قليل من تجربة كتابة الشعر *توطئة* / ابراهيم مالك
تاريخ النشر: 29/01/12 | 12:33بعض من تجربتي في كتابة الشعر، والذي آمل أن يصدر في ربيع السنة القادمة.وفيما يلي مقدمة الكتاب وتحمل عنوان:
توطئة *
ابراهيم مالك
الى صديقي نوّاف عبد حسن،
الذي لا أدري لم استعْجَل َ رحيلهُ قبلي.
في صيف سنة 2001 زارني قبل رحيله المبكّر في مكتبي في الناصرة، حيث كنت أعملُ مُحَرِّراً لمجلّة “الفكر الجديد” الأدبية، الصديق والكاتب، طيب الذكر ، نوّاف عبد حسن، من مُصْمص في المثلّث، وتحادثنا في هُموم ِالحياة المعيشية والوجودية الحياتية، وَجَعِنا المشترك، وفي الشؤون الثقافية، التي كانت تهمنا وتشغل با لنا.
أذكرُ ، قرأتُ له في تلك القعدة قصيدة ” قالت “، التي كتبتها متأثرا بقراءاتي في الأدب الصوفيّ العربي، خاصَة ً الحلاّج ومحيي الدين بن عربي، وقد استعرت منهما وخاصة من الحلاّج قولة:
” أنت أنا وأنا انت “.
أنظرلهذه القصيدة – قصيدة قالت – برضى قانع، فلها مَنزلةٌ مُحبّبة ٌفي نفسي. أحبها كثيرا لايقاعها، إيحاءاتها وكونها تعكس بعضا ًمن “فلسفة” حياتي وللصور ( الإستعارات ) التي فيها. وكثيراً ما كنت أقرأها وأردِّدُها في نومي الطويل والقلق في ليالي مرضي الصعبة، فأجد فيها بعض سلواي.
وكنتُ أرى فيها ( أوهكذا أتمنَّى ) بعض اسهامي المتواضع في هذا الشعر الجميل والذي دفعني الى المُساومة بين قناعاتي الفكريّة العلمية، جدلية المنطلق، وفهمي المادي وليس الغيبي للحياة وتجلّياتها من جهة، وعشقي للروحانيات التي ينبض بها ذاك الشعر من جهة أخرى. ولا أظن أن شاعرا يريد التغريد حقا يستطيع الخلو من هذه الاشراقة الروحانية. فالشعر في حقيقته وليد الأسطورة ووليد المتخيل ، الذي ينفذ بالشاعر الى الماوراء أرضي، إلى الميتافيزيقيات، التي تتعارض في جوهرها مع النظرة العلميّة للأشياء والموجودات ومع الرؤية العقلانية المنطقية والمُجرَّدة . خضت صراعا داخليا مع ذاتي، وزاد هذا الصراع كوني مرهف الحس، خاصة بعد المرض وقبله، كما أعرفني، من ناحية وصلب الفكر من ناحية أخرى . انتهى بي هذاالصراع الى ما يُشبه المساومة بين عالمي الشعريِّ، روحاني الفضاءات، وعالمي الفكري الجدلي والأرضي المنطلق. وأحسبني أفلحت ، شعرا، في التعايش بين العالمين. فانا لم أتنكّر لفكري ومسعاي الباحث والمنقّب عن حقائق الحياة وعما يمكن أن يوصل إنسانيتنا المعذبة الى مجتمع يوفر للمغبونين في هذه الحياة عدالة انسانية حقا، ولم أتنكرفي الوقت ذاته لما في الروحانيات من جمال مُتخيَّل يحتاجه الشاعر كحاجته للحب والهواء.
فبين قصيدة ” قالت ” ، في ” نشيد حب لفاطمة ” وقصيدة ” أنا هو النهر ” ( في مجموعتي الشعرية الثالثة – ” عطر فاطمة ” ) ، نجد بجلاء هذه المساومة ، التي قبل بها عقلي “الممزّق” بين عالمين .
أذكر يومها، تناول نواّف القصيدة وقرأها بصمت لوحده، قال بلغته وبفرح المعجب، ما أذكره جيدا وقد حفظت ما عناه في زوايا عقلي، قال:
” أخاف ألاّ تكتمل تجربتك الشعرية “،
وان كشفت تلك القصيدة عن تجربة مُتوقّدة وواعدة ، فقد كان يلاحظ أنني عدتُ إلى كتابة الشعر ونشره في جيل متأخّر نسبيّا . وكنت انقطعت عن كتابة الشعر ونشره منذ بدايات كتاباتي العامة والسياسية منها بشكل خاص .
وافقته القول يومها، فكم يجمل بالشاعر مداومة تطوير شاعريته، كتابة ، قراءة وتجريبا، وكان عزائي الشخصي أنّ أحدا لم تكتمل تجربته، اذا ما نظرنا الى التجربة العامة، فهذه هي الحياة بكل ” عبثيّتها” وقساوتها ، فلا أحد كتب أجمل ما طمح اليه.
فالشعر يتنفّس ويعيش في تجدّده الدائم وفي سعيه المقيم نحو استكمال التجربة والتي ، كما أظنّ، لا ولن تكتمل .
رحل صديق عقلي نوّاف شهورا قليلة بعد مرضي، رحل مبكّرا وكم بكيته يومها ولا أزال. كان واحدا من الكتاب العرب المثقّفين الملتزمين بالكلمة الصادقة حقا المتعمقين ، بسعة ، والحريصين على تطوير معرفتهم ، عرضاً وعمقاً ، المتواضعين انسانيا والمتشبثين بوطنهم . لم يبسم له الحظ ، في ظروف الحياة المعاشة وفي ظروف القهر وسياسات الحصار والتهميش التي يعيشها مثقفون كثيرون من أبناء شعبنا الباقين، كالسنديان والزيتون، ملتصقين بحبات التراب التي حملت بهم، فكان يستلّ رغيف خبزه من العمل الشاق، اذا توفّر، بلاّطا. كان واحدا من مثقفين قلائل، صادفتهم، وكم أفرحني اللقاء به والاستماع اليه، ففي كل مرة لقيته ازددت معرفة وثقافة ووعيا بأشيائنا الحياتية .
في هذه الأثناء كبُرتُ قليلا ، بضع سنين ، واتسعت معرفتي وأفق رؤيتي وادراكي وكبرَتْ قليلا تجربتي الكتابية ، شعرا ونثرا ، ومنحتني الاقامة شبه المقيمة في البيت وفي حاكورتي ، التي استحالت كل عالمي وفضائي الرحب ، الذي يرسم خيالي حدوده المشرعة بلا حدود ، وأطلّ منها على العالم الواسع ، منحتني هذه الإقامة فرصة التأمل ، الكتابة والقراءة النهمة . كتبت الكثير وأصدرت حتّى الآن عشر مجموعات شعرية وخمسة أعمال ، هي في الواقع أعمال تجمع بين النثر والشعر والقص ، وأطمح لو أتمكّن ، ما نبض قلبي حياة وسلم عقلي ، من اصدار أعمال أخرى .
والحقيقة ، لا أدري متى، كيف وأين ستكون نها يتي. وإن كنت أكثر ما أخشاه أن تكون نهايتي فاجعة كذلك الطائر الغرد الجميل، الذي شبِّه لي أني رأيته ساقطا ميتا وملقى مثل خرقة قماش مهملة فوق الأرض المثلجة والموحلة في برلين. كم أشعر أن قصيدة “يحزنني” التي ضمنتها ” قصائد من برلين ” هي فعلا مرثيتي الأخيرة ؟ وكأنني أستعجل وقف التجربة الكتابية والحياتية.
فالى روح صديقي القلقة، كما خبرته وكما أتصورها في عالمها الآخر، أهدي بعض تجربتي المتواضعة، زمنيا ومضمونا. وكم كنت سأكون سعيدا حقا لو أهديته كتبي وهو لا يزال حيا، لأصغي اليه وهو يقرأها بكل جوارحه وعقله الناقد، كما عهدته.
*هذا هو المقال الثاني ( من ثلاثة مقالات ) أرسله للنشر في موقع ” بُقجة ” والمقالات الثلاثة من كتاب ” الشعر كما أفهمه ” وهو كتاب مقالات منتقاة، سيصدر قريبا، أتناول قيه بعض تجربتي الكتابية وبالذات تجربة الكتابة الشعرية.
المقال الاول:بعض من التجربة…
سينبض قلبك ، ويسلم عقلك ليتحفنا بكل ما هو رائع. دوام الصحة والعافية نرجو لك.
الشاعر الكبير ابراهيم مالك
تحية لك من تلال المثلث وبعد
سعدت جداً بما كتبته عن فقيدنا وراحلنا العزيز نواف عبد حسن ، واننا نقدر مشاعرك الصادقة واعترافك بالجميل ، فلك تحياتي الحارة ومودتي الخالصة مع التمنيات لك بالعمر المديد والصحة الدائمة ودوام العطاء.
[…] الاول:بعض من التجربة… قليل من تجربة كتابة الشعر *توطئة* إعتراف ما أجمل ذاك المساء أيتها المنحوتة المجنحة ! […]