هناك كان لنا بيت..
تاريخ النشر: 03/02/12 | 22:23بروح وتحت ظل شجرة الذاكرة الدرويشية: “آه يا جرحي المُكابر , وطني ليس حقيبة, وأنا لست مسافر, إنني العاشق، والأرض حبيبةَ”
ساغ سليم وهو عمل مسرحيدي مونودرامي، يروي حكاية كل فلسطيني على هذه الأرض، على أمل الأمنية بأن يكون حالنا نحن الأقلية العربية الفلسطينية صاغ سليم… أعزائي القراء…حين شاهدت عرض ساغ سليم في حيفا للمرة الأولى، وحين وقعت مقلتاي على الحقائب التي احتلت ارض المسرح، فكّرت ما القصد بالحقائب، شرعت أحلّل..وسرحت بعيداً لأقرب..الحقائب هي قصص.. ذكريات.. وذاكرة جماعية لشعب.. حكايات نضال وصمود، كبرياء وبقاء، صراع واباء، فيها الآلام والآمال….الحقائب رُبما عذابات المطار، ربما الهجرة والرحيل! ربما الإستسلام أحياناً والهروب! ربما….. وربما…. ربما حق العودة وحُلم العائدين!” ربما رغبة المُهجرين بالمُثول أمام بُيوتهم المُحطمة وعناق المفتاح الذي يسكن أرض الوسادة منذ نكبة النكبات! ربما.. وربما ووابل من الرُبمات! المفاتيح …. المفاتيح زاوية مظلمة أخرى من تاريخنا وروايتنا الفلسطينية، تلك البيوت… وهذه البيوت، تلك القرى… وهذه القرى… روايتهم وروايتنا في معركة اللقاء وساحة البقاء، ذاكرتهم الجماعية وذاكرتنا الجماعية في مُنازلة حرة وجهاً لوجه، الإمبريالية الثقافية ومحو التاريخ، القصة في عنق القصة…وعبرنة أسماء القرى على طريق النسيان!
المفتاح هو رمز والمفتاح رمز لب القضية وهو أيضا البطل اللا يعرف الموت ولا القهر. كل الأشياء تموت وتُكفن، إلا الذاكرة… لكل فلسطيني منا مفتاح لصندوق ذاكرته وبيت أجداده المستباح والمُهجر منه، وان كنت من كفر قرع ولم تنزح منها، إلا انك أيضا تحمل في عنقك مفتاح الذاكرة والأجداد، مفتاح وجدان الوجود بعزة وكرامة. مفتاح الغربة على ارض الوطن… مفتاح من الحديد الناري اللا يبلى.
وكم اكره القول نكبة إل 48 وأمقُت تسمية عرب إل 1948، فأنا اكره الرقمية في نكستنا، هي النكبة الفلسطينية عابرة السنين وفوق الأرقام. كل إنسان منا بداخله هوية فلسطينية ثائرة تحرك وجوده وعاطفته تجاه وطنه، أما أصعب الحالات التي وصلنا إليها هي ألا يدرك الأولاد والنشأ الصغير أسماء القرى المهجرة التي باتت تسمى اليوم تل أبيب ونتانيا وزخرون يعقوب والقائمة طويلة على طريق التهويد ومحو الذاكرة الفلسطينية بهدف التماهي والتثاقف الممنهج، والاصعب ألا يفهم أولادنا كلمة “المتسسللون”، وألا يدركوا من هو “اللاجئ”، عدم الإدراك هذا عزيزي القارئ هو نجاح الصهيونية القادمة من ثقافة العدم إلى ثقافة ممارسة اللؤم والجرم!
ما أروع اللقاء بين الحقيبة والمفتاح والنوستالجيا…. يا ولدي…. هناك كان لنا بيت، لا تنسى، ولا تدع نجلك ينسى، فمن لا ماضي له، فلا مستقبل له أيضا، اسرد لنجلك الحقائق كاملة ولا تجامل التاريخ! وإلا فإنه لن يغفر لك ذلك حين ينضج فلسطينيا حرا، وهو هنا هي “ابنك” و “التاريخ”.
فتشت في سراديب ذاكرتي وإدراكي الشعري لكبار حماة الوطن الفلسطيني فما كان لي أرقى وأروع من اللقاء في البروة، فتذكرت خالد الذكر محمود درويش الذي يخيم فوق شاعريتي الكتابية، وانتشلت ما جاء في يوميات الجرح الفلسطيني، تلك القصيدة التي أهداها سيد الأبجدية للقديرة الشاعرة فدوى طوقان، هناك في نفق الزمان، حين كان الإنسان أبيا ونظيفًا ولا يعرف إلى التلم سبيلاً، هناك حيث ترعرع شعراء المقاومة:
“آه يا جرحي المُكابر
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إنني العاشق، والأرض حبيبة”
آه لو تعلم درويشنا العز، كم هي كلماتك صائبة كل يوم كان غداً وأصبح أمساً، لقد قرأت تاريخنا، بالسنين الضوئية! ليتك معنا، لتكتب بحبرك تاريخ الثورات وترى الأغنيات ترقص سقوط الطغاة. نبكيك كل صباح فقد اختصر الزمان فلسطين في شخصك ويراعك! فعلاً سيدي عَلَى هَذه ألأْرْضْ ما يَسْتَحِقُّ الحَياةْ; كانت تسمى فلسطين،صارت تُسمى فلسطين!!!!
فأنا حقا لا ابكي على من باع الوطن ولا على من خان، فهم لا يستحقون البكاء، أنا أرثي وابكي ولن أؤبن من ناضلوا وناضلوا وبعد حين “مشوا في التلم”، ومزقوا الحقائب،ليتهم رحلوا بالحقائب بما حملت ولم يمزقوها أو يستبدلوها بالقبض على الدولارات وجمر الدولارات، والدولارات رمز وألم لي ولك… أولئك الذين باعوا!
بحريق الكرمل من جهة والربيع العربي من جهة عاش قلمي إستنزافاً للروح والانتماء، يا الله فلسطينيتنا الخضراء، كرمل درويش، والهوية المحروقة والمدفونة تحت رماد الكرمل المحروق، أحيانا تسول لي نفسي أن الكرمل احترق كانتفاضة حزن على رحيلك بعد سنين يا درويش حيفا، ظاناً هو لسذاجته أن حريق الأشجار يغسل القلوب… والعالم العربي الذي خلع ثوب الزعامات المزعومة، ويحاول ، يحاول جاهداً تصميم البدلة والزي الذي لطالما حلُم به! هم أصحاب هوية وكرامة وانتفضوا! انتفضوا! وزرعوا الشرق الأوسط بربيع تلو الربيع، في الوقت الذي لا زلنا فيه “نحن” المستهلك المرغوب به والمواطن الغير مرغوب به في بيوتنا، أرضنا، وطننا، عملية أشبه بتحضيرك الفطور لعدوك عل ارض بيتك، دون القدرة على ضربه حتى الرحيل! ويشرب الشاي في فنجانك على شرفة وطنك المسلوب! والويل ثم الويل إذا كسرت الفنجان!
الحياة الحياة… فعلاً اللغة لا تموت والبيت الرافض للهدم هو خالد وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل- درويشنا”! تُحتل الأراضي، إلا أن الذاكرة لا تحتل! ولا الحقائب أيضا!نعم باقون وصامدون كل مع حقيبته التي يُخبئ بها قصته الشخصية وأمله في الاغتراب عن الشعور بالمنفى على أرض الأجداد… سوف ترون في “ساغ سليم” حالات متعددة للإنسان المهاجر والمُهجر والحالم بالحرية والمتأرجح بين المرارة والألم والسعادة والأمل، هناك على شاطئ مدينة حطمتها رياح اغتصاب الحقائق وتزييفها…سوف نسافر على محور الزمن، على زورق النوستالجيا إلى الماضي وحياة الريف والبساطة والحنين إلى العدم مقابل العيش بكرامة، ونحُن لشرب قهوة الماضي مع حاضر النحن بنكهة زعتر المستقبل وتحت ظل السنديان، يا بلد السنديان يا فلسطين الشهداء!
أكيدة أنا أن كل مشاهد للعمل الثقافي ساغ سليم سوف يضحك في المسرحية من أرض القلب، وسوف يبكي علينا أيضا من قلب العين، سوف يُسافر بروحه القلقة قليلاً إلى محاولات الإهانات والإذلال في المطار ويعود لشموخ البقاء، لأن المسرحية تحاول ترميم الحكاية… من خلال رحلة إلى حجارة العقد الفلسطيني القديم وعشب الجليل، عنقود روح الماضي والذكريات التي تأبى بأن تنحصر في حقيبة جامدة، تتسرب لتُفجر فضاء الذاكرة وفضاء الزمان والمكان في ذات الآن، لتتعارك مع حقائق تزييف الأنا والذات…
في هذا العمل يُذكرنا سليم ضو بأن سكين الإحتلال مزّق أوتار الصوت، في صوتك سليم معنىً للأسى والقهر المُتبل بالأمل.. ساغ سليم والأعمال الوطنية الناقدة تؤكد على أهمية الاستمرار في النضال الجماهيري والصمود والبقاء على هذه الأرض، لأننا أصحاب الأرض الأصليين،ولسنا ضيوفاً ولا نزلاء لدى الشعب العبري وعلينا الاستمرار بعزم بنضالاتنا بكل ما أوتينا من قوة وبسالة، فهي معركة عصيبة للبقاء بكرامة وعنفوان. القضية وجودية من الدرجة الأولى وتسري في عروقنا، نحن لن نسافر من هذه الأرض ولن نحمل الحقائب ولن نجلس عليها ننكب حظنا في مطار اللاجئين ولا في مطار “المتسللين” حسب نعتهم، والأكيد ليس على أعتاب مطار بن غوريونهم!!!!
اسمحوا لي رواد الثقافة وملح هذه الأرض اسرد عليكم أجمل ما جاء في طيات هذا العام وأوراقه الثقافية…. لا نريد لهذا العام أن ينتهي فعلاً، كان عاما مغزولا بالثقافيات المُشوقة،هنا في فضاء هذه القاعة غنينا وقوفاً “موطني”، و”اكتب اسمك يا بلادي”،و”منتصب القامة امشي”، و”الأرض بتتكلم عربي”، هنا على مسرح الحوارنة استشهد عبد القادر الحسيني بنص كيس رصاص بدموع ريم تلحمي، وهنا قُتلت راشيل كوري بالبلدوزر الصهيوني الغاشم، وهنا ناضلنا للحرية مع إياد الشيتي، وسكبنا الثقافة بإبريق الزيت العكي وحكحكي أيمن النحاس العذب، وهنا عرجنا على خريف العمر وروينا قصة الخريف…. وهنا عاش البلد ومات البلد مع الشاعر مروان مخول.وهنا أعلنا الإضراب المفتوح مع وكنا مُتشائلين على وضعنا كتشاؤل إميل حبيبي بحنجرة محمد بكري، هنا بكينا على أولاد ارنا، وحملنا مفاتيح البيوت المهجرة وتجولنا بين نكسات القرى المهجرة،هنا نظمنا معرض الفنون التشكيلية بروح محمود درويش وهنا حللنا الخط وناقشنا بأمسيات راقية ومثرية، هنا حاكمنا زعماء العالم العربي قبل انتفاضة الشعوب العربية والربيع العربي، هنا حاكمنا السادات وتخاذل الزعماء العرب في قضية فلسطين المُغتصبة من خلال عمل السادات والسادة،وحيينا الربيع العربي، وهنا ألقى شعراء الوادي قصائدهم بظل أساطير الشعر الوطني محمود درويش وسميح القاسم، هنا تألق سعيد سلامة في طبيب رغما عنه ونفخنا البوق وإياه أيضا. … وهنا … وهنا.. !”
هنا عاش البلد ومات البلد بعيون حنجرة الشاعر مروان مخول، هنا ناقشنا البرامج التعليمية المُأسرلة من خلال مسرحية “قال هرتسل”… وهنا وهنا!!
هذا ما جاء في الكلمة الافتتاحية للأمسية الثقافية “ساغ سليم” على ارض الحوارنة كفر قرع، للسيدة مها زحالقة مصالحة، مديرة قسم الثقافة والتربة اللا منهجية في مجلس كفر قرع المحلي.
*الكاتبة مها زحالقة مصالحة، مديرة قسم الثقافة والتربة اللا منهجية في مجلس كفر قرع المحلي.