مرتبطة في هذا الشأن، أكثر من أي شيء آخر، بالشبكة العنكبوتية وبشبكات الاتصال الاجتماعية.
وما يجب أن نلاحظه هو أن هذا الانتقال تأدّى عنه سقوط ما يمكن اعتباره “دور الوسيط” الذي يتمثل في المحرّر والذي يعتبر برأيي دورًا مهمًا للغاية (علمًا بأن “مؤسسة التحرير” لا تحظى عمومًا بدور كبير في سياق الكتابة الأدبية العربية).
وتقدّم مواقع هذه الشبكات فرصًا مغرية للكتاب المحترفين الذين يرون ضرورة عدم تجنبها (مثلاً الكاتب البرتغالي المنوبـل خوسيه ساراماغو خاض هذه التجربة وأنشأ مدونة. وفي أحد آخر حواراته قال إنه بدأ بمقاومة الفكرة، لكن إلحاح زوجته “انتهى إلى إقناعي. وأنشأنا مؤسسة برئاستها، وبما أن هذا يبدو أساسيا مع مرور الوقت، فقد افتتحنا موقعا على الإنترنت. وطوال سنة كتبت فيه بشكل شبه يومي من دون انضباط، ولا أظن أني سأعود إلى ذلك. لكن لا أحد يعلم، فمن الحذر الرهان على المستقبل”).
وبالقدر نفسه فإن هذه الشبكات تقدّم الفرص نفسها لغير المحترفين أو للكتاب الهواة (وإذا ما عدنا إلى ساراماغو فإنه يحذر من مضار الإنترنت في المجال الفكري والثقافي مؤكدا أن التقدم كان دائما في وجهين، وجه نافع ووجه ضار. ولتوضيح هذا الرأي يضرب مثلا بالقطار: إن كان القطار ينقل سلعا ضرورية لحياتنا أو يحملنا إلى أماكن إقامتنا فهو نافع، أما إن كان ينقل الآليات الحربية ويحمل الأبرياء للزج بهم في السجون وأماكن التعذيب فهو ضار، وذلك هو حال قطار الإنترنت. ويلح ساراماغو على أنه لا يجوز أبدا للعقل أن يتناعس في هذه الظروف حتى نتمكن من التمييز بين الضار والنافع في هذه الشبكة الجهنمية).
2) إن تحدي النشر يستجرّ تحدي النقد، والذي يطرح مبلغ التفات النُقاد إلى القصة القصيرة، آخذين بالاعتبار وجود أزمة نقد لدينا، وأن ما يكتب عنها في الآونة الأخيرة يكاد يكون منحصرًا في الأبحاث الأكاديمية، التي يقوم فيصل بينها وبين النقد. فضلاً عن أن تحدّي النقد ينطوي على تحد آخر هو تحدي التفات النقاد إلى تحولات العلاقة الجدلية بين عنصر القصّ وبين تكنيك كتابة القصة بما في ذلك لغة الكتابة ومداليلها، وبينه وبين تكنيك التكثيف (مثلاً في جانر القصة القصيرة جدًا) كما تتبدى في تجارب الأجيال المتعددة. وكل ذلك في موازاة الالتفات إلى انعكاس الذات أو الأنا الساردة، وحركة التماشي مع الواقع أو التصادم معه، ومستويات أخرى من الكتابة القصصية، كالتناص والتخييل والغرائبية وما إلى ذلك.
3) تحدّي التجريب: أول ما يستدعيه الحديث على هذا التحدّي هو مواجهة فوضى التجريب. فلئن كان معنى التجريب يحيل إلى هاجس القطع أو القطيعة مع المراحل السابقة أو مع تجارب متراكمـة، سواء إلى ناحية التضاد معها أو تجاوزها، فإن ذلك يجب ألا يعني بأي حال من الأحوال القفز عن وجود معيارية لكتابة الفن القصصي على تعدّد أشكاله. في الوقت نفسه لا يكفي أن ينسب الكاتب نصّه إلى التجريب حتى يصبح مؤهلاً للتمتع بهذه الصفة.
4) تحدي الكتابة في التابوهات (يبدو أن التابوهات ما زالت مشتقة من الثالوث المحرّم الذي صكّه المفكر السوري بو علي ياسين والمؤلف من الدين والجنس والسياسة) وما يستلزمه من ضرورة أن تكون هذه الكتابة تخدم النص ومقتضيات القص وليست مقحمة عليه.
5) تحدّي ارتباط القصة بالرواية، حيث نشهد أن أغلب كتاب القصة القصيرة يكتبونها كجسر عبور لكتابة الرواية، بينما يعتبر الناقد المغربي سعيد يقطين أن القصة هي وقود الرواية ودعامتها الرئيسة، وأنه لا يمكن أن تتطوّر الرواية من دون تطوّر القصة القصيرة في حين أن العكس لا يستقيم.
6) تحدّي التحزّب: برأيي لا يمكن التحزّب لشكل دون سواه، فما كان يستقيم في السابق لم يعد كذلك الآن. ويبقى السؤال: ما الذي سيفرض نفسه في نهاية المطاف؟ ذلك بأننا نعيش في مرحلة انتقالية ولم تتضح ملامح ما ستؤول إليه. ولا يظل للنقاد سوى شكوى صادقة فحواها ما يلي: إن الواقع الراهن في مجال الكتابة هو واقع جديد مفارق تمامًا لما كان عليه من قبل، نتيجة أشياء كثيرة في مقدمها ما طرأ من مستجدات على دنيا الاتصال الحديث. وفي ظل هذا الواقع نستعيد القول المأثور بأن كثافة الشجر تحجب الغابة كي نشكو من أن كثرة النصوص ربما تحجب الأدب، وتغدو عملية العثور على الأدب من طرف الناقد أقرب إلى عملية التعثر به من قبيل المصادفة.
هل أقول هذا الكلام لإدانة نصوص بعينها، أم لإدانة الناقد، أم لإدانة كليهما معًا؟ لا أعرف.
أما الناقد الكتابة د. محمد حمد في مرآة نفسها في القصة المحليّة
الكتابة، هذا المداد من السواد على البياض، عالم نصيّ يتشكل ذهنيّا وانفعاليّا وماديّا ودلاليّا، لدى كاتبه وقارئه وناقده، في موضوعات عديدة، يتركب منها الواقع خارج النصّ. تستحضر الكتابة الواقع الخارجي، ليصبح واقع النص، وعندما تقصي الكتابة كل موضوعاتها باستثائها، فهي تضع لنفسها مرآة تنظر من خلالها إلى نفسها، ترى صورتها، ملامحها، مركباتها، ألوانها، شخصياتها وأبطال نصوصها، ترى كاتبها وقارئها والرقيب عليها، ترى كل ما يتعلق بها. إنه عالم الكاتب وهواجسه ورؤيته للعمل الأدبي ولحركة النقد، يخرجها نصيّا سوادا على البياض.
تعني الكتابة في مرآة نفسها حالة من الوعي الذاتي لها كمهنة يمتهنها الكاتب، تجعل من الكتابة والقص ومواضعات التعبير موضوعًا لها داخل العمل القصصي. هي كتابة نقدية في سياق قصصي، تجعل النقد والقص في علاقة حوارية، تعكس إشكاليات العلاقة بين الكاتب وعمله، وبين الأدب والواقع، وتشير إلى خلط الأدوار بين سلطة الكاتب وسلطة الناقد، في عصر ما بعد الحداثة، وقد أصبحت الألوان الأدبية متداخلة فيما بينها، وأضحت القراءات التأويلية للعمل مشروعًا اجتهاديًا، ألغى قصدية الكاتب، وجعل النص في مصاف القداسة، وأصبح فعل الكتابة بعيدا عن فعل القراءة.
عندما يلجأ الكاتب إلى هذا الانعكاس الذاتي في أعماله القصصية، فإنه يسعى جاهدًا إلى لفت انتباه القارئ إلى كونه كاتبًا، من خلال الحديث عن الكتابة وأدواتها، وعن سيرورتها ومضامينها، وعن أجناسها الأدبية وخصائصها الفنية، وعن أدباء ونقاد ومؤلفات، وعن علاقته بالواقع، وبأبطال قصصه.
إن هذا التوجه ميتاقصّي في أعرافه النقدية، ويكرس مسعاه الدائب حول أزمة الكتابة كحالة من الحضور ضد عبثية الغياب داخل النصّ، إنّه كتابة عن الكتابة، وانعكاس ذاتي يطمح لأن يكون سردا نرجسيا يعي نرجسيته، ويحاول أن يتيح الفرصة أمام الكاتب لتقمص دور الناقد لنصه، دون أن يلغي حبكته القصصية ولا منطق التتابع فيها، بل يحاول جاهدًا جعل هذه الحبكة تستمد ثيماتها وأحداثها من عوالم الميتاأدب، ونرى شخصية الكاتب تتوحد مع شخصية الراوي، وتشهد ولادة الشخصيات المختلقة، وتعترف بورقيتها، بل وتخاطب القارئ تصريحا بأن ما يقرؤه هو نص متخيل، لا يعني بالضرورة أن يكون صورة عن الواقع.
يحاول الكاتب الميتاقصي أن ينزاح بهذه الملامح عن الواقع، لا من أجل إلغائه، ولا من أجل قطع الصلة معه، وإنما من أجل لفت الانتباه إلى إشكاليات هذا الواقع وإلى أزمة الكتابة.
إن وجود شخص الناقد جنبا إلى جنب مع شخص الكاتب داخل نصه القصصي، يصرح بحرص الأخير على مفهوم الالتزام، ورغبته ألا يبالغ القارئ في فهم قصديته، وبالتالي يسعى دوره النقدي إلى توجيه القارئ عند عملية التأويل، إلى قراءة عينية هي رسالته التي يتضمنها نتاجه الأدبي.
يمكن تقسيم تعامل الأدب المحلي مع موضوعة الكتابة الواعية لذاتها لثلاث مراحل:
المرحلة الأولى تعاملت مع الموضوعة بصورة عفوية وغير مباشرة، كما يظهر في كتابات إميل حبيبي ومحمد نفاع وبعض كتابات محمد علي طه، وفي المرحلة الثانية تم التعامل مع الموضوع بشكل واع، لكن بمحدودية مثل سهيل كيوان ومحمد علي طه ورجاء بكرية، حيث هنالك توجه مباشر للكتابة كموضوع، بحيث يلحظ القارئ تخصيص مساحة من القصة أو الرواية لهذه الموضوعة، والمرحلة الثالثة كان التعامل مع الظاهرة واعيا وشاملا بحيث اعتبر العمل الأدبي كله من الغلاف إلى الغلاف تمثيلا للكتابة الواعية لذاتها، كما يظهر في بعض أعمال سهيل كيوان وراوية بربارة.
بالنسبة للمرحلة الأولى: لقد كان المرحوم إميل حبيبي سباقا في المتشائل وسرايا بنت الغول إلى محاورة النصوص ومخاطبة القارئ والتحدث عن أبطال شخصياته، من خلال المتن الروائي، ومن خلال الملاحظات الهامشية، بحيث جعلت هذه التقنيات موضوع الكتابة حاضرًا داخل النص، ومحورا دلاليا يعطي للكاتب دوره النقدي، كأول ناقد لنصه، بحيث يدوّن هذه الملاحظات النقدية قصاصات مبعثرة هنا وهناك، تاركا القارئ المتبصر يقوم بدور تجميعها، وتشكيل دلالتها الخفية.
محمد نفاع: ودية (1978)، ص44.
دافعتها فتدافعت مشي القطاة إلى الغدير/ ولثمتها فتنفست كتنفس الظبي الغرير
المنخل اليشكري
لم أفطن بالبيت الأول لأن اليوم ليس مطيرا، ولم أكمل لأن الفتاة لا ترفل بالدمقس والحرير.
سألت صديقي “بولس” من قبرص مرة عن “اولغا” المرافقة والمترجمة والتي أرادت أن تترجم “وراء كل رجل عظيم امرأة” فقالت: “في مؤخرة كلّ رجل عظيم امرأة”.
بالنسبة للمرحلة الثانية هنالك تعامل محدود مع الظاهرة، هذا التعامل واع ومباشر ويسمي المسميّات بأسمائها، بحيث نقرأ السياق النقدي والكلمات والتعابير التي تحيل إلى الكتابة بشكل واع:
سهيل كيوان: سهيل كيوان. عصيّ الدمع. مؤسسة الأسوار، عكا، 1997، ص50.
في رواية “عصي الدمع” لسهيل كيوان يتحدث الراوي عن إيقاف كتابة الرواية بسبب ثقل الحدث المروي، وإعادة صياغته من جديد. فيروي عن امرأة حاولت حماية ابنها من جنود الاحتلال، فألبسته فسطانًا وكحلته بعد أن قتلوا ذكور القرية، فاكتشف أمرها فقام الجندي بقطع خصيتي الطفل. بعدها يقول الراوي:
“بعد أن تمت كتابة هذا المقطع الفاجع، وكما حكته حرفيا امرأة نجت من هذه المجزرة من منطقة القدس، أحسست أنه دموي أكثر مما يحتمل ضميري ككاتب، وكما يقال فإن مهمة الكاتب جعل الحياة أكثر جمالاً واحتمالاً فارتأيت أن أخفف من حدة الجريمة، وكذلك أن أجعل عنصر الخير مقابل عنصر الشر بين الجنود الذين احتلوا القرية كما يفترض في الطبيعة البشرية، فعدلت القطعة على النحو التالي…” . ويقوم بتعديل النص.
محمد علي طه: العسل البري (1995)، ص30
في قصة “قوس قزح” استهلال نقدي بالحديث عن القصة وكتابتها وربطها مع تشيخوف. فالراوي يخاطب القارئ حاثا إياه ألا يصدق أن القصة كذبة كما يقول تشيخوف ” القصة كذبة متفق عليها ضمنيا بين القاص والقارئ”
يحاول الراوي إقناع القارئ بتصديق أحداث المروي وإقرار واقعيته المبنية على الصدق، ولهذا يتابع في نفس القصة مقولة لتشيخوف تناقض مقولته السابقة قائلا: “إن ما اكتبه قصة لكن ليس كذبة لأن القصة بإعتراف القاصي والداني فن رفيع والمرحوم تشيخوف يقول إن الفن لا يطيق الكذب فكل واحد منا يستطيع أن يكذب في السياسة وفي التجارة وفي الطب وحتى في الحب وأن يخدع الناس، متى أراد، فهذه أمور معروفة ولكن لا يستطيع أن يلجأ إلى الخداع والكذب في الفن” .
“… أقضي ساعات من الليل وأنا أبحث عن الجملة الأولى وفي لحظة اللقاء أو لحظة الاكتشاف أرتّب الكلمات والجمل وعندما أنهض في الصباح وأهمّ بالكتابة لا أنجح. أحيانا أكتب جملة أو جملتين، سطرا أو سطرين أو خمسة أسطر. وفي إحدى المرات كتبت ورقتين ثم نضب الكلام وشعرت بإرهاق فوضعت قلمي على الطاولة ومزّقت ما كتبته. شكوت حالي لصديقي إبراهيم وهو ناقد مرموق وذوّاقة للقصة فلامني على تمزيق الأوراق وطلب مني أن أحتفظ بمسوّدات كل قصة أكتبها فوعدته بذلك، ولم أف بوعدي، … وقد فكرت للحظات أن أسمي هذه القصة بـ “وقائع اللقاء المثير مع الشاب الغرير” ثم تراجعت لأن الاسم يذكّرني بأسماء المؤلفات في العصر التركي ويتنافى مع الحداثة والعولمة”.
رجاء بكرية: “أشواق نازحة” الصندوقة (2002)، ص93.
تتعامل بكرية مع الكتابة كمساحة نفسية دون أن تعنيها أسماءها وأطرها النوعية، فمجموعتها الأولى مزامير أيلول لا تندرج تحت لون أدبي معين وروايتها امرأة الرسالة تجمع فيها بين الرواية والرسالة كجنسين أدبيين، وإن لم يظهر ذلك على مستوى الكتابة الواعية لذاتها بشكل مباشر، وكتاباتها تحضر فيها جمالية اللغة، بحيث تحيل اللغة إلى نفسها، وتضع نفسها موضوعًا داخل النص، وأحيانا تتعامل مع جزئيات اللغة فتفرزها على شكل كتابة واعية لذاتها:
كأنك لا تفهم أشواقي يا سيد الأشواق للسعات سجائرك في هذه اللحظة. كأنّك وكأنّك، ترى هل تعرف هذه الكأنّ أنّها حرف متشبه بالأفعال وعاجز عن تكملة فعله إذا ما قرّر أن يفعل؟ أعترف لنفسي بأنّ تشبهها الدائم يجعلني أكنّ لها عداوة حقيقية وأنا معك؟ سرًّا أشاكسها حين تستدير رأسك، نحو البحر”.
في المرحلة الثالثة نماذج ميتاقصية متكاملة تظهر فيها الكتابة في مرآة نفسها موضوعا رئيسيا في النص، بل هو حبكة القصة ومجمل أحداثها، وفيه يتجلى وعي الكاتب بما يكتب، وفكرته عن نفسه، وردود فعل القراء لما يكتب، وفي اعتقادي أن هذا التيار سيقوى ويصبح ظاهرة لافتة للانتباه في السنوات القادمة.
راوية بربارة: علاقة سرّيّة. من مشيئة جسد (2008)، ص59-60.
كمنت له خلف ستائر الأرق تتلصّص بعينٍ ثاقبةٍ، فوجدته يضمّ كومة كتبٍ، يشمّها يلامسها يراقصها يدور بها بحركاتٍ لولبيّة متصاعدةٍ، يحضنها ويقبّلها… كادت تشهق خلف الستارة من نوبة الحبّ النرجسيّة التي تعتلي جنونه.. وبّختْهُ، فحنق من جهلها ومن عاديّتها ومن غيرتها غير المفهومة. كادت تأذن لنفسها أن تقترب من مساحاته المحظورة وأن ترفّ بطرفها نحو علاقاته السرّية…
“متعجرفة، لا تعي كنه العلاقة بين الجسد والكلمات المولودة، فبطنها لم تلد الا الأجساد”!
يمارس طقوس العشق والغرام مع كلماته أمامها، غير آبهٍ بمشاعرها.. فتصرخ في وجهه:
– كيف لو تتحوّل الكلمات الفاتنات إلى كلام ذكوريّ أمارس معه الخيانة؟؟
– أنّى لجسد من لحمٍ أن يلدَ الحروفَ؟ خاصة إذا كان ضلعًا مقتطعًا من جسدٍ يعجُّ بأصل الحياةِ؟؟
– بتفاحة حروفنا نخرجك من جنّة الكلام كما أخرجناك من الجنان. (تجيبه غير مكترثة)
نظر إليها نظرةً ثعبانيّةً… تحسّس تفاحة آدم التي تتعالى وتهبط مع كل لفظة… تحسّس أوراق التين وتركها متأفّفًا.
سهيل كيوان: تحت سطح الحبر (2005)، ص17-20.
“عندما لا تتفق روح النص مع ذائقة الوالد فإنّ ملاحظته تكون شوك صبار في بؤبؤ العين “دعك من هذا! إنه لا يليق بك”. هناك أرض حرام ممنوع لقلم الفتى أن يطأها”! يحتال على المفردات، يحفها، يطهّرها من كل رجس”.
“… حتى تلك النصوص التي حسب أن شفرتها عصية على ربة بيت تتقن صنع الكبة وشيخ المحشي ومربى الباذنجان/ صارت تدهشه وهي تعلن ببساطة” هذا ألهمتك به فلانة لا تحاول الإنكار” بقعة أحمر شفاه على سترته الداخلية جعلت منها ناقدة مرهفة الحس”.
“استراحت عينا الرقيب الأول، وتعبت أم عياله من جدوى الرقابة، لكنها أنجبت له رقباء جدد، بناته اللواتي في غفلة منه يقرأنه”
إجمال
يلتفت الأدب المحلي عبر مراحل مختلفة إلى ظاهرة الكتابة في مرآة نفسها، بحيث تصبح هذه الكتابة واعية لذاتها، وموضوعا داخل النص الأدبي. تشهد السنوات الأخيرة ظهور نماذج متكاملة، جميعها في مجال القصة، لكن ننوه أن نماذج روائية ميتاقصية كاملة قد ظهرت في العالم العربي في السنوات الأخيرة.
أما الناقد حسين حمزة فتحدث عن تحوّلات الخطاب في القصة المحليّة، قصة التسعينات وما بعدها:
بداية، أعترف بإشكاليّة تعريف “الخطاب” الموظّف في العنوان. تنبع هذه الإشكاليّة من تعدد مشارب هذا المصطلح بين مناهج النقد المختلفة. إلا أنني سأوظفه في سياقنا هذا ليدل على المستوى التعبيري أساسا إضافة إلى المستوى المضموني.
تأسيسا على ذلك، سأتطرق باقتضاب إلى الملامح العامة التي أسهمت في تحوّل الخطاب في قصتنا المحلية. هذا التحول أراه طبيعيا ينبثق من إيقاع الظروف المتغيرة، والحساسيات الجديدة التي رافقت تطوّرَ القصة عامة. وللملاحظة ذكر الأمثلة من باب التوصيف لا المفاضلة.
1 – عتبات النص
من المعروف أن النص كمتن لم يعد الطرفَ الوحيدَ الذي ينتج دلالة النص العامة. ينضاف إلى ذلك النص الموازي: العنوان، الهوامش، الغلاف وغيره.
وإذا التفتنا إلى العنوان وجدنا أن معظم عناوين القصة القصيرة حتى منتصف الثمانينات عناوين شفافة أو مطابقة، بمعنى أنها تصرح ولا تلمح عن رسالتها أو مضمونها، على سبيل المثال مجموعة الكاتب محمد علي طه “عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر”، ولن أتحدّث في هذا السياق لضيقه عن وظائف العنوان وبنيته، وإسهامه في تشكيل معمار القصة القصيرة. أما العناوين المفارقة فهي قليلة. (وقد يكون رمزيا رومانسيا).
نلاحظ كذلك أن العنوان في قصة التسعينات وما بعدها هو عنوان مراوغ تتفلّت دلالته مثل “تحت سطح البحر”2005 لسهيل كيوان، خطيئة النرجس،2010 لراوية بربارة. الأطرش والخريف2008 لأحمد سليمان. أما مجموعة “العسل البري” للكاتب محمد علي طه 2007، فهو شفاف في دلالته يصرح عنها في القصة التي تحمل الاسم نفسه.
أمّا إذا نظرنا إلى العناوين الفرعيّة نجدها كذلك ذاتيّة بعيدة في معظمها عن الموتيفات الأساسية التي نضحت بها القصة المحليّة من العلاقة بالأرض، العلاقة بالآخر وطرق المواضيع الاجتماعية، وخصوصًا التابوهات منها. أقول إن الأساس في افتراضنا هذا هو ما كانت عليه قصتنا المحلية تحت تأثير تيارين أساسين فيها: التيار الشيوعي والتيار المحايد مجازا. حتى أننا نجد الكاتب سهيل كيوان يوظف العنوان “ترانسفير” ذات الدلالة السياسية بشكل إيروني في مجموعته “تحت سطح البحر”؛ إذ ينهض محور الصراع في القصة بين رب البيت وبين القطة كنفوشة التي توشك أن تضع صغارها في بيته.
يمكن القولُ بشيء من التوسع إن العنوان بات يعكس الذاتيّة التي تصف علاقة الراوي بالواقع من حيث هي جدلية جوانيّة لا تطغى عليها ثيمات القص.
1- شعريّة الجسد
لم يعد الجسد في القصة المحلية مقتصرًا على ثنائية التقديس والتدنيس؛ أقصد بالتدنيس العلاقاتِ التي رصدتها القصةُ المحلية، وتعاطفت في بعضها مع هذا الخروج على التابوهات، إلا أن خطاب القصة بشكل عام بقي رهينةً لمظلّة العادات والتقاليد. نجد ذلك لدى بطل قصة العسل البري لمحمد علي طه الذي يعيش حالةً من تأنيب الضمير بسبب إغواء جارته هالة له. أما التقديس فيتمثّل في موت الشهيد أو العامل الكادح الذي خرج ليعمل فعاد جثة هامدة. لا نجد هذا الصراع الأخلاقي بمعناه آنفا في قصة “حميمية” لراجي بطحيش في مجموعته “غرفة في تل أبيب” 2006، فهديل بطلة القصة تواعد عشيقها إفرايم في إحدى غرف فنادق تل أبيب، ويتناقشان ويتصادمان على خلفية الحرب الثانية على لبنان. وإشكالية الهوية في هذه القصة تصبح منبتة عن قضية الجسد، ويتخلخل مفهوم المثل الشعبي “الأرض مثل العرض”.
قد يتخذ كسر التابو معنى رمزيا آخر في قصة علاء حليحل “تراب الولي الطاهر” في مجموعة “قصص لأوقات الحاجة” 2003. إذ يقبل فتاته القبلة الأولى في المزار المقدّس.
نجد رجاء بكرية في الصندوقة أكثر جرأة في تصوير الجسد، ويصبح سرد تفاصيله في لحظة ضعفه أو انتشائه نصلا يقف على حدود الاستعارة الشفافة، بينما نجده أقل عنفوانا عند بربارة فتقول في “نون النسوة وفوهة الاعتراف”:”يريدوننا مرفّهات.. معطّرات نبعث النشوة في قلوبهم.. […] إذا ما ارتقينا.. بحثوا لهم عن ضحية جديدة يتملّكونها ويقارنون آنية سذاجتها بحكمتنا القاتلة.. متعامين عن وهج الحقيقة بأن اللبؤة هي التي تصطاد الغزلان للأسود الرابضة في آجامها، فلا يتذوق رجل إلا من فتك أنثاه” ص87.
إن طرح ثيمة الجسد في القصص الجديدة تواكب التيار النِّسْوي في مسعاه التحرريّ، فينأى الجسد عن تملّك للرجل، ويكفّ عن كونه غرضًا يقايَض به في زواج البدل؛ وهو من الثيمات الأساسية في قصة الستينات. يصبح الجسد وسيلة تحد لسلطة الرجل وتقزيما لانفصامية شخصيته الشرقية. وفي اعتقادي أن تهافت الأدب النسائي على طرح قضية الجسد في القصة والرواية منذ التسعينات في الأدب العربي عامة هو في بعضٍ منه آلية تسويق لا أكثر، ومرة أخرى تقع المرأة في شراك الفكر الذكوري، وهو في بعضه الآخر تعبير عن امتلاك الإرادة بمكانية الجسد ليكون جسرا لتحرر فكر المرأة في الفضاء الأعم والأشمل.
2- المكان
المكان في القصة المحلية عند أعلامنا مثل إميل حبيبي، محمد عي طه، ومحمد نفاع مصطفى مرار، وزكي درويش هو المعادل الموضوعيّ للوجود الفلسطيني، ولثبات الهويّة. فهو رمز الأم، وموضع الصراع، والاسم الذي تشوهه حركة التاريخ. من هذا المنطلق اعتنت القصة بأسطرة المكان وتوثيق جغرافيّته، والمكان الذاتيّ هو المكان الجمعيّ، والألفة التي تحدث عنها باشلار تكتسب بعدا وجوديا. يصف محمد علي طه البيت الفلسطيني في النخلة المائلة:”كان عندنا بيت كبير واسع وليس مثلَ علب هذه الأيام. كان للبيت ثلاثُ قناطرَ وأمامَه فِناءٌ واسع محاط بسور مبنيٍّ من الحجارة، وللفناء بوابة خشبية كبيرة في وسطها خوخة. وفي داخل الفناء بئر ماء تجمع مطر الشتاء الذي يسقط على سقف البيت. وإذا تخطيت فناء الدار تصل إلى باب البيت الخشبي المعمول من خشب السندين الثقيل…”.
لكنّ المكان عند أحمد سليمان في “الأطرش والخريف” يوظفه ديكورا في تأثيث النص. يصف سليمان في قصته الطابق السابع بيته:”جميلة شقتي الحالية. بل هي جميلة جدا.. غرفتان ومطبخ. ربما كانت صغيرة، لكنها “منمنمة” كما يحلو لي أن أسميها. غرفة للضيوف واسعة بنافذتين شمالية وغربية. الأولى تطل على الشارع، شارع هادىء اصطفت على جانبيه أشجار يانعة مزهرة. والأخرى تطلّ على.. أو كان من المفروض أن تطل على البحر” ص100.
ومن الملاحظ أن المكان عند طه مقرون بحركة التاريخ الجماعي لا ينفصل عنها، بينما نجد الحيّز عند بطحيش معومًّا، ولم يعد المكان محورَ الصراع بل ملء هذا المكان بهويّة فلسطينيّة ما هو الأساس. إن إزاحة الحيز المكاني عند بطحيش لا يعكس حالة الاغتراب فقط بل يحاول في رأينا استعادتَه على مستوى الوعي.
3- إزاحة المركز وإحلال الهامش
أقصد بذلك اهتمام الكتاب بالهامش اليومي بعيدا عن الآيدولوجي، وإن وجد فهو متوارٍ خلف الأحداث بمعنى آخر لم يعد الهمّ الجماعي هو المركز بل أصبح ما تعانيه الذات هو الأساس، أي إذا كانت هموم الفرد الذاتية في قصة الستينات هي هموم جماعية بامتياز تنهض وَفقًا لمنظومة الحدث والتعليق عليه في كثير من القصص، فإن الهم الذاتي الذي قد يحمل ظلال الهمّ الجماعيّ هو الذي يسيطر على قصص التسعينات إلى يومنا وخصوصا عند الجيل الرابع أمثال سهيل كيوان والجيل الخامس أمثال راجي بطحيش وعلاء حليحل.
قد تكون قصة “خيانة” لعلاء حليحل؛ وهي قصة الفتى الذي يذهب مع أصدقائه للعمل في الكيبوتس المجاور، فيغرر بهم صاحب العمل بعد أن سلخوا نهارهم في العمل، وبعد أن خرقوا اتفاقهم مع بعضهم العمل سوية؛ إذ ضحوا بأحد أصدقائهم، وبعد أن أخلف صاحب العمل وعده ولم يعطهم الأجر شعروا بالخيانة من قبله، وعندها شعر الراوي بخيانة صديقه. أما في قصة “الثمن” لحنا إبراهيم فإن البطل طلال يضطر للعمل كي يعيد ما صرفه من مال على أهواء نفسه إلى أبيه فيضطر أن يقبل عرض معلمه اليهودي، الذي غرر به باشًّا في وجهه على غير عادته لإصلاح الرافعة المتعطلة حتى لا يخسر أكثر فيضاعف المبلغ لطلال ليقبل تحت ظروف العوز ومن ثم ليسقط ميتا. وبعدها يهجم الأب على مدير العمل قاتلا إياه ثم يموت في حادث طرق. ومن الواضح أن حنا إبراهيم يجنّد الحدث بكليته ليبين الظلم اللاحق بالعمال، فيجعل الموت مصير أبطاله ليضفي دراميّة على الحدث، بينما يتغير السرد عند حليحل ليصبح من باب الحنين الطفولي. ومن باب الالتفات الحداثيّ لذاتية الإنسان. هذا الطرح له صلة بتغيّر مفهوم البطل؛ فإذا اعتمدت قصتنا المحلية على الصراع بين ضدين رئيسيين: العامل وصاحب العمل، أهل القرية والمختار، الشعب والسلطة، فإن القصص الجديدة تجعل البطل مغايرا لما ألفته القصة المحلية؛ وقد يصبح الحذاء أحد الأبطال كما في قصة “لكل حذاء مقام” لسهيل كيوان، وقد تصبح أنا الساردة المتجسدة لغةً هي البطل كما نراه في نصوص عديدة لرجاء بكريّة.
4- مظلّة التناص
التناص باعتباره اشتباكا بين نص غائب ونص حاضر وتناسلا لفكرة النص الأنموذج”النص ابن النص” نجده عند محمد علي طه ومحمد نفاع ركيزة أساسية في الاتكاء على العبارة والمثل الشعبي ولهذا الاتكاء وظيفة في تجذير الهوية والتاريخ. إنّه إعلان موقف من التراث والماضي. ونلاحظ في كثير من القصص عند طه ونفاع التناص الشعبي الذي أعتبره بصمة أدبنا الفلسطيني. بينما نجد هذا التناص قليلا أو لا يمكن اعتباره محورا أساسيا في القصة الجديدة بل يكاد لا يتجاوز إسهامُه تلوينَ الحدث أو الموقف أو اللغة. بمعنى آخر لا يتعدى التناص الإحالة اللغوية، ونلاحظ كذلك الاحتفاء باللغة، أو اللغة من أجل اللغة، كجزء من آليات العبر نوعية، وقد يكون ذلك آليةَ تعويض عند الكاتب بعد أن همّش الحدث وأصبح سرد الذات بشكل واعٍ مسيطرا على خيط السرد. فنلاحظ أن تقنية تسريع السرد حاضرة في قصتنا ذات البناء التقليدي، بينما نلاحظ تقنيّة إبطاء السرد والالتفات إلى الجوانيّ ميزة في القصة الجديدة. يؤكد هذه الجوانيّة أيضا قلة توظيف المروي له في القصة وهو علامة أساسية في قصص إميل حبيبي ونفاع وقد حمل دلالة إشراك القارىء في كشف أو تقديم الأحداث.
يقول محمد نفاع في قصته التفاحة النهرية في مجموعته التي تحمل الاسم نفسه 2011:” تقول الحكاية أن العابد إبراهيم بنَ أدهم رضي الله عنه وجد تفاحة ساقطة على وجه الماء في النهر، والنهر في العراق، والتفاحة تسبح وتتهادى قبالة الشمس، وهو جائع، هفت نفسُه وأكلها ثم استدرك وقال: هل يحق لي أكل التفاحة؟! سأل عن صاحب البستان فقالوا له هو في بغداد، فمشى إلى بغداد، فقال له البغدادي أنا وكيل وصاحب البستان في بلاد الشام، مشى إلى بلاد الشام وسأل صاحب البستان أن يسامحه، لكن الرجل قال: لا أسامحك حتى تجلب لي جوهرة بحجم حبة الجوز هذه. فراح الراهب يعمل بأجرة، طلب منه أحدهم إزاحة كوم من الرمل فبدأ العمل وبقدرة الباري هبت موجة من الريح ونقلت كومة الرمل إلى المكان المطلوب، وابن أدهم يكسر نعاسه في الظل، جاء الرجل فوجده نائما وأفعى كبيرة في فمها قصفة ريحان كبيرة تنش له الذباب، فلم يوقظه، وفي الليل أفاق العابد فوجد المكان مضاء بالجواهر، كل واحدة أكبر من جوهرة الرجل، فملأ الجربندية ودلقها أمام الرجل الذي طلب منه السماح فقال له: ستتزوّج ابنتي أنا ملك وأنت أغنى مني. رفض العابد هذا الطلب، فكشّرت أنا ولمت سيدنا إبراهيم بن أدهم أشد اللوم على رفض هذه النعمة أن بناتِ الملوك والسلاطين شلبيات” ص15-16، لكن الراوي لم يأكل التفاحة التي قرر وعائلته أكلها ليلة العيد لأنه وضعها منكمشة حمراء إلى جانب خدّ أخيه رفيق الشهيد.
هذه المفارقة بين الحل المثالي التي تجمّله الأسطورة والواقع السوداوي الذي يقطع نهاية القصة بالموت أيضا، يجعل من التوتر القائم في جدلية الذاتي والجمعي جرحا نازفا لأقلية قومية تعاني قليلا أو كثيرا بحسب الموقع أو وهم التوقع.
قد يكون تحوّلُ الخطاب مضمونيا وشكليا أمرا بدهيا في كلّ أدب، بل يجب طرق المواضيع بجماليّات تواكب إيقاع العصر، لكن علينا أن نختار بين تفاحة إبراهيم بن الأدهم أو تفاحة الراوي أو أن نوازن بينهما حتى لا نفقدَ هويتَنا وتتحوّل. وحتى نعبر عن همومنا الذاتية والجماعية بجماليات أدبية.
…
كم أنت رائعة يا آمال العزيزة شعرًا وتوثيقًا. شكرًا، وأعان الله القارئ حتى يقرأ النص كله، فمن أين لك هذا الصبر على الطباعة والتحرير والتصوير؟
كم أحييك!
آمال رضوان لك الشكر والامتنان!
كان مؤتمرًا غنيًّا مثريًّا وجمّ الإفادة، جزى الله القائمين عليه خيرًا، ويعطيك العافية بروفسور فاروق، ولآمال رضوان المبدعة تحيّاتي وامتناني لهذا التوثيق المميّز.