ابراهيم مالك: ألجهد في الكتابة !
تاريخ النشر: 31/01/12 | 4:08المقال الثالث والأخير يتحدَّث عن بعض تجربتي في كتابة الشعر وكم يسرني نشره في موقع ” بقجة ” وهو جزءُ من مقال أطول سينشر قريبا في كتاب يتناول هذه التجربة والشعر كما أفهمه.
ألجهد في الكتابة!
سألني صديق ان كنت أجهد نفسي عند كتابة القصيدة ؟. أجبته:
حين أكتب لا أشعر بجهد ، أنتهي سريعا من كتابة القصيدة، فأشعرعندها بفرح مصحوب ببعض وجع التوتّر النفسي. لكن فكرة القصيدة تعيش في ذهني طويلا.
وكان من عاداتي، حتى بعد المرض، أن أردد زمنا طويلا وبصوت مسموع كلمات القصيدة، قبل كتابتها على الورق، أوأن أردد بعض مقاطعها، عن ظهر قلب، وأغنّي القصيدة مُصْغِيا ً لموسيقاها الداخلية، وما اذا كانت منسجمة مع موسيقاي تلك اللحظة.
دار في خاطري ما يحدث كثيرا للصيّاد المتمرّس في جريه بحثا عن طريدته. فذلك الصيّاد يتعب نفسه وهو يقطع الغابة، مشيا على الأقدام، أو يركب البحر الهائج، بحثاعن صيده المؤأمّل، أو يقطع الصحراء والوعور، وحين يرى طريدته، يصوّب بدقّة مدهشة ويقتنصها، أويلقي شباكه، فتطلع هذه صيدا وفيرا.
البحث عن الطريدة يتطلّب، في أغلب الحالات وقتا وجهدا، أمّا عملية القنص، لحظتها، فلا. وهكذا هي كتابة الشعر، في أحيان كثيرة.
فالشاعر يجمع الصور والأفكار والاستعارات الفنية وموسيقى القصيدة، وحين تكون هذه جاهزة، تتدافع وتتقافز في ذهنه، فيعيش ولادتها، بكل فرح الولادة ومخاضها الموجع، لكن الجميل.
عندها تذكّرت ما كان معي حين كتبت قصيدة ” تعمشقت السياج “في مجموعتي الشعرية ” عطر فاطمة “. فكرة القصيدة، حين استوحيتها أول مرة، تعود الى ما يقرب من ثلاثين عاما، كما أذكر. كنت يومها أعيش وأعمل في براغ في تشيخيا. قرأت كتاب شعر بالألمانية، يضم أجمل مئة قصيدة حب (غزل) مختارة من الشعر الألماني في أكثر من خمسمائة عام. لفت انتباهي، يومها، قصيدة قديمة، تتشكّل من أربعة سطور ولا يُعْرَفُ اسمُ مؤلفها.اذ يعتقد جامعوا الشعر ومصدرو الكتاب أنها تعود الى ما قبل خمسمائة عام.
تقول القصيدة ما معناه :
” في أمس لامست براعم زهر التفاح واليوم قبلت شفتيك، فتذكّرت براعم زهر التفاح ” .
أحدثت القصيدة فيّ رجفة قوية ودهشة طويلة. حين قرأتها أول مرّة، شعرت معها أنّ عواطف الانسان الجيّاشة والمسكونة بالعشق والتخيّل كانت منذ القدم وخبر الانسان متعته ( متعة العشق ) وأبدع في التعبير عنه وأن الشعر كان لغة التعبير الجميلة عمّا في هذه العواطف الانسانية من قدرة على التوصيف والدلالات الموحية.
عا شت فكرة القصيدة طويلا في ذهني، وكم رغبت لو أجعلها أساسا، منطلقا، لقصيدة أكتبها، معايشا الظروف التي كُتبتْ فيها.
و في ربيع2005، أي بعد المرض، زارتني امرأة جميلة الطلعة، فتية، وداعبت يديّ بيديها، بحنان، وودّعتني، بعدها بقليل، عائدة الى بيتها.
في تلك اللحظة، أطلّت تلك القصيدة الألمانية، وامتلكت كل حواسي، فوجدتني، أغالب عجزي، وأنهض الى حاسوبي لأكتب، مانحا القصيدة بُعدَها الآنيّ، فتمثّلت نفسي:
” أتجوَّلُ في الوعر الصخريّ المحيط بحاكورتي، وكعادتي في الصغر، تعمشقت السّياج في ولدنة مراهق عاشق، وتحسست براعم زهر التفاح “.
كنت كمن يعيش حلما، فتصورت أنني” ألتهم بشره المسن العاشق، أصابعها الوديعة الخمرية، الراقدة، كفرخ عروس التركمان، بين يديّ المشتعلتين، عشقا واعجابا، وأغيب مسكرا بأنفاس كرم التفاح”.
كانت لمسة اليد المداعبة، بد فء وحنان، لتلك المرأة الجميلة هي الشحنة المُكَهْرِبة، التي أفرغت مخزون ذاكرتي، فاستعدت في لا وعيي الحالم ايحاءات تلك القصيدة وأطلقتها في فضاء ايحاءاتي الخاصة بي والمشتعلة تلك اللحظة، عشقا واعجابا، ومنحتها سياقا ومضمونا مختلفين ومتجدّدين والبستها نسيجا محبوكا من كلماتي، فجعلتها لي وجعلت عالمها عالمي.
أكّدت تجربة كتابة هذه القصيدة وغيرها، مجدّدا، ما خبرته في حياتي الشعرية ومن قراءاتي المتنوّعة أنّ الشاعر مهما تقدّم به العمر وبلغ به العجزالجسدي – ما سبق وأسميته خيانة الجسد – هو انسان عاشق، عاشق لكل ما هو جميل في حياتنا، ويبحث دوما عن لمسة حنان والتفاتة عطف محبّ، لاشفقة، يتطلّع الى دفقة حب تلهمه وتفجّر في داخله أفكارا موحية ظلّت سنين مخزونة. وأكّدت أن القصيدة، حين تولد، تكون قد عاشت من قبل ولادتها في رحم ذهن الشاعر ومخيّلته.
حين أتأمل كلمتي ” تعمشقت السياج “، أعجب أية مفارقة ذهنية نسجها ذهن الشاعرالذي فيَّ. وهي مفارقة مثيرة، كلّما أمعنت العقل في رؤية حقيقة الواقع المعاش والواقع المتخيّل، الذي رسمه الخيال الشاعري بالكلمات. هما كلمتان عاديتان، أقرب الى العاميّة، ألبستهما كل هذه الدلالات الموحية، أعطيتهما بعدا ومضمونا جديدين. لقد رسم المرض حدود حركتي وذبذبة أوتار صوتي، حرمني واحدة من أبرز سمات الانسان: القدرة على الوقوف والسير منتصب القامة.
لكن عقلي المتخيّل أكسبني القدرة على تجاوز هذه الحدود، التي أوجدها المرض، والتجوال بعيدا في الوعرالصخري المحيط بحاكورتي والقيام بتعمشق السياج بحثا عن براعم زهر التفاح.
والخلاصة أنّ من لا يمتلك القدرة على التخيّل، يعيش حالة خيال في لحظة ما، لايستطيع أن يكون شاعرا حقا، لن يكون كذلك حتّى لو حفظ عن ظهر قلب كل الأوزان الشعرية في عالمنا.
والشعر، كما علمتني التجربة كذلك، هو قصائد متجدّدة وتجارب نعيشها حقيقة أو نتخيّلها في لحظة حلم لاواع. والحلم هو هذه القدرة المتخيّلة في أن نكون في لحظات قصار، كومض الفكر، خلاف ما نكون، ( فالتجوال في الوعر الصخري المحيط بحاكورتي، العمشقة والولدنة المراهقة، هي خلاف، نقيض هذا الشلل الساكن بعض أطراف جسدي وأوتار صوتي).
وبدون هذه القدرة المتخيِّلة تغدو حياة الانسان، ذكرا كان أم انثى، جحيما لايطاق ولا تمكن الحياة معه. فهو، أي الحلم، يمنحنا هذه السمة الانسانية التي تعيننا في اجتياز ذواتنا لنصير، بعون الحلم، ذواتا أخرى، تبيح لنفسها عيش حلمها ولو للحظات قصار، بلا وجل ولا خجل. فالحلم يطلق انسانيتنا، يفلتها من اسر، صنعناه بأيد ينا ورضينا به، أو أوهمنا أنفسنا أ ننا رضينا به.
ما أريد أن أذكره أنّ مادة القصيدة الخام التقطتها، كفكرة، من تلك القصيدة الألمانيّة. جعلتها، لحظة شحني عاطفيّا وانسياقي وراء هذه الشحنة المكهربة، جعلتها فكرتي وأعطيتها بعدي الشخصي وعشتها حلما محلّقا (حلمي الشعري).
لقد عاشت هذه الفكرة في ذهني طويلا، لكن استحضرتها سريعا، استعدتها من ذاكرتي، استعدت أجواءها لحظة عشت حالة حلم مماثل، بعد لمسة يد تلك المرأة الجميلة ونسجتُ أجوائي المضمّخة ” بأنفاس كرم التفاح ” والتي ضمّنتها قصيدتي.
فالقصيدة هي بنت لحظتها، وليدة تلك اللحظة المشحونة عاطفيا. هذا صحيح، لكنّ مخزون الشاعر الثقافي والفكري وقدرته على”اصطياد” الفكرة وربطها بواقعه، والتقاط الصورة ومعايشة الحلم الموحي، التفاعل معه، هوما يسهّل عمليّة ولادة القصيدة السريعة. لكن بعد ولادتها، كتابتها، تبدأ عملية التجميل الذهنية واختيارالكلمات الملائمة والموشّاة ودندنة الموسيقى لغرض ضبط ايقاعها المتناسق. وهذه عملية قد تطول وقد تقصر، لكنها تتطلب مجهودا متباينا ومختلفا من قصيدة لأخرى.
ما إن انتهيت من كتابة القصيدة، حتى اعترتني الدهشة، فسأ لت نفسي:
أية قوة سحريّة تمتلكها المرأة، ذاتي الانسانية الأخرى، ” نصفي المضاء “، بمجرّد ملامستها الدافئة ليدي بيدها الند يّة والرهيفة، كأجنحة الفراشات، التي تعمر بها حاكورتي المتخيّلة والمشتعلة بحفنة من نجوم.
***
قال الزميل والكاتب الشاعر من شفاعمرو مصطفى عبد الهادي، في ندوة جرت في الناصرة في ” بيت الكاتب”، بعد صدور مجموعتي الشعرية الأولى” في انتظار أن تأتي “، انّ الشاعر لا يكون إلاّ ” راقصا وحد ه “على ايقاع نغم لا يسمعه أحد غيره. وكان يشير الى قصيدة” أيها الفارس الراقص وحدك”( نشرتها مؤخرا في موقع ” بقجة ” ).
وكنت كتبتها تحت وطأة ما حدث لي في الحزب الشيوعي يومها، في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.
وللقصيدة حكاية، أذكرها جيّدا.
كنت يومها في موسكو، المدينة التي أحببت. وذات مساء خرجت بصحبة أصدقاء ومعارف، عرب ( من كفرياسيف وسخنين ) وروس، لتناول طعام العشاء في مطعم”أرباط ” الشهير، حينها، بمطبخه الروسي الشهيّ وبسعة حلبة الرقص فيه وبمساءاته الموسيقية الراقصة وجمال رائداته، الفتيات الروسيات الجميلات.
كنت أتناول عشائي، حين خفتت الأضواء، فجأة، فوق حلبة الرقص وسكت ضجيج الموسيقى الصاخبة وكف الراقصون عن الرقص وعادوا الى أماكنهم. لكن راقصا وحيدا بقي في الحلبة، يترنح راقصا، وينعكس ظلّه الراقص فوق حائط حلبة الرقص، فكان المشهد اشبه بمسرح الدمى فلا ترى الاّ انعكاس الظل الراقص.
مشهد أثار في نفسي المتوتّرة، يومها، ايحاءات كثيرة. كان واضحا لي أن الراقص واصل رقصه بعفوية صادقة وبجرأة عاشق لا يبالي بما يدورحوله، فما يهمّه ويعنيه هُو وجه معشوقته. هذا ما تخيلته. وكان واضحا لي أنّ ذلك الراقص، وحده، يغالب ضعفا ناجما عن افراطه في الشرب المسكر، لكنّه حرص على مواصلة الرقص بخطى مترنحة، محاذرا ًالسقوط. وكنت على ثقة، ساعتها، أنّ هذا راقص عاشق، حضره، بغتة، وجه من يحب، فانحنى قليلا وراح يُراقص فتاته، تخيّلا، واستحضر موسيقاه التي كانت تضبط خطواته المترنّحة.
تصوّرته وقد ظنّ أنّ حلبة الرقص قد خلت فعلا، فبقي وحده فيها يراقص فتاته، التي ناداها لمشاركته فرح الرقص وحيدا.
انتهى العشاء والحفل الراقص وعدنا الى غرفنا. ليلتها لم أنم ، بقيت صورة خيال الراقص الوحيد معكوسة على الحائط، ينشرها النور الخافت في القاعة، بقيت عالقة في مخيّلتي التي راحت تسرح بعيدا. شعرت يومها أن هذا الراقص هو أنا. انفضّ من حسبتهم صحبي، إنفضوا من حولي، إنفضَّ الراقصون وبقيت وحدي. ولم أكن في حقيقة الأمر وحدي، ظلّت فاطمة سلوايَ في وحدتي وظلّت عشقي الذي يعينني على مواصلة الرقص وحيدا.
وجدتني أتساءل:
” أيّة قوة هذه التي تتولّد من ضعفك ؟. أيّها الفارس الراقص وحدك ” !
ليلتها ولدت القصيدة ، التي اراني عائشا بين سطورها ، أتنفس ايقاعها ، ومنطرحا في ما تطرحه كلماتها الموحية والبسيطة من سؤال ، هو أبعد من مجرّد سؤال شخصي :
” أيّة قوّة هذه التي تتولّد من ضعفك ؟ ! ” .
أذكر نشرت صيغتها الأولى في جريدة ” كل العرب ” النصراوية الأسبوعية، حيث عملت أشهر معدودة. وأعدت نشرها، ثانية، بعد سنوات، وبالصيغة ذاتها في أسبوعية ” فصل المقال “، حيث عملت محرّرا في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. وقد اتّصل بي، يومها، الصديق الكاتب الصحفي، ذو الذائقة الفنّية والجمالية الأدبية، واسع المعرفة، محمّد مشارقة، من الضفة الفلسطينية، وأشار عليّ بأن أحاول ازالة كل الزوائد والحواشي في القصيدة، أن أختزلها بشدّ ة، فالشعر، كتب اليّ، هوما نحسن اختزاله ومنحه الكثافة الموحية. سمعت بنصيحته وأعدت كتابتها، غربلتها من كل ما يمكن اعتباره من الزوائد الكلامية وأرسلتها اليه بالفاكس، قرأها وكتب لي ما معناه أنّ هذا هو الشعر، يكون مختزلا وشديد الايحاء، ينفتح فضاءه الموحي على فضاءات يصعب حصرها ولكن يسهل رصدها. وقد نشرتها في مجموعتي الشعرية الأولى بصيغتها النهائية المختزلة والمنقاة من كل الزوائد والحواشي الكلامية، التي لاتعطي القصيدة أيّة جمالية.
اقرأ في هذا السياق:
المقال الاول:بعض من التجربة…
قليل من تجربة كتابة الشعر *توطئة*
أيـُّهـا الـرّاقـِص ُ وَحـْدَك
أخي الأديب المبدع إبراهيم مالك
تمتّعتُ بكلّ كلمة وردتْ في بوحك الصريح الصادق.
أنت تُؤكّد للجميع أنّ الشعر الحقيقيّ ليس
هو”الكلام المنظوم المقفّى” بل هو عصارة فكر، ومعاناة
روح، وحلم عاطفة إنسانيّة محلّقة، وتأتي الألفاظ الموحية
لتجسّد كلّ ذلك في سيمفونيّة رائعة أخّاذة!
لك باقات من المحبّة والتقدير
أخوك في الإنسانيّة
أبو سامي
اعجبني الموضع وانا بصراحة اول مرة بكتب تعليق بس هاي المرة كتبت تعليق لان الموضوع يستحق المجاملة ورائع جددددددددددددددددا جدا وشكرا على الموضوع