انا هناك حيث أنا
تاريخ النشر: 26/01/12 | 3:38يسعى الانسان لتحقيق ذاته وأحلامه، ترجمتها لواقع يعيشه فيسعد بحياته وبسر مستشعرا الانجاز آملا بانيا مستقبلا مشرقا وغد أفضل، يجد ويجتهد باذلا قصارى جهده مستغلا طاقاته مسخرا قدراته مجندا اياها مكثفا، مثابرا يقترب خطوة فخطوة متدرجا بإرادة قوية خائضا معركة متحديا الصعاب والآلام.
يعقد النية عازما يزأر كالأسد ينقض مكشرا عن أنيابه ناظرا لأعلى المراتب وأرقاها بهامة شامخة وكبرياء، يركض في حقل يملكه ويملك الاختيار فيه، عارفا مدركا وجهته داحضا نظريات المجتمع المحبطة مهملا لها مدركا نفسه قبل فوات الاوان والوقت، لا يستكثر التكاليف منجزا معتمدا على نفسه لا يتــّكل منتظرا مساعدة الاخرين.
مضى وقت الاعتذار وولى عهد التمنيات الضائعة ، والحسرة على فوات الفرصة، متحد لمجتمع يخرج أجيالا لا تتقن إلا الهزيمة واليأس، متوكلا على ربه آخذا بالأسباب، لا تغره الهالات المصطنعة التي تغشي الأبصار ، منطلقا من قيود المجتمع المكبلة وعاداته المتعفنة ، محلقا في سماء صافية واضحة المعالم ، مقصيا الجاهلية وجهل البشر لا يغره هواهم.
قال الشاعر : ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
كـُثر أبناء جيله ، شباب هممهم عالية قدراتهم كبيرة ، إلا انهم ينفقونها في غير موضعها ، فينحرفوا ويجدوا أنفسهم تائهين في واد عميق مخيف مجهولة مركباته غير معلومة نهايته ، ناكسوا رؤوسهم خجلا وخزيا ، فإرادتهم الضعيفة عاجزة حتى مع وجود الوسائل والإمكانيات وتوفرها ، ليضعوا كلمة المستحيل عنوانا لهم ينطقوا بها عند سؤالهم أو يتعذروا بعجزهم وقلة حيلتهم.
يخرج من فقاعة وهمية، يرسم دربه واضعا هدفا نصب عينيه يلائم قدراته لمبتغاه فيقوي نفسه ويدربها مطورا مهارات، يهاجر بعيدا عن المثبطات متجاهلا أقاويل وروايات ينير شمعة وسط الظلام يفكر يرتب أوراقه والناس نيام، ناسفا عراقيل وسط الطريق نصبت لقوقعته مفجرا حواجز هادما معوقات مهما بلغت شدتها صابرا مؤكدا أحقيته بنفسه وعيش حياته كيف يراها هو وليس كمل يريد من حوله مقررين مسلك دربه.
جند ولملم نفسه ، رأى أن السفر حل لواقعه بل استراتيجية مدروسة ، بحث عن مكان يمكنه صقل وتلميع أيامه ووضع لبنات صافات متراصات يقوين بعضهن أساسا متينا يعتمدهن نقطة انطلاق راسخة يقفز عبرها نحو أحلام رسمها مسبقا محققا في غربته نقلة نوعية تساهم ببناء الانسان وتوصله حيث يريد ، وليعود بعدها لمجتمعه كما أراد ويشكل ركيزة ومرجعا داعما للآخرين ناصحا موجها في بيئة لامسته غضا شابا ، ويدخل مفاهيم ومعايير اخرى مقتحما بقوة محدثا تغييرا جماعيا لمن حوله قاطبة.
الغربة لا تعني انقطاعا كليا بل يضع بصمته ولمساته حين يشاء ، ويشارك كل مشروع وخطوة تدر منفعة للبشر وتعزز انسانيتهم ووعيهم ، ادراكهم لحقيقة خلقهم ووجودهم ، يتنفسون هواء ويرون مناظر وإعجازا حتى عند وقوفهم أمام مرآة تعكس صورهم فيتفكرون ويستنتجوا ، ليئدوا دورهم في الحياة على أتم وجه وأكمله فيصطلح المجتمع وينتج مكتفيا ذاتيا ومُصدرا، رافضا وصفه بالمتفوق كمستورد مستهلك فقط.
قال الامام الشافعي رحمه الله :
سأضرب في طول البلاد وعرضها … أنا مرادي أو أموت غريبا
فان تلفت نفسي فلله درها … وإن سلمت كان الرجوع قريبا
بناء الانسان مشروع عظيم ، علينا الاستثمار به وإعادة العزة بالتربية السليمة والتوجيه المستمر والنصح الدائم ، نعزز أبنائنا ونشد عضدهم ، نطلعهم ونكشفهم على الدنيا وكينونتها ، نهيئ لهم ونوفر الظروف والموارد لتقدمهم وليبدعوا ويحفر اسمهم في صفحات التاريخ كأجدادهم ، يجدوا في أهلهم وجيرانهم رحابة صدر وأيد ممدودة مساهمة ، ليترعرعوا بيننا ويبقوا مقوين المجتمع فاتحين الباب أمام أجيال قادمة يسيروا على دربهم ، لنقود العالم بعلمنا وقدراتنا ومبادئنا وأسسنا ، لنقوده بمنهاج حياتنا وأخلاقنا.
ان لم ننمي كوادرنا ونتعامل معهم بجدية محترمين فكرهم ووعيهم تستمر الهجرة وإضاعة الخامات،احباطها ، طمسها ودفنها ، فيغادروا اضطرارا غاضبين ، ليبحثوا عن أرض خصبة تتيح لهم الابداع ، يمكنهم استغلالها للرقي والتقدم والإنتاج ، باحثين مكتشفين منظرين ، في أرض الغربة يعود خيرهم على غيرنا ، ولا يبقى لنا الا الفخر بجذور شخصيات محورية عالميا ولدت هنا بيننا ، وحين يُسأل عن مكانه يقول : أنا هناك ، حيث أنا.
بقلم شادي صدقي أبو مُخ