معرضٌ ذاكرة إنسان للفنان د. سليم مخولي!
تاريخ النشر: 08/02/12 | 2:11إبداع؛ رابطة الفنانين التشكيليّين العرب في كفرياسيف أقامت معرضًا فنّيًّا تشكيليًّا للفنان الشاعر د. سليم مخولي، بتاريخ 4-2-2012، في صالة جاليري إبداع في كفرياسيف، وخصّصت زاوية خاصّة لمؤلفاتِه، وذلك بحضور كبير من الرّسّامين والفنانين والأدباء والشّعراء والأصدقاء والأقرباء!
تولّى عرافة الحفل الأستاذ عبد الخالق أسدي؛ عضو جمعيّة إبداع فقال:
وفاءً واحترامًا وتقديرًا للغالي د. سليم مخولي ارتأت جمعيّة إبداع أن تقيمَ احتفالاً تكريميًّا لذكراه، بما يستحقه إكبارًا وإجلالاً لروحِهِ الطاهرة، ولقيمتِهِ الأدبية والشّاعريّةِ والفنيّةِ والإنسانيّة، كطبيبٍ عالجَ الجسدَ، وكشاعرٍ عالجَ الذوق والإحساس، وكأديبٍ ارتقى بسِماتِهِ الحضاريّة، وكفنّانٍ لامسَ الحسّ الإنسانيّ بلوحاتِهِ ورسوماتِهِ الناطقةِ بالتعبير، والصّادقة بالمعنى الرّمزي والتّشكيليّ!
د. سليم مخولي تلقى علومَهُ ودراستهُ بمدارس كفرياسيف الابتدائيّة والثانويّة، والتحقَ بكليّةِ الطبّ بالجامعةِ العبريّةِ بالقدس، وعملَ في خدمةِ مجتمعِهِ من عام 1965 حتى عام 2004 ما يقاربُ الأربعة عقود، حيث تفرّغَ بعدَها للفنّ والأدب والشعر، وهو مِن مؤسّسي جمعيّةِ إبداع الأوائل.
مارسَ هوايتَهُ الفنّيّة منذ الصّغر، مُلازِمًا ذلك خلالَ دراستِهِ الجامعيّة، وحتى رحيلِهِ زاولَ الطّبّ كأنّه فنٌّ، واكتسبَ الأدبَ كأنّهُ عِلم، فهو شاعرٌ في رسوماتِهِ ورسّامٌ في قصائدِه، طرَق أبوابًا عديدة في قصائد اجتماعيّةٍ سياسيّةٍ ثقافيّةٍ فلسفيّةٍ خياليّةٍ فنيّةٍ ومصيريّة!
انتمى د. سليم مخولي إلى المدرسةِ الواقعيّة، فعبّرَ عن لواعج قلبهِ المُنفتح وفِكرهِ المُتنوّر، ليطرحَ معاناته اتجاهَ ما يحدثُ في الإنسانيّة، وكتبَ القصّة والمقالة والمسرحيّة النثريّة، وكان صاحبَ رؤية مستقبليّةٍ تحملُ تطلّعاتِ وأحلامَ كلّ الناس، نحوَ عالمٍ راقٍ وإنسانيّ، ولوحاتُهُ لا تقلّ شاعريّة عن قصائدِهِ، فقد مزجَ الكلمة بالموقف، والكتابة بالنضال، وكلماتُهُ مُعبّرةٌ تعكسُ الهَمّ والألمَ والوجعَ، وآمَن بحُرّيّةِ الفكر والنقد والأدب والفنّ!
كان د. سليم مخولي عضوَ الهيئة الإداريّة لجمعيّة إبداع، وفاعلاً كبيرًا في أروقتِها، وعضو اتحاد الكتّاب العَرب في البلاد، ومِن مؤسّسي لجنة الدّفاع عن الأرض، ومن مؤسّسي لجنة اليوبيل في كفرياسيف!
قامَ بالعديدِ مِن النشاطات في حركة “سلام الآن”، وعام 1987 انتُخِبَ بالإجماع رئيسًا لمجلس الطائفة الارثوكسيّة في كفرياسيف، وعام 2002 حاز على جائزة التفرّغ الأدبيّ مِن قسم الثقافة العربية في وزارة العلوم والثقافة والرياضة، وله 14 مؤلّفًا في الشّعر والأدب والمسرح والقصص.
د. سليم مخولي مِن شخصيّات كفرياسيف البارزة الذين لا زالوا عالقين في ذاكرتي، بجَوهرِهم الدّاخليّ ومَظهرِهم الخارجيّ، في الأناقةِ والعراقةِ منذ وطئتْ قدماي أرضَ هذا البلد العامر بعِلمِهِ وثقافتِه، لتلقي العِلم في مدرسةِ يني الثانوية في النصف الثاني من سنوات الخمسين من القرن الماضي.
د. سليم مخولي صاحبُ الرّيشتيْن؛ الطبيبُ والشاعرُ الفنّان، فهو باقٍ في ذاكرتِنا ومُخلّدًا في عالمِهِ المُحتضِن للقيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والأدبيّة والفنيّة.
أسوقً نبذة موجزة عن الشاعر الأديب الفنان د. سليم مخولي:
من مواليد سنة 1938 – 2011/ رسّام كاتب شاعر وطبيب عائلة/
خرّيج مدرسة الطب- الجامعة العبريّة في القدس/ عضو اتحاد الكُتاب العرب في البلاد/
مِن مؤسّسي لجنة الدّفاع عن الأرض مع بعض الشخصيّات الحزبيّة والشعبيّة المستقلة/
مِن مؤسّسي لجنة اليوبيل الأهليّة في كفرياسيف التي تأسّست عام 1975 لخدمة أهالي البلدة وسكرتيرًا لها/ المجلس العام لجمعية “إبداع”- (جمعية الفنانين التشكيليين العرب في البلاد)، درس الفن في دورات في بتساليل وفي كلية الجليل الغرب/
له عدّة إصدارات شعريّة ومسرحيّة ونثريّة في اللغة العربية ومجموعة قصص/
ينشر من إنتاجه في الصحف والمجلات العربية في البلاد وخارجها/
شارك في عديد من الندوات الأدبيّة والمهرجانات الشعريّة/
حائز على جائزة التفرغ والإبداع الأدبيّ من قسم الثقافة في دائرة المعارف، وشهادات تقدير من مؤسّسات عديدة/ له نشاطات اجتماعيّة وعضو لجان شعبيّة عديدة.
من معارضه المختارة:
ثلاثيات؛ معرض فرديّ في كفرياسيف/ جاليري المركز الثقافي في كفرياسيف/
جاليري المركز الجماهيري- جولس/ جاليري ترشيحا- معلوت/
المعرض القطري للفنانين التشكيليين العرب بيت الكرمة حيفا/
معرض فناني “إبداع” المركز الثقافي الناصرة/ معرض في كلية الجليل الغربي/
معرض في جاليري أمّ الفحم/ معرض “الأرض والإنسان” 1 في المركز الثقافي- الناصرة/ معرض “الأرض والإنسان” 2 في المركز الثقافي كفرياسيف/
“إيقاعات شرق أوسطية” جاليري ليؤوناردو- تل أبيب/ معرض “حوار الصمت” – مجدل شمس/ معرض فناني “إبداع” – طول كرم/ “بين الرؤية والرؤيا” معرض ثنائي- المركز الثقافي–الناصرة/ معرض فناني “إبداع” – طول كرم/ “ذاكرة مكان” معرض فردي- المركز الثقافي – كفرياسيف/ “الإنسان والأرض” في بيت الفنانين القدس/
“حجارة تحكي عن السلام” عمل نحتي في هبيما تل أبيب/ معرض في بيت المسن في يانوح/ عمل نحتي في مهرجان النحت على الحجر الجليلي في كفرياسيف/
تصميم النصب التذكاري لعين الماء في كفرياسيف بالمشاركة مع بعض فناني ابداع /
معرض “كفى” / معرض “ذاكرة إنسان” في جاليري إبداع كفرياسيف
إصدارات:
معزوفة القرن العشرين- شعر – سنة 1974/ صدى الأيام – شعر –1974
الناطور – مسرحية نثرية – 1979/ ذهب الرمال – شعر –1989
تعاويذ للزمن المفقود – شعر – 1989/ رماد السطوح ورخام الأعماق – شعر – 1996
ما يخط القلب في سفر التراب – شعر – 2002 / إليك – شعر 2003
رفيقة يومي – شعر 2003/ ألأبواب المفتوحة – مجموعة قصص – 2005
عثرنا على ذاتنا – شعر- 2006 / نسيج آخر للوقت – قصائد نثرية
جناح لدوري الحقل – خواطر/ مسرحية الزينة – 2011
ومن ديوان د. سليم “عثرنا على ذاتنا”- ومن قصيدة سأدعوك حلمًا ص 54 أقول:
إلى أين تمضي يا حبيبَ جراحِنا/ وجرحُكَ إيمانٌ توتّر ناميًا/ وكنتَ ثقيلاً في موازين حقبةٍ/ خفيفًا عليلاً في رحيلِكَ ساميا/ ومثلُكَ مَن يلقى الصّعابَ ببسمة/ ويطوي المنايا في مرامِهِ ناهيا/ سأدعوكَ حُلمًا في الحقيقة ماشيا/ إلى أين تمضي في رقادِك/ إلى أين ترقى في غيابك/ كدعواك فينا مذ عرفتك داعيا/
وجاء في كلمة جورج توما رئيس جمعيّة إبداع:
رأت جمعيّة إبداع وأعضاؤها في الهيئة الإداريّة والفنيّة، وبتأييدٍ كاملٍ مِن أعضائها المخلصين، أن تكرّمَ الفنان الدكتور سليم مخولي ، الذي وافته المنية في أوائل شهر تشرين ثان 2011، وذلك بتخليد ذكراه وتكريمه في جاليري إبداع صالة العرض لرابطة الفنانين التشكيليين العرب، والتي كان ينتمي إليها منذ تأسيسها سنة 1994، وقد ثابر على مؤازرته لهذه الرابطة ودعمها مادّيَّا ومعنويًّا طيلة أيام حياته، وقد ضحّى بالكثير من وقته الثمين من أجل الاستمرار في نشاطاتها، ولمّ شمل أعضائها من الفنانين والرّسّامين والنحّاتين .
شارك في عشرات المعارض في كفرياسيف وخارجها سواء كانت معارض فرديّة أو جماعيّة، كما ساهم في تصميم النصب التذكاريّ لعين الماء في كفرياسيف بشكل بارز، مع بعض زملائه الفنانين من إبداع، حيث يقف هذا النصب شامخًا على ساحة العين في قرية كفرياسيف .
إنّ تكريم الفنان سليم مخولي واجب يستحقه، وهو أقلّ ما يمكن لأخوان أن يعملوه، ليذكروا أخًا لهم رافقهم مسيرة سنوات طويلة وشاركهم في العطاء، وها نحن اليوم نصدر هذا الكتالوج المصوّر الخاصّ بالمعرض المُقام تخليدًا لذكراه الطيّبة، حيث تظهر فيه بعض الرسوم والصور التي توثق تاريخ كفرياسيف، مبانيها القديمة، شوارعها وأزقتها، عاداتها وتقاليدها، وتوحي لنا بتمسّكه بترابها والتغنّي بمعالمها الأثريّة والدّفاع عن أرضها وأشجار زيتونها، وهذا يصوّر لنا مواقفه الشجاعة والثابتة في الدفاع عن الأرض، والمشاركة في المظاهرات والإضرابات كما يظهر في بعض رسوماته.
إنني أشكر رئيس اللجنة الفنيّة الأخ الفنان ايليا بعيني منظّم المعرض، على اختياره هذه اللوحات وترتيبها، كما أقدم شكري باسم جمعيّة إبداع للدكتور منير توما، على معاينته هذه اللوحات والرّسوم وشرح وتحليل بعض الإيحاءات التي توحيها لنا هذه الرّسومات .
وأخيرًا.. أوجّه شكري لعائلة د. سليم مخولي وأقاربه على التعاون معنا، والمساهمة في توفير ما لزم لإنجاح وإصدار هذا الكتالوج .
وفي كلمة السيد عوني توما رئيس مجلس كفرياسيف المحلي جاء:
لفتة كريمة وخطوة مباركة أن بادرت جمعية إبداع للفنانين التشكيليين العرب أن يقوموا بتكريم ابن كفرياسيف البار د. سليم مخولي، والذي كان عضوًا في هذه الرابطة وسندا لها. إنه يستحقّ كلّ تكريم واحترام، فقد كان من المواطنين الصالحين في هذه البلدة، يحارب من أجل كرامتها وسمعتها، ويعمل جاهدًا على رفع شأنها.
أعرف د. سليم كجار عزيز لوالدين عزيزين علينا وعلى عائلتنا طوال عشرات السنين، وعندما انتقلنا إلى بيوتنا الجديدة بقيت العلاقات والروابط وثيقة بيننا، على الرّغم من اختلافات الرّأي بيننا أحيانا.
أريد أن أشيد بخدمته لبلده في المجال الصّحيّ الطبيّ، فقد عالج الكثيرين من المرضى والمحتاجين لمساعدته منذ الستينات، وعمل في عيادة صندوق المرضى في كفرياسيف، وفي عيادته الخاصّة، وأسعف الكثيرين من الناس.
وفي المجال العائليّ؛ بنى عائلة محترمة كريمة وربّى أولاده خير تربية، ولم يمنعه عمله واهتمامه بعائلته عن الاهتمام بهواياته وميوله الفنية والأدبية، فكتب الشعر والنثر في الصّحف والمجلات، وأصدر كتبا كثيرة وشارك في الندوات الأدبية.
وفي مجال الفن والرسم والنحت؛ برز مع خيرة فناني بلادنا، وعُرضت أعماله الفنية في كثير من المعارض والمتاحف في البلاد، وها نحن اليوم في صالة جاليري إبداع نستعرض بعضًا من آثاره الفنية، ورسوماته التي وثقت تاريخ البلدة وحاراتها ومؤسّساتها.
أمّا في المجال الاجتماعيّ والدّينيّ، فكان له دور في رئاسة المجلس الملي الأرثوكسي، وقد بدؤوا في إقامة بناية الكنيسة الجديدة “كنيسة السيدة العذراء” في أيام رئاسته، وكان يقوم بنفسه بجمع التبرعات وزيارة البيوت من أجل هذه الغاية الجميلة.
أمّا في المجال السّياسيّ فقد عُرفَ أنّه مِن المناضلين في الدّفاع عن حقوق شعبه، وفي الدّفاع عن الأرض الغالية، وإلغاء الضرائب الباهظة عنها، وإنّني أعتزّ بوقوفي هنا أمامكم وفخورٌ جدًّا بتكريم مثل هذه الشخصية البارزة في المجتمع الكفرساويّ بعد مماته، كما كرّمناهُ في حياتِهِ عندما قامت جمعيّة إبداع بتكريمه في المركز الثقافيّ البلديّ قبل سنوات، وقامت جمعيّة التطوير الثقافيّ والاجتماعيّ بتكريمِهِ أيضًا.
ومع الممثل الحكواتيّ لطف نويصر صديق الدّكتور كانت فقرة مؤثرة جدًّا فقال:
كان إنسانًا أعطى من المعاني ومن الكلمات، حتى تبقى على طول الأيّام منارة ولكلّ الأجيال، وسنة 1970 كان عمري 20، وصُعقت بوفاة الزعيم عبد النّاصر وتأثرت وانفعلت، وقدست حياتي للفنّ، وأقتبس بعض الكلمات لمَن ترك لنا بعض كلماتِهِ ولوحاتِه، لتكون المسارَ الصّحيح لكلّ صغير ولكلّ كبير، واجتمع أهل الناصرة من كلّ الأماكن والأطياف على تلة صغيرة، وحين رأى الوفود والأهالي والانفعال، قال الخوري الأب سمعان نصّار:
كنت أتمنّى لو أنّ هذه الوفود كانت في استقبالك وليس في وداعك يا جمال!
وما زالت هذه الكلمات محفورة في عقلي ووجداني وأقول: إن هذا الإنسان يستحق هذا الاحترام والكلام، وهذا الحضور جاء لاستقبالك وليس لوداعك، وقبل الحديث عن القصّة التي اضطرّتني إلى الحضور، فأقرأ ما كتب د. سليم في مقدّمة مسرحيّة الزينة:
“للصّغار حتى يكبروا، وللكبار قبل أن يكبروا أو يتكبّروا”!
ما أجمل هذه النصيحة، والرّاوي يقول:
كان يا ما كان، كان ملك جبّار عنيد، يعيش في جزيرة نائية في بحر بعيد، وكان هذا الملك ظالمًا شرّيرًا، يحكم بقسوة لا يرحم كبيرا أو صغيرا، يقتل من رعيّته الكثير بلا سبب وأحيانًا لأيّ سبب صغير، خافه الناس وابتعدوا عنه حتى كان يوم ذكرى الجلوس على العرش المجيد، أراده الملك أن يكون عظيمًا كأنه عيد، أمر أن تزين المدينة بكلّ ما هو جميل، وان تكون احتفالات تليق بهذا الحدث الجليل”.
كيف يمكن أن أنساه وقد ترك لنا هذه الكلمات وهذا التوقيع على كتابه المُهدى إليّ:
“تقديرٌ إلى الممثل القدير لطفي نويصر مع التقدير”!
مرّتان بحياتي تكرّمت، وبالنسبة لي كانت أكبر بكثير من أن أكون في هوليوود وآخذ جائزة، ولكن شيخا كبيرا من الجولان مع كلّ المحبّة والاحترام، وكثير خجلت من هذا الكلام، وكثير أحسست برهبة فظيعة لمّا قبّل رأسي وقال:
“والله يا خيّي إنّك ممثل قدير.. ليك يا خيّي.. بدّي أقبّل راسك لأنّي احترمك”!
رنّ التلفون: :- صباح الخير يا فنّان/ :- صباح النور/ :- كيف الحال/ :- والله الحمدلله/
قال:- بعدَ الفحص والتمحيص لقيت إنك الإنسان والفنان الذي يمكن أن يقوم بهذا العمل، وأنا كتبت مسرحيّة، وأريدك أن تقرأها وتعطيني رأيك فيها، وبلكي مِن محاسن الصّدف استطعنا أن نعمل عمل محلي أحسن ما يكون!
وأنا فعلاً ارتجفت وكانت بالنسبة لي خيرة الكلام، ووقفت أفكاري وتجمّد الدّم في عروقي وأنا أسمع شيئًا لا يوصف، وصادف أنني سأحضر إلى كفرياسيف بتاريخ 16-11-2011 لعرض مسرحيّة جدار العنكبوت، عند صديقي رفول بولس، فقلت له:
– سأعزمك لحضور المسرحيّة/
قال:- وأنت معزوم على فنجان قهوة عندي في البيت، ولكن أنا سأرسل لك المسرحية في البريد. قلت:- ولماذا أنت مستعجل يا د.؟
أحاسيس غريبة راودتني عندما وجدت المسرحيّة بسرعة في البريد، وليسَ من عادتي أن أقرأ العمل أو أنهيه في نفس الليلة، لكني قرأت مسرحيّة الزينة من بدايتها لنهايتها في نفس الليلة، وتمتّعت بكلماتها وبموضوعها الأمني الاجتماعيّ السّياسيّ، والطاغية الجزّار الشّرّير الذي يأكل حقّ الناس، ولكن الكاتب لم يسمح له من خلال كلماته التي قالها، وسمّى المسرحيّة “الزينة”! وما صدّقت أن يطلع النهار لأهاتفه وأقول:
– أشكرك على هذا الشرف العظيم في هذا العمل الرائع، وكأنني أقرأ أبو زيد الهلالي والزير سالم وعنترة بن شداد، لكن المسرحيّة طويلة تحتاج إلى إعداد وإمكانيات، وإن شاء الله تكون لدينا الإمكانية والفرصة من ميزانيات وإعداد من المسرح ومؤسسة إبداع، في إتمام هذا العمل.
وخلص الكلام بوداع وإطراءات، وخرجت من البيت ومرقت من مكان فيه إعلانات، قرأت الاسم في الإعلان ولم أصدّق، قلت إن لدينا أسماء كثيرة متشابهة، ورفضت أن أنظر إلى الصورة، وعندما عدت في المساء فتحت موقع بانيت، رأيت الصورة والإعلان!!!!
هل كانت محادثة الصباح رسالة وأمانة؟
ليت أحدكم يجيب على هذا السؤال.. لكنه أطلّ بنظرته من فوق النظارة ومن تحتها، وبصوته أعطاني الشجاعة لأقفَ أمامكم وأقول كلمة منقوشة في الذاكرة في حقّ د. سلين مخولي!
تلا العريف قصيدة وديع الصافي لد. سليم مخولي:
صافي كماء المزن ينقط صافي/ في القلب صوتك يا وديع الصافي/ ينساب صوتك في المسامع خمرة/ أنغام همس جداول وضفاف/ يا أرز لبنان الحبيب تحيّة/ لمليك فنّ نادر الاوصاف/
ومع الفن ننتقل إلى الفنان الشاب الأنيق عازف الكمان والمُلحن مراد خوري، لنسمع إلى معزوفةٍ شجيّة ومقطوعة موسيقيّة مِن تأليفه!
ثم تلا العريف من قصيدة بين الورد والخنجر لد. سليم مخولي:
وأرض صراع/ طابة مطاط/ تعلو تهبط/ تأتي تذهب/ كالريشة آه في ريحٍ/ تضحك تبكي/
تغفو تصحو/ وطن يصغر/ وطن يكبر/ بين الوردة والخنجر/ شعب يتغيّر/ شعب يتحرّر/
وكان لنا وقفة قصيرة مع الصّحفيّ نايف خوري المنتدب عن المنتدى الثقافيّ في عسفيا:
في الندوة الأخيرة التي أقامها منتدى البادية في عسفيا حول مسرحية الزينة، تحدّثنا مطوّلاً وبإسهاب وبتوسّع عن أفكاره التي طرحها في المسرحية قبل وفاة د. سليم بأيّام، والمنتدى يفتقد لهذه الشخصيّة المُشرّفة، وهذا الطعم الجميل الذي لمسناه في شعره ونثره، ونُعزي أنفسنا بأن ذكراه باقية في نفوسنا وقلوبنا.
أكثر ما يحز في النفس أن يتحوّل المتوفى إلى رقم، ولكن د. سليم كبُرَ مع إنتاجه وإبداعه وإعماله، وخاصّة في المجال الفنيّ في رابطة إبداع، وكانت له الفكرة الصّائبة والرّؤية إلى ما بعدَ ما تراه العين، وها هي الجمعيّة تتابع المسير بعد افتقاده!
يُروى عن مؤتمر عُقد في اليابان لجرّاحين ومتخصّصين، لبحث آخِر مستجدات الطبّ وكيفية وضع الأمور الحديثة في حياة الإنسان، وقال رجل دين كان معهم:
– أنتم تستطيعون اجراء عمليات وزرع أعضاء، ولكنكم لا تعرفون أين موطن روح الإنسان، والأمر الثاني أنكم لا تستطيعون إعادتها..
ولكن د. سليم باقٍ في أرواحنا وأرواح مُحبّيه وفي عائلته الواسعة، فما تحوّلت روحه إلى مجرّد رقم ومجرد إنسان أو روح هائمة، بل إلى شخص كبير، إلى هرم كبير يجب أن نقوم بواجبنا تجاه أفكاره ونشاطاته.
في يوم سألني:- كيف أستطيع أن أخدم قضية القرى المُهجّرة إقرط وكفربرعم؟
فذهبنا مع مجموعة من الفنانين لهناك، وقضَوْا يومًا كاملا في رسم معالم هاتيْن القريتيْن وحجارتها المُهدّمة وقال:
– نرسم هذه الحجارة المُهدّمة والمنازل التي سقطت، لأنّنا نريدُها أن تعود واقفة، وإن لم تكن واقفة على أرض الواقع، فعلى الأقل نريدها أن تكون واقفة ونثبتها في لوحاتنا..
ما أرجوه من المؤسّسات التي كان فيها د. سليم عضوًا فعّالا وليس مجرّد عضو، مثل منتدى البادية في عسفيا، رابطة إبداع، وفي مجتمعه كفرياسيف وفي مجتمعنا العربي، أن نوفيِه حقه بتأبيد ذكراه الطيّب، إمّا بفعاليّات ونشاطات وإطلاق اسمه على مواقع ومؤسّسات تُخلّده.
العريف تلا قصيدة لد. سليم مخولي:
عن ذاتك اخرجْ- اِتبعني/ اُخرجْ من قطرة ماء/ من حزمة ألوان الصّمت اتبعني/ أَغمض عينيك هنا/ للحظة أفاف تجهلها/ أعمق من ليل الغجرية/ أقسى من موجة ريحٍ وحشيّة..
ونبقى مع كلمة د. منير توما:
أيّها الحفل الكريم.. لا أريد التحدث عن د. سليم مخولي الأديب والشاعر، بل سأتحدّث عن الفنان التشكيليّ في شخصه الكبير، الذي اجتمعت فيه مواهب وصفات صاحب الرؤية التي جعلت منه فنانًا أصيلاً، لأنّ كلّ صاحب رؤية هو فنان، وليس كلّ فنان صاحب رؤية!
كان د. سليم مخولي الفنان الصّادق في فنّه؛ رومانسيًّا وواقعيًّا، وهو الذي كان يُزاوج بين الذاتية والموضوعية مزاوجة الائتلاف!
لقد أحبّ وعشق الفنون الجميلة إلى أقصى الحدود، لأنه أدرك وأيقن بحدسه الثاقب أنها عنوان تمدّن الأمم، والدليل على ذلك، ما بلغه فنّه في الرّسم والنحت من درجة في السّموّ الرّوحانيّ، لأنّ الدّاعي إلى حبّ الفن والميل إليه والولوع به هو حبّ الجمال، والباعث لنشاطه لطافة الذوق ورِقّة الإحساس وقوة الشعور الحيّ، فالفنّ يكون جميلاً عندما تعمل اليد والرأس والقلب معًا، وهذا ما اتّصف وتحلّى به في حياته المُفعمةِ بروح العطاء والإبداع على مختلف الصّعد، فكان إنسانيّ النزعة بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى، وعلى شتى المستويات عامّة وفي فنّه خاصّة، فالفنّ هو الأسلوب، والأسلوب هو الإنسان، ومِن طبيعة الفنانين الصّفاء والتسامح والانفتاح، وكلّ فنّ يحملُ نورًا إلى الآخَر.
د. سليم ككلّ فنان أصيل كان يغمس فرشاته في روحه، ويرسم طبيعته الخاصّة في رسومه ولوحاته، ليكون الرّقيّ لديه في اجتماع الفنّ والعلم والأخلاق.
إنّ الفنّ لا يقوم على المواد من ألوان وأقلام وحجارة، ولا هدفه التسلية والإغراء والشعوذة، بل هو أوّلاً وأخيرا أداة تهذيب، وهو رسالة سامية مقدّسة. إنّه الشّيء الآخر الأبعد في الإنسان، والذي نسعى لأن يجد شكلاً يُعبّر عنه، ولم نجده حتى الآن، ومع أن كلّ شيءٍ ينقضي، فإنّ الفنّ وحده يبقى لنا؛
فالتمثال يدوم أكثر من العَرش، واللّوحة الرّائعة الخلاّبة تعيش أكثر من أصحاب العروش، حيث يرجع الفضل في ذلك إلى الفنان الذي أبدع وجسّد ذلك بأصابعه وبيديه وبريشته وإزميله، وهكذا فإن كلّ رسمٍ رُسِمَ بعاطفة وإحساس هو رسمٌ للفنان لا للنموذج المرسوم، وهذا ما كان يتبنّاه ويؤمن به د. سليم مخولي ممارسة وتطبيقا، كسائر الفنانين الموهوبين الكبار!
لقد تماهى من خلال لوحاته الفنيّة الرّائعة شكلاً ومضمونًا مع قول جبران خليل جبران، بأنّ الفنّ ليس بما نسمعه أو نراه، بل هو تلك المسافات الصّامتة وبما توحيه إليك الصّورة، فترى وأنتَ مُحدّقٌ إليها ما هو أبعد وأجمل منها، وبالتالي كان يرى أنّ الفنّ ليس غاية في حدّ ذاته، بل وسيلة لمخاطبة الإنسانيّة في الحياة، حيث نعيش ونتألّم ونجهد.
وأخيرًا لا بدّ لي من القول بأنّ عظمة د. سليم مخولي كفنان ليست في يده، وإنّما في قلبه، فاليد لا تستطيع أن تفعل أكثر ممّا يوحي به القلب، فقد كان فنّانًا حقيقيًّا لأنّه كان شديد الحساسيّة، قادرًا على التعبير المُخلص الصّادق، ولم يكن بإمكان حساسيّته أن تعزله عن مجتمعه، بل كانت دائمًا تشدّه إليه، وبديهيّ أنه كان يُعبّر عن إحساسه بصدق وإخلاص، فإنّه لم يكن يُعبّر إلاّ عن مجتمعه وعن إحساسه وآلامه وأمانيه، فهو مُلتزم بمجتمعه ووطنه وأرضه وشعبه كفنان إنسان، وبجمال الطبيعة بوجهها الطاهر النقي الذي اعتبرَهُ بهاءً للخير، وشيئًا رائعًا وغريبًا يُبدعُهُ الفنان من فوضى العالم في عذاب روحه!
وأختم كلمتي بالأبيات التالية لأحد الشعراء، والتي تعكس لوحة فنيّة مرسومة بالكلمات، تحمل ما ورد من المعاني الشفافة حول عشقه للفنّ وللجَمال، ولا سيّما وأنّه كان يقدّسُ الجَمال الفنيّ بكلّ تجلّياتهِ البشريّة والطبيعيّة، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
كم تحدّى سرَّ الجَمال أناسٌ/ أقدموا نُكُصًا وقاموا قعودا/ فرآه المخمور كفًّا تُديرُ الكأ/ سَ صِرفًا أو تعصرُ العنقودا/ ورآه الغنيّ وَقْعَ دنانـ / يرَ يُشنّفنَ سَمْعَهُ تغريدا/ ورآهُ الفقيرُ في العُريِ ثوبًا/ مع الجوع قصعةً وثريدا/ هكذا أبصرَ الجَمالَ أناسٌ/ حدودَهُ فأخطؤوا التّحديدا/ فاتَهُم أن يَرَوْا ملائكةَ العر/ شِ حواليْهِ رُكَّعًا وسُجودا/ ويدُ الله فوقَهم ترسُمُ الفجْـ/ رَ على الأفقِ مُقلتيْنِ وَجِيدا/
وفي كلمةِ العائلة قال ميخائيل بصل؛ ابن أخت الفقيد ومدير قسم المعارف في مجلس كفرياسيف المحلّيّ:
أهلاً وسهلاً بكم يا أهلَ الفنّ والآداب وأَيُّها الأحِبّة والأصحاب
هُدُوءٌ فَسَكينَةٌ وَعَبْرَةٌ مُنْسَكِبَةٌ وتوأَمَتُها على أَسْكُفِ العين مُتَلأْلِئَةٌ.. وكَأَنَّنا عَلى سَمْعِ وَقْعِ دَعَساتِ قَدَمَيْهِ على الدرَجاتِ المُؤَدِيَةِ لِهذا المَكان َودُخولِ شَخْصِهِ المَهيبِ حَسَنَ الحِبْرِ والسِبْرِ! أَوَيُعقلُ أَنْ يَلْتَئِمَ اليَوْمَ شَمْلُنا بِدونِهِ ولِذِكْراهُ؟
أَتَتْ ساعةُ الزَّوالِ ومالت ِالشَمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّماءِ، بلَمْحَةِ طَرْفٍ فَقَدْناهُ فَما وَجَدْناه، وَكَأسُ الفَنِّ ما زالَت طافِحَةً بِيَدَيْهِ.. باغَتَنا الفَرْضُ المَقيتُ فدَبَّ الفَزَعُ بأَعْماقِنا زارِعًا في النَفْسِ جَزَعَ التَلْميذِ توما حينَما قال:- “إنْ لمْ أُبْصِرْ في يَدَيهِ أَثَرَ المساميرِ، وأَضَعْ إصبعي في آثارِها كما أَضعُ يَدي في جَنبِهِ، لا أومِن”.
اليقينُ كَرَدَ أوصالَ الشكِ كردًا وبعثرَها رمادًا في الفضاء، فصارَتْ لهُ بينَ الناسِ جَنازةٌ وبَيْن المَلائِكةِ حَفاوَةٌ.. سُدِلَ السِتارُ بينَهُ وَبَيْنَ الحَياةِ، وَسُرِّحَت الرّوحُ مِن صاحِبِها الحُرِّ الأبيِّ مُنْطَلِقَةً نَحْوَ السّماءِ، فافْرَحي أيّتُها السَّماءُ وابْتَهِجي بِما تَحْمِلين، فأنْتِ الرابِحَةُ وَنَحْنُ الخاسِرون..
وَعادَ الشلا الهَشُ مِن حَيْثُ أَتى لِيُطَيِّبَ الثَرى، فَمَحْسودَةٌ أَنْتِ أيّتُها الأَرْضُ بِالمَقْدور وَقَد اسْتَرْجَعْتِ غَدْرًا أَضْعافَ أَضْعافَ ما أَعْطَيتِ.. فَشَتّانَ ما بَيْنَ الصّبا والنّهاوَنْدِ، وبَيْنَ ما كُنّا عَلَيْه وَما نَحْنُ فيه.
أَنْتَ خالي… وَما أَعْظَمَهُ مِنْ لَفْظٍ يَحْمِلُ أَرَقَّ وَأَسْمى المَضامينِ وَالمَعاني! بِشَهْرِ أيّار عام 2008 هاتَفَتْني سِكْرتيرةُ جَمْعِيةِ “إبْداع” وَطَلَبَت مُوافَقَتي بِناءً عَلى طَلَبِكَ، عَلى نَشْرِ ما كَتَبْتُهُ لَكَ في مُدَوّنَةِ المُلاحَظات، يَوْمَ شارَكْتُكَ كَغيري في افْتِتاحِ مَعَرض ِرُسومَاتِكَ، الذي حَمَلَ اسْمَ “كفرياسيف بلدي”، وَكانَ لَكَ ما شِئْتَ كَما دائمًا، فَأَنْتَ خالي، كَتَبْتُ لَكَ ما شَعرْتُ بِهِ تجاهَك في حينِها، الأَمْرُ الّذي أَسَرَّكَ وَقَدْ سُرِرْتُ لِسُرورِكَ، وَقَدْ خَطَّ قَلَمي ما يلي :
لَدَيْنا في صالَةِ العَرْضِ التابِعَةِ لِجَمْعِيَةِ “إْبداعٍ” عَمَلٌ فَنِيٌّ جَديدُ وَمُمَيَّزٌ يَحْمِلُ اسْمَ “كَفْرِياسيف بَلَدي”، حقًّا إنَّهُ حِكايَةُ قَرْيَةٍ؛ قَريَتي. كُلُّ عَملٍ فَنّيٍّ جَديدٍ يَنالُ كَاْلعادَةِ مُعالَجَةَ النّاقِدِ الْفَنيِّ، الذي يُوَجِّهُ مِن خِلالِ نَقْدِهِ القارِئَ أوِ المُسْتَمِعَ أوِ المُشاهِدَ إلى مَدى نَجاحِ العَمَلِ ذاتِهِ، وأيًّا كانَ قَرارُ النّاقِدِ فَهُو لَيَسَ بِالضَرورَةِ الحُكْمُ النّهائِيَّ عَلى العَمَلِ، إِنّما يُقاسُ نَجاحُ النّتاجِ الفَنِّيِّ بِمَدى تَفَاعُلِ الإنْسانِ العاديِّ مَعَهُ.
فَمَن يَرى الرّسوماتِ المَعْروضَةِ يَحيى وَيَعيشُ مِنْ خِلالِها الماضِيَ الجَميلَ، بَعيدًا عَن الحاضِرِ وَمَشاكِلِه، وَتَحْضُرُهُ ذِكْرَياتٌ يَتوقُ إليْها مِنْ أَعْماقِهِ، وَيَقِفُ فاغِرًا فاهَهُ اسْتِهْجانًا لِجَرِيمَةِ التَنَازُلِ عَنْ هذا الجَمالِ والتَّخَلُصِ مِنْهُ، وكأنَّهُ أمْرٌ مَعيبٌ، مِنْ أَجْلِ مُواكَبَةِ الحَضَارَةِ والشَّارِعِ والسَّيَارَةِ. عُنْصُرُ التَفاعُلِ هُنا قَويٌ جِدًّا، فَالمُشاهِدُ لِهذِهِ الرّسوماتِ يَرْتَبِطُ بِها ارْتِباطَ الطِفْلِ بأُمِّهِ، ويَشْعُرُ بِحاجَةٍ روحانِيّةٍ لِهذا الارْتِباطِ، كَحاجَةِ تيَنةِ السَبْتاءِ لقطْرَةِ الطلِّ.
فَهَل مِن حاجَةٍ لِناقِدٍ فَنِّيٍّ يُقَيِّمُ هذا العَمَلَ المُتفاعَلَ مَعَهُ لَحْظَةَ الانْكِشافِ لَهُ؟!
يا أبا الفُنونِ الجَميلَةِ؛ النَحْتِ والرَسْمِ والشِعْرِ.. يا صاحِبَ الأنامِلِ الرَشيقَةِ التي جَسَّدَتْ تَفْكيرًا وَطَنِيًّا وَفِكْرًا حَميمًا، وَأَحْيَتْ تاريخًا ما زالَ عَبَقُهُ يَسْحَرُنا، لَقَدْ رَوَّضْتَ ريشَةً عَصْرِيَّةً مُتَمَرِدَةً وَجَعَلْتَ لِتاريخِنا لَوْحَةً شاهِدَةً عَلى ما مَضى لأَجْيالِ الحاضِرِ والمُسْتَقْبَلِ.. إرْثُكَ أَكْبَرُ مِن لَبَد.
أَنْتَ قُدوَةٌ لِلتَّمَثُّلِ والاحْتِذاءِ بالانْتِماءِ لِهذهِ القَرْيةِ العَريقَةِ، فَأنْتَ المُنْتَمِي فِعْلاً، وانتِماؤُكَ انْتِماءُ فِعْلٍ لا انْتِماءُ قَوْلٍ، ولا انْتِماءُ رَفْعِ شِعارٍ بِمُناسَبَةٍ عابِرَةٍ .
واختتمتُ كاتِبًا مُتسائِلًا بِتَواضُعٍ ودَعابَةٍ: هُناكَ مَثَلٌ شَعْبِيٌ يَقولُ ” ثُلْثَيْنِ الوَلَد لخالو” مثلٌ قَدْ يَكونُ فيهِ اليَوْمَ بَعْضُ عَزاءٍ لأُمي رَغْمَ أَنَهُ حَيَّرَني وأخرَجَني عَنْ طَوْعي وَأَرْهَقَني؛
فأَنْتَ الطَّبيبُ المُداويَ وأَنا بِالكادِ أُضَمِّدُ جَرْحي/ أنتَ شادي الشعرِ وأَيْنَ أَنا مِنْ أَحْرُفِ الهِجاءِ/ أَنْتَ الرّسَّامُ وَريشَتي أَنا تَأْبى إلاّ أَنْ تَكبُوَ لِتنام / أَنْتَ النَحَّاتُ وَازْميلي أَنا صدئٌ أَصْلَد / أنت َميرُ الكلامِ مِنْ مَنْثورِ القَوْلِ وَمَنْظومِهِ/ وَأَنا مُجَرّدُ مُسْتَظِلٍّ بِدَوْحَتِكَ الفَيْنانَةِ الغَنَّاءِ؟/
وَفي النّهايَةِ وبَعْدَ هذِهِ التّساؤُلاتِ وَجَدْتُ نَفْسي مٌعَزّزةً مُنْتَصِرَةً بِكَ، “فَمَنْ لَهُ خالٌ مِثْلُكَ يَسْتَطيعُ كَما قالَ المَثُلُ: “أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ وَيَهِتَّ بِشَعْرِ خالِهِ .”
هذا ما كتبتُ.. وَبَعْدَ أَيامٍ، صُدْفَةً الْتَقَيْنا، بادَرَني بِسُؤالٍ تَكَلَّلَ بِابْتِسامَتِهِ الخاصّةِ: هَلْ حَلَقْتَ شَعْرَك؟ فابْتَسَمْتُ مَسْرورًا لِرِضاهُ عَنّي .
هُناكَ دائِمًا رَجُلٌ واحِدٌ يُحْدِثُ الفَرْقَ، هَكَذا كان فارِسًا في كُلّ مَيْدان نَقَشَ اسْمَهُ في سِفْرِ الوُجودِ، وهكَذا سَيَبْقى حَيَّا في وُجْداني وَفي وُجْدانِ البَقاءِ، فَكُلُّ رَجُلٍ يَموت وليسَ كلُّ رجلٍ يحيا، فَهَل نَحْزَنُ فُراقَهُ فَحَسْبْ، أَمْ نَحْزَنُ وُجودَنا بِدونِهِ؟
تَرَكَنا، فَإِنَما الدّنْيا لُعَاعةٌ والعُمْرُ دَعْداعٌ نَخالُهُ أَحْيانًا أَزلا، بَعْدَ أَنْ مَدَدَنا بزادٍ لَهُ عِنْدَنا المَنْزِلَةُ الشَّريفَةُ، فَمِنْ زَرْعِ يَديِهِ يَطيبُ الحَصادُ، وَبَيْنَما يَحْتَلُّنا شَبَحُ غِيابِ الجَسَدِ، يَلُفُّنا عَطاؤُهُ الجَزيلُ ليُبْقِيَهُ بَيْنَنا دائِمًا، وَكَأَنّ لِسانَ حَالِهِ يَقولُ:- “لا.. لا أُريدُ أَنْ يَنْتَهِيَ عُمْري”.
فَهَنيئًا لَهُ، لأَنَّ سَجاياهُ في النّفوسِ ترَسّخَتْ لِنَتَذَكَرَهُ أبَدًا، بِثَغْرٍ باسِمٍ وَبِهامَةٍ مَرْفوعَةٍ وَبِعَيْنٍ دامِعَةٍ، فالتِّذْكارُ شَكْلٌ مِنْ أشْكالِ اللِّقاءِ.
وَإلى أُسْرَتِهِ المَفؤودَةِ وَما أَقْرَبَها إليَّ أقولُ:
سيروا عَلى دَرْبِهِ الحَبيبِ، فَنِبالُكُم كَسِهامِكُم ثاقِبَةٌ، وَتَمَتّعوا في نَعيمِ العَيْشِ، فَسَليمُكُم سَبْطُ اليَدينِ فاخَرَ إبراهيمَ بِالفِداءِ، عاوِدوا بَيْتَ والِدِكُم، لأنَّ ماضِيَكُم يَقْطُنُ فيهِ، ولتستدفِئوا بِعَطْفِ أُمّكُمُ الحنونِ!
وتحدث مُنظّمُ المعرض الفنّان إيليّا بعيني- “ذاكرة إنسان”:
معرضُ “ذاكرة إنسان” نقيمُهُ تكريمًا لذكرى رحيلِه، رحيل طيّب الذّكر الشاعر الأديب الفنّان د. سليم مخولي!
في أحد أيام عام 1995، توجّه الرّاحلُ إليَّ مُستفسِرًا حول إمكانيّاتِ استكمالِ تعليمِهِ للفنون، فاقترحتُ عليه الالتحاقَ بقسم الفنون في كليّة الجليل الغربي، وهناك أنهى فيما بعد دراسته، فانضمّ إليّ في مسيرة دربٍ طويل؛ ابتدأناه معًا في فكرةٍ ثمّ تصميمٍ وعمل، وأنهيْناهُ مُكلّلاً بورودِ النّجاح؛ ابتدأناه بإقامةِ رابطةٍ للفنانين التشكيليين العرب “إبداع”، وأنهيْناهُ في تطوير الفن وتعزيزه في مجتمعنا؛ بدأنا معًا، وسِرنا معًا، كابنٍ وأبٍ يَسيران سويًّا في دربِ الفنّ، لكن سرعان ما اختطفته يدُ المنون، ليترجّلَ عن حصان الفنّ، تارِكًا آثارًا تقطرُ بالشّهدِ والدّسم.
لقد رسم الفنّانُ بيتًا، فكان البيتُ مأوًى للمحبّةِ، بل منزلاً هجَرَهُ المُحبّون قهرًا.
لقد رسم الفنان شجرةً، فراحت أوراقها تتأرجحُ خفيفةً لتختالَ الثّمارُ بينها؛ ثمرُ الرّوح الوديعة والنّفس الهادئة؛ بل شجرة لربّما تكسّرت أغصانها، لتبقى جذعًا صامدًا في وجهِ الرّيحِ، وجذورها متأصّلة في ثرىً يحتضنُ رفاتِ الأجداد.
رسمَ الفنّانُ بالماءِ مِن زرقةِ اليمِّ سماءً، فأمسى البحرُ جيّاشًا تقذفُ أمواجُهُ درَرَ التاريخ الغابر، وتكشفُ كنوزَ الآباءِ والإباء وقد سبَرَها الأجل.
قال جبران خليل جبران:- “الفنّ أن نؤدّي روحَ الشّجرة، لا أن نصوّرَ جذعًا وفروعًا وأغصانًا وأوراقًا تشبهُ الشّجرة.. الفنّ أن نأتي بضمير البحر، لا أن نرسمَ أمواجًا مُزبدة أو مياهًا زرقاءَ هادئة”!
لقد رحلَ رفيقي وغاب أليفي، ولكن وإن ماتَ فلا زال يتكلّم بعد. لذكراكَ يا صديقي أُنظّمُ هذا معرض “ذاكرة إنسان”!
وتحدّث الفنّان التّشكيليّ إبراهيم حجازي عن انعكساتٍ وطنيّةٍ في لوحاتٍ فنّيّة:
لوحاتٌ فنيّة بألوانٍ مائيّة.. تغرق الأوراق بعناصرَ تشكيليّةٍ مِن الوطن؛
عقودُ البيت العربيّ القديم، كرومُ الزّيتون، طرقاتُ وأزقّةُ البيوت، عين الماء، برجُ الكنيسة، والعديدُ من اللوحات الفنيّة مِن أجواءِ وملامح قرية كفر ياسيف.
هذا التّوجّهُ في الرّسم يدلُّ على مدى ارتباط الفنّان حسّيًّا وتشكيليًّا بوطنه، من خلال توثيق ذاكرة المكان وخاصّة بلده كفر ياسيف.
استطاعَ الفنان د. سليم مخولي أن يُوظّفَ اللّونَ بتقنيّةٍ عاليةٍ في خدمةِ موضوعاتِهِ الفنيّة.. ويُسخّرَ اهتمامَهُ البارزَ بشفافيّةِ الألوان وبتحسّسِهِ لروح المادّة، التي تعني تفاعل الفنان تقنيًّا وفكريًّا مع مخزون الصّور الذّهنيّة، لمُركّباتِ الوطن مِن الماضي البعيد القريب..
نلاحظ جيّدًا المداعبة بين اللّون والشكل في تكوينات اللّوحة عند د. سليم، لتضيفَ رونقًا وإيقاعًا في أسلوبٍ انطباعيٍّ مُميّز، في توثيق ذاكرةِ المكان والزّمان…
رافقتُ الدّكتور سليم في جولةِ رسم في الطبيعة في قرية البصّة المُهجّرة، ضمنَ مشروعِ معرض بعنوان “مشهدٌ من بلدي” بتاريخ 28-3-2009، الذي قمتُ بتنظيمِهِ والإشراف عليه في صالة العرض التابعة لجمعية “ابداع”، وما زلتُ أتذكّرُ خطواتِ الدكتور سليم في تحرّكاتِه وطريقة رسمه، وهو يتنقّلُ مِن مكان إلى آخر، في حالةِ تأمّلٍ وتفحُّصٍ لبقايا أشياء موجودة لأبناء وطننا النازحين..
لفتَ انتباهَهُ الطّلاءُ المنقش الموجود على جدران البيوت، ما يدلّ على البُعد الزّمنيّ للتّهجير.. كان يعملُ تخطيطاتٍ سريعة بقلم الفحم مِن زوايا مختلفة .. حتى على سطح البيوت .. محاولاً احتضانَ المكان بكلّ جوارحِهِ وأحاسيسهِ .. ليستكشفَ مشهدًا جديدًا ..
كان يلمسُ حجارة المكان وبعضَ ما تبقّى مِن شبابيك وبلاط من البيت المُهجّر .. يُسجّلها في تخطيطاتِه .. التي حوّلها فيما بعد إلى لوحةٍ بالألوان، لتترك انطباعًا قويًّا لدى المتلقّي ..
الدّكتور سليم مخولي كان فنّانًا شاعريًّا برسوماته، وشاعرًا رسّامًا بأشعاره .. كان ذاكرةً لإنسانٍ رحلَ عنّا جسديًّا، ولكن فنّه وروحه خالدان فينا ..
وتلا نعيم سليم مخولي النجل قصيدة بعنوان عتب:
اِدمعي يا عين دمعاتك سخيّة/ اِدمعي واسقي خدودَ ورديّه
قالت، نشف البحر اللّي كان يدمع/ وتا إدمع بعد ما عاد فيّي
بقولو، كثر الزعل شو عاد ينفع/ وكفّي حياتك اليوم يوميه
قلتلن، كيف ممكن والقلب يوجع/ وما بينفعو ولا عمليّة جراحيّة
سألت الزمن بلكي شويّة يرجع/ ويمحالي لحظة من حياتي، خريفيّة
قالّي بإيدي ما عاد شي يطلع/ طلبك، عند ربّ السّماوات العَليّه
وعا سكون الليل، اللّي غيرو ما كنت أسمع/ وقمر سهران، ونجومو حواليّه
وقفت، وعالسّما عيوني صرت أرفع/ صرخت بصوت، وبغصّة قويّ،
قلت، قلت كيف إلك قلب يا رب تقطع/ خيوط الحياه عن نفس بَيّي
مِن بَيّي يا ربّ ما لحقت إشبع/ يا دلّ إختي؛ ويا دلّ خيّي
قالي يا بنيّي، منّك ما كنت أتوقع/ هيك حكي، وترَوّى شويّة
روح بيّك، في جنينتي تتمتع/ بنعيم حياتها الأبديّة
روح خبّر البشر تا الكلّ يقشع/ شوعِمل بيّك بحياتو الغنيّة
بيّك لغير الرّب ما كان يركع/ وبحياتو ما انحنى للرّيح العتيّة
وللذلّ، بعمرو ما كان يخضع/ تحدّى الظلم بأعمالو السّويّة
وسِهر الليل مع نجم يلمع/ تا يلبّس هالوطن، حلّة بهيّة
بالمال والمظهر، ما كان يطمع/ وما همّتو هالأمور الهامشيّة
للناس، بالأدب والفن كان مَرجع/ برَسْم، ونحت، وأبيات شعريّة
وما في حفيد إلاّ عصدرو ادّلع/ وضمّو بعطفو، وبكلّ حِنّيّة
قالي، قالي شو بَعد بدَك تسمع تا تسمع …
لو شكرت ربّك، باليوم ألِف مرّة/ ما راح تكافيه، عَ هيك عطيّة
وسكرتيرة رابطة إبداع نادة شحادة كانت لها مشاركة بعنوان: تـَعجـّلتَ الرّحيلَ
بـَكـَتــْكَ نـفـسي/ بــكائي سقــيـم/ عيـنــي حزيــنـةٌ/ ودمعــي يتــيـــم
تعـجّــلتَ الرحيلَ/ مِـن دونِ موعــدٍ/ فـبـاتَ العــمـــرُ/ مشــوارًا حـزيــن
بـــتــنـا رمــــادًا/ على أطــرافِ دهــر/ تـذرونــا الريــاح / تقلبــنـا السنين
تــعـجّلتَ الرحـيـلَ/ في عــزّ النــــهارِ/ فالشمــسُ ثـكلى / والمساءُ حــزيــن
سـهـامُ المــوتِ/ تـغتــالُ الغـوالـي / وسيــفُ الغــدرِ/ حــرٌ لا يـــليـــن
عهـدتـُك شامـخًا / فـي كــلّ مَحـضرٍ/ أبـيًّــا وفــيّـًا / مـعطـاء رزيـــن
روحـُك البـيــضاءُ/ في الجنــّات تلهو / وصوتـُــك الرنــّــان/ يـهمـسُ بالحنـين
تـقلـّدْتَ المناصبَ/ دون فــخـرٍ/ فـَعـِشت حُــرًّا / مرفـوعَ الجبـيــن
أنـت في الإبـداع ِ/ بـحرٌ مـن خيــالٍ/ تـجــودُ بــروحـكَ/ فـي كـلِ حيــن
أبـا حــبـيــــبَ/ أهديـكَ دمعــي / جرحــي كبـيــرٌ/ يـنضــحُ بالأنـيــن
تــصــونُ العهــدَ/ لا تــرضى بـِزائـفـةٍ/ كـَحِدّ السيـف تـقطـع / لكـن دون إيــــــــلام
تاريــخـك المــعهــودُ/ رمــز لكـُلِ حـُرًّ/ إن لم تشهدْهُ نفسي / فلـْتشْهَدْهُ أيـّامي
نلـومُ المـوتَ/ إذ واراك عنّـا / لا يـُـجدي لـومي/ ولا يُجدي عتابي
كريــمُ النـفسِ/ صادقًــا ورعًـا / لا يفنـى حــرٌّ/ تحـت الــترابِ
جـئـتُ راثــيـة ً/ أمـام روحـِك أنـحَنـي / عزيـزًا جليــلاً/ لا يعلو على أحدِ
الرّجـالُ بالأفعـالِ/ تـُحتـَسَبُ / لا بالـرقمِ والـعددِ
أُقـدّسُ فيـكَ/ روحَ الـعلمِ والأدبِ/ رمـزَ العطاءِ/ مدى الأزمان والحقَبِ
لـِمَ الفـُراق أبا حـبيــبَ/ وقـد عـزّ اللقـاء/ قـد كنت نورًا/ يضيءُ أرضًا/ فـَـبـِتّ نجمًا/ يسطع ُفي السّماءِ
كريــمُ الــدّار/لا تفنى مودّتــُهُ/ يــجودُ بحـُـبـِهِ/ بين الدّقائق والثواني / يهيمُ في بـحر البـحور
مُستشْعـِرًا لـَبـِقًا / فشعره يزخرُ بالمعاني
حملتَ رايةَ الإبداع ِ/ وكنـتَ صاحبـَـها/ صنعــتَ العجائبَ/ مِـن أرض العـَدَمْ/
حبـرُك ســّيالٌ/ ولونــُك ناضـرٌ/ بـَكـَتْـكَ ريشتـُك/ وبـَكـاكَ القلم ْ
هـَرَم ٌتــوارى في الثـّـرى / بـِطيـب الـروح ِوالجسد/ لن ننساك أبا حبيــب/ ذكرك باقٍ إلى الأبــدِ
بقلم آمال عوّاد رضوان