قناديلُ ملكِ الجليل تُضيءُ فضاءَ النّاصرة!
تاريخ النشر: 10/02/12 | 23:05بدعوةٍ من بلديّة النّاصرة؛ دائرة المراكز الجماهيريّة، أقيمت ندوةٌ ثقافيّة حول رواية “قناديلُ ملكِ الجليل”، للشّاعر الرّوائي الفلسطينيذ الأردنيّ إبراهيم نصرالله، وذلك في مكتبة أبو سلمى البلديّة العامّة، في قرية توفيق زياد التعليميّة في حيّ شنلر، بتاريخ 8-2-2012، وبحضورِ عددٍ كبيرٍ مِن المُثقّفين والمُتابعين للحركة الثقافيّة في البلاد، وهذه الرّواية تتحدّث عن القائد الفلسطينيّ ظاهر العمر؛ مؤسّس مشروع أوّل دولةٍ فلسطينيّةٍ في القرنيْن السابع عشر والثامن عشر، وقد رحّبَ الشاعر مفلح طبعوني مركّز هذه الندوة بالضّيوف، ومن ثمّ قدّم المهندس المعماريّ الفنّان زياد أبو السّعود الظاهر شرائحَ وصورًا فنيّة عن تاريخ القائد ظاهر العمر، واختتمَ اللقاء د. جوني منصور بمحاضرةٍ وافيةٍ وغزيرة، عالجَ فيها أحداثَ الرّواية وتطوّراتها تاريخيّا.
افتتح الندوة الشاعر مفلح طبعوني بكلمة ترحيب بالحضور والضيوف وقال:
في هذه البلاد نحن نعتزّ بظاهر العمر الذي تواصلَ مع الأرض والوطن بكلّ الطّرق الإيجابية، وكانت قمّة التواصل بالسّير فوقها حافي القدميْن ليشعرَ بها وتشعرَ به، ليشعرَ بترابها وبرْدِها وحرارتها، ونحن نعتزّ بأنّنا أحفادُ ظاهر العمر الذي عانق الوطنَ والوطنيّة، كما تعانقُ الأمّ أحفادَها، وقد نشرَ العدلَ ودافعَ عن المرأةِ وتصدّى للطّائفيّة.
وبمُراجعةٍ ثاقبةٍ لصفحاتِ التّاريخ وأرشيفِهِ في تلك الفترة الظّاهريّة، نستدلّ على وضوح الرّؤية عند ظاهر العمر، وأهمّية بناء الدولة القوية بالاقتصاد والعسكرة والأهمّ بالديمقراطيّة!
ومِن أقوالِهِ الرّائعة والمتسامحة: “لا تهزمْ مهزومًا مرّة اخرى، ففي الأولى يفهمُ أنّكَ هزمتَهُ كجنديّ، أما في الثانية فإنّك ستهزمُهُ كإنسان، وبها لن يغفرَ لك”!
الصّراعُ طويلٌ وكبيرٌ بيننا وبين الأرض، وعلينا العمل بمثابرة على زرعِها وبنائِها، فهُم يقلعون ونحن نزرع، وهُم يهدمون ونحن نبني، ونحن نتعاطى مع تصوُّراتِها وتطوّراتها الماضية والحاضرة مِن أجل مستقبل أفضل للجميع.
الوضوحُ والشّفافيّة في عهد ظاهر العمر ساعدتا على تمركُزِهِ فوقها رغمَ قوّة التّشكيكِ والتآمر عليه وعلى مشروعِهِ الوطنيّ القوميّ، بعيدًا عن التعصّب والغضب، قريبًا مِن العطاءِ والوفاء، فهو بلوَرَ وأبرزَ هُويّة الأرض، وعملَ على هندسةِ الدّولةِ وكيانها، فاسمحوا لي ان أبعث بتحيّاتنا إلى الصّديق الشّاعر والرّوائيّ إبراهيم نصرالله على هذا العمل الجبّار، ونقول له: نحنُ بانتظارِ ملحمةِ قنايل مِن البحر إلى النهر!
وكانت لنا وقفة مع المُهندس المعماريّ الفنّان الرّسّام زياد أبو السّعود الظاهر، والذي ينحدرُ مِن سلالةِ القائدِ ظاهر العمر، الذي تحدّى الإمبراطوريّة العثمانيّة الاستعماريّة في أوج عظمَتها، وقد رسمَ تاريخَ ظاهر العمر بريشتِه، مُستوحِيًا لوحاتِهِ مِن التّاريخ وأبطالِه، لوحات تتمحورُ حولَ صُور شخصيّات، ولوحات حول مواقع أثريّة، مثل خان الشّواردة في عكّا وقرية صفّورية المُهجّرة، وقلعة شفاعمرو، فيرسمُ الأبطالَ الّذين تأثّرَ بهم، كلوحةِ الظاهر عمر حين كان مُتّجِهًا لمعركة بحيرة الحولة عام 1771 مع أبنائِهِ الثّمانية، وهو يجُرُّ مِن خلفِهِ ثلاثَ جيوش!
تهدذث الفنان زياد عن اللّقاء الذي دارَ بينَهُ وبين الشّاعر إبراهيم نصرالله في معرض رسّامين أردنيّين عن الخيول العربيّة، ودارَ الحديث بيننا عن الفنّانين الأردنيّين وتطرّقنا لتاريخ ظاهر العمر، وحينها أخبرني بأنه معنيٌّ بمعرفةِ تاريخ ظاهر العمر، ولكن لديهِ معلوماتٍ قليلةً ومُتفرّقة، فأهديتُهُ كتاب “تاريخ ظاهر العمر” من تأليف المحامي توفيق مُعمّر، مِن مُلحق الآثار، وقبلَ شهر ونصف وصلت رواية “قناديل ملك الجليل”، وسُررتُ جدّا بأنّني ساهمتُ في كتابة هذه الرّواية.
وبالنّسبة لكتاب ظاهر العمر من تاليف المحامي توفيق معمّر، فقد ابتدأت بالبحث عن أبنيةِ ظاهر العمر عام 1978، وكنتُ اتردّد على مكتب المحامي توفيق معمّر، وكان يُنقّلني تاريخَ ظاهر شفهيّا، وطلبَ منّي أن أصوّر بعض المواقع الأثريّة، وطبَعَها في كتاب عام 1979، ومِن ذاك الوقت وأنا أصوّرُ في الأماكن الأثريّة!
هاجرت قبيلة الزيادنة مِن الحجاز إلى بلادِ الشّام، واستقرّت في عرّابة في الجليل، في عهد جدّ ظاهر العمر عام 1650 عمر الزيداني، الذي وَلدَ صالح، وصالح وَلدَ خمسة أولاد أصغرهم ظاهر العمر الذي وُلد عام 1689 وتوفي عام 1775، وعام 1698 ورث الشّيخ عمر الزيداني عن والدِهِ التزامَ سهل البطوف والقرى المحيطة به، وعندما توفّي عام 1703 تركَ ديونًا متراكِمة على سهل البطوف، فرفضَ الإخوة تحمّلَ مسؤوليّة الالتزام، وسجّلوا الالتزامَ الرّسميّ لمنطقة البطوف مِن قِبل والي صيدا العثمانيّ باسم ظاهر العمر، وكان عمرُهُ 14 سنة آنذاك، لكنّه بسياستِهِ الحكيمةِ وعلاقاتِهِ الطيّبة مع جيرانِه، استطاعَ أن يحميَ أهلَ القريةِ مِن استغلالِ الوالي التّركيّ في صيدا، وتحوّلَ عبءُ الالتزام إلى مصدرِ رزق خصب، وإلى نواةٍ لحُكمٍ مُستقلٍّ في شمال فلسطين.
قدّمَ الفنان زياد شرائحَ مُصوّرة للوحاتٍ فنّيّةٍ رسمَها عن ظاهر العمر، الذي خلّف ثمانية أبناء وبنتيْن، فعرضَ الفنّانُ شريحة شجرة العائلة لظاهر العمر، الذي نقلَ مركزَهُ إلى عكّا عام 1746، وحينها بدأ بتعيين أبنائِهِ حُكّامًا، فأعطى طبريّا لابنِهِ الأكبر صْليبي ونسلُهُ في كفرمندا، وأعطى صفد لعليّ ونسلُهُ في رودوس وسوريا، وشفاعمرو لعثمان ونسلُه في تركيّا، وصفورية لسعيد ونسلُه في طمرة، وجبل عجلون لأحمد ونسلُه في إسطنبول، وصالح ونسلُه في طمرة، وسعد الدّين وعباس نسلُهما في النّاصرة!
عرضَ بورتريه ظاهر العمر الذي أخذه عن تاريخ بلاد الشام من الجامعة العبريّة، وألبسَهُ الملابسَ التي كانت مستعملة في ذاك الزمان، وعن الرّسام البريطانيّ ديفيد روبنس، كما عرضَ شريحة لبيت الشيخ عمر الزيداني في عرّابة، وأخرى فيها خارطة حدود دولة ظاهر العمر، أصدرتها منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي قسّموها لثلاث مراحل: الأولى كانت بين عرابة وطبريا والناصرة، والمرحلة الثانية هي شفاعمرو وصفد، والمرحلة الثالثة بعد عام 1744 عندما نقل عاصمته غلى عكّا، وآخِر خمس سنواتن مِن حُكمِهِ احتلّ مِن بيروت شمالاً حتى جبال القدس وغزة جنوبًا، ومِن جبل عجلون ودمشق شرقًا حتى السّاحل الفلسطينيّ، ومن عام 1710 – 1775 كانت فترة حكمه 65 عامًا.
عرض شريحة عن تاريخ الوطن العربيّ خلال 14 قرن، من إصدار الجامعة العربيّة عام 1981، والتي تُبيّن 22 دولة عربيّة، والمراحل التي حكَمَها الحُكّام منذ الخلفاء الرّاشدين والأمويّين والعبّاسيّين وحتى العثمانيّين والانتداب البريطانيّ الإنجليزيّ و”احتلال إسرائيل”، وفي الوسط دولة فلسطين المستقلة التي اعتبروها في فترة عمر ما بين عام 1750 و1775.
عرضَ شريحة أخرى عن سرايا الناصرة وأول بناية بناها عام 1730 لزوجتِهِ الدمشقيّة نفيسة، وكان يتردّد على السّرايا مرّة في الشّهر من عكّا، وعرض شريحة لقلعة صفورية التي بناها أحمد عام 1745 على أساساتٍ صليبيّةٍ، وبالقرب منها هناك مدرسة بُنيت عام 1920 في زمن الانتداب البريطانيّ!
عرض شريحة لقلعة شفاعمرو بناها عثمان بن ظاهر عام 1768، وعرض شريحة عن عكا بين الماضي والحاضر، وفي يوم دراسي نظّمته مؤسّسة الأسوار عام 1995 بمناسبة مرور 220 عام على وفاة ظاهر العمر، ورسمت عكّا الحاليّة وجامع الجزار والجامع الشّعبي خان الشواردة آخر خان بناه ظاهر العمر عام 1775، وعرض شريحة لقلعة شفاعمرو عام 1772، ظاهر العمر على يمينِه ابنه عثمان، وعلى يساره علي بيك الكبير حاكم مصر وحليف ظاهر العمر بعد احتلال دمشق.
عرض شريحة عن طبريا سمّاها “الاستعدادُ للمعركة”، وفيها ظاهر العمر طالع مِن بوّابة طبريا ضدّ سليمان باشا وادي الشام، الذي حاصرَ طبريّا عام 1741 مدّة شهرين ولم يستطع احتلالها، وعاد سنة 1742 وحاصرها 80 يومًا ولم يستطع احتلالها، ثمّ عادَ في أيلول 1743 ونزلَ في قرية لوبيا، وفي نفس اليوم أصابته حمّى في الأمعاء وتوفّي بعد ثلاثة أيّام، فهرب جيشه إلى دمشق وترك الأسلحة الثقيلة والعتاد على أرض لوبيا، ولا زالت آثار سور طبريا وسرايا طبريا.
عرض لوحة أخرى عام 1771 الظاهر عمر مع أولاده الثمانية، يخرجون مِن عكّا في معركة بثلاثة فِرق من الجيش، و16 مدفع، و7500 جنديّ مع ظاهر العمر، واجتمعَ في الناصرة مع المتاولة 2500 جنديّ مِن آل نصّار وآل أرسلان وآل جنبلاط من جنوب لبنان، واتفقوا أن يلتقوا في بحيرة الحولة، وكان بمواجهتهم 15.000 جنديّ من الأتراك، وكان النّصرُ حليفَ ظاهر العمر في أكبر معركة!
أمّا ضريح ظاهر العمر في مقبرة قرية المنشيّة بجانب مقام أبو عتبة ففيهِ غرابة، إنّ طوله 270 سم وعرضه 140 سم، وفي المصادر التي كُتبت عن تاريخ ظاهر العمر، مثل كتاب عبود الصّبّاغ ابن ابرهيم الصبّاغ، “الرّوضُ الزّاهرُ في أخبار ظاهر”، مخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس، رقم 1853، فإنّ إبراهيم الصّبّاغ كان طبيبَ ووزيرَ ظاهر العمر، وفي الكتاب الثاني “تاريخ ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل”، لبنان 1935 لميخائيل نقولا الصَبّاغ حفيد إبراهيم الصّبّاغ، كتبوا أنّه عام 1775 في شهر آب وصلت لميناء حيفا 12 سفينة حربيّة، بقيادة حسن باشا الجزائري قائد الأسطول العثمانيّ، وبعثَ مرسالاً لظاهر العمر أن يدفع سبعة آلاف كيس ذهب، لمدّة 25 سنة مضت وخلت منذ عام 1750 حتى 1775، فلم يدفعها، وكان المفاوض بينهما أحمد آغا الدّين قائد جيوش ظاهر العمر مدّة أربعين عامًا، الذي تآمرَ مع حسن باشا على فتح أبواب عكّا، مُقابلَ أن يُولّيه بدلَ الظاهر عمر، وحين شعرَ ظاهر بالخيانة خرجَ مِن السّرايا مع حاشيته باتّجاه حلفائِهِ في جبل لبنان، وفطِنَ إلى أنّه نسيَ زوجتَهُ عيشة في عكّا، فعادَ ليأخذها، لكن أحمد آغا أرسلَ له جنديّيْن قتلاه عن بُعد، وحين وقعَ عن حصانِهِ قطعا رأسَهُ وأحضراهُ لأحمد آغا، ليُقدّمَهُ هديّة على طبقٍ لحَسن باشا، فما كان مِن حسن باشا إلا أن قطعَ رأس أحمد آغا جزاءَ خيانتِهِ لسيّده، بتاريخ 27-8-1775.
د. جوني منصور شكر الفنّان زياد لهذه اللّوحات التي ترسمُ تاريخ شعبنا والمكان الجغرافيّ وملامحَ الشخصيّاتِ التّاريخيّة، ووسط هذه الأجواء نقلَ تحيّات الشّاعر والرّوائي إبراهيم نصرالله، وإنّ هذهِ النّدوة الأولى التي تُعقدُ في الوطنِ عن روايته.
وتابع: في حديثٍ دارَ بيننا قبل أربع سنوات حول تجميعِهِ لمعلوماتٍ وافيةٍ عن ظاهر العمر، وقال: حين توجّهتُ إلى فلسطينيين في المخيّمات، يبدو أنّ الهمّ الفلسطينيّ رابضٌ على قلوب ورؤوس شعبنا في المخيّمات، وحتّى أن كثيرين منهم لم يعرفوا مَن هو ظاهر العمر، فقلت له: إنّكَ لم تذهبْ بعيدًا، فلدينا أيضًا ظاهرة تشبه هذه الظاهرة، وهي أنّ التّاريخَ البعيدَ نوعًا ما، هو ليس قريبًا مِن القلب، لأنّنا نحن في همّ سياسيٍّ تاريخيٍّ خطيرٍ جدًّا، نعيشُهُ منذ عام النكبة 1948، وهو همٌّ وجوديٌّ وهمٌّ كيانيٌّ وهمٌّ مصيريّ، وانطلقنا مِن هذه النقطة، بأنّ حاجته ماسّةٌ إلى كيفيّةِ توفير المعلومات، إضافة إلى كتاب توفيق معمّر عام 1979، واستطعتُ تزويدَهُ ببعض المخطوطات والكتب مثل كتاب عبود الصبّاغ: “الرّوضُ الزّاهرُ في أخبار ظاهر”، (مخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنيّة في باريس، رقم 1853)، وقد تمّ تحقيق هذه المخطوطة عدّة مرّاتٍ ومِن عدّةِ إشخاصٍ وباتّجاهاتٍ مُختلفة، وأيضًا توجّه إلى مجالِ الأدب وما كُتبَ عنهُ شِعريًّا، وعمليًّا؛ كلُّ ما يمكن أن يُكوّنَ له الفكرة حولَ كتابةِ هذه الرّواية، وهو همّ إبراهيم؛ مشروع أن يكتب التّاريخ الفلسطينيّ بشكلٍ روائيّ، مثل “زمنُ الخيول البيضاء”، وعلى امل أن تُترجَمُ على الشّاشة الصّغيرة في مسلسلٍ يُعَدُّ له، ولكن هناك بعض العقبات في مقدّمتها القضايا الماليّة!
لن أُعالجَ الرّواية مِن باب العمل الأدبيّ، لأنّه ليس مجالي بل مجال المُتخصّصين في اللّغةِ العربيّةِ وآدابها والعملِ الرّوائيّ، ولا أريدُ أن أُلخّصَ لكم الرّواية المُكوّنة من 550 صفحة، حتى تتمكّنوا مِن قراءتها بتفاصيلها الكثيرة والدقيقة التي وردت فيها، إنّما أريدُ أن أُعالجَ الأحداثَ التّاريخيّة في هذه الرّواية، وأحاولُ أن أفهمَ كيف يُقدّمُ الرّوائيّ الأحداثَ التاريخيّة بصورةٍ روائيّة، دون أن يفقدَ الحدَثُ أهمّيّتهُ وواقعيّتَهُ وحقيقته، ومِن الضّروريّ جدًّا أن نغوصَ في تاريخ ظاهر العمر!
لماذا نهتمُّ الآن بالذات بظاهر العمر وفي هذه المرحلة؟ ولماذا يُطلق على مشروعِهِ دولة أو دويلة؟
إنّني لا أرى فيها لا دولة ولا دويلة، بل محاولة حاكم بأخذِ نوعٍ من الاستقلاليّة، بما نسمّيهِ اليوم بمفهومنا “الحُكم الذّاتيّ، ولكن لماذا هذه الأهمّيّة التي تُعطى لظاهر العمر في هذه الفترة حصريًّا؟
في السّنة الماضية احتفلنا في حيفا بمرور 250 عام لتأسيس المدينة الجديدة، وأصدرنا كرّاسة صغيرة من بضع صفحاتٍ توجز تاريخ المدينة، وأهمّيّة ظاهر العمر في إطلاق مدينة جديدة، وعلى فِكرة، حيفا هي المدينة الفلسطينيّة الأخيرة التي تأسّست في تاريخنا، وليس هناك مدينة فلسطينيّة أخرى، ولكن هناك قرى أصبحت مدنًا بفعل نظام البلديّات المعمول به في بلادنا، وهذا يدلّنا أنّ هذا الرجل استطاع برؤيةٍ ثاقبةٍ أن ينظرَ إلى المستقبل، مِن خلال إقامة مدينة حديثة ليست بعيدة عن عكا، ولكنها ليست عكّا، وهذه نقطة مهمّة جدًّا في بناء مشروع مدينة، لها مكوّناتُ ومقوّماتُ المدينة الحديثة المعاصرة، ولكن في نفس الوقت لها مكوّناتُ المدينة العصريّة الشّرقيّة والإسلاميّة، التي يُميّزها السّور والأبراج، ولكن ما ميّز مدينة حيفا أنها كانت تحملُ في داخلها وجهيْن أساسيّيْن، أوّلاً الوجه الشّرقيّ العروبيّ الإسلاميّ، وفي نفس الوقت كانت منفتحة نحو الغرب، مِن خلاِل المشروع الذي قامَ به ظاهر العمر.
إحدى النّقاط التي لفتت نظري وأبهرتني جدًّا عند مراجعة الرّواية تاريخيًّا، قبل الإصدار بعام، هو التسلسل التاريخيّ الذي يسير فيه، فمَن يقرأ الرّواية دون ان يكون مُؤرّخًا أو مُعلّم تاريخ أو مهتمّ بالتاريخ، يستطيعُ أن يُدركَ الأعمالَ التي قام بها ظاهر العمر خلال فترةِ حُكمِه، على مدى أكثرَ مِن ستين عامًا في فلسطين! والنقطة الثانية أنّه يربط بين الحدَثِ التاريخيّ والمكان الجغرافيّ، لأنّ هناك ارتباطًا قويًّا جدًّا بينَ الجغرافيا والتاريخ، ولا يمكن فصل كلّ منهما على حدة، خاصّة حين نتحدّث عن التاريخ الفلسطينيّ في أيّة فترة كانت، فهناك ارتباطٌ كبيرٌ جدًّا بين المكان والزّمان، وكي نفهمَ الرّواية وكلَّ الأحداثِ والتّفاصيل الكثيرة جدًّا، يجبُ أن نميّزَ الحدَث بذاتِهِ، والمُحدّدَ بسيرورتِهِ وبمُكوّناتِهِ الأساسيّة من سببٍ ونتيجةٍ وما بينهما مِن سيْر أحداث، وبين ما حول الحدَث، فالرّوائيّ يأخذ الحدَث بمُجملِهِ ويُحاولُ أن يبنيَ حولَ هذا الحدّث، لذلك يُطرحُ السّؤالَ:
أين هي الحقيقة الواقعيّة؟ وأين هو الخيال؟
وحتى الخيال في هذه الرّواية وفي رواية “زمن الخيول البيضاء”، فهو مرتبطٌ ارتباطًا قويًّا جدًّا بواقعيّةِ الحدَث التاريخيّ، وبالنّسبةِ لنا كفلسطينيّين، إذا لم يكن لدينا بعض المعلومات الأوّليّة والأساسيّة، سوفَ نُواجهُ بعضَ الصّعوباتِ في قراءةِ الرّواية، وهذه الصعوباتُ قد تتبدّدُ خلالَ قراءةِ الرّواية، فمن ناحية أنا أتنبّأ حياة ظاهر العمر وكيف سارت أحداثُها، ومِن جانب آخر، كيفَ تطوّرت الأحداثُ التّاريخيّة في تاريخ فلسطين في القرن الثامن عشر، وما تركَهُ لاحقًا على القرن التاسع عشر!
كان الظاهر عمر قد تزوّجَ مِن فتاة دمشقيّة ورثَ عنها بعض المال واستفادَ من هذه الثروة، وبدأ في المراحل الأولى في منطقة طبريا، ثمّ كان الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى متقدّمة في الناصرة، وبعَد ذلك إلى عكّا ثمّ حيفا. بمعنى؛ أنّه لو أدركنا هذا البُعدَ الجغرافيّ الذي ربطَ بهِ بينَ بحر الجليل؛ أي بحيرة طبريّا وبين البحر الأبيض المتوسّط، لأدركنا أهمّيّة هذه المنطقة في السّياق التاريخيّ، وحصريًّا في تلك الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها، وقد تزوّجَ مِن عدّة نساء وأنجبَ عددًا مِن الأبناء، وقد وقفوا معه لفترة طويلة ولكن في صعودٍ وهبوط، وكانت علاقته مع أبنائِهِ مبنيّة على علاقاتٍ فيها نوعٌ مِنَ التوتّر والنقاش والجدال والأخذ والعطاء في كثير من القضايا، ولكن في نهاية الأمر، أيضًا أبناؤه ثاروا عليه وحاولوا أن ينقلبوا على والدهم، وهذا كان أحد الأسباب التي أدّت في نهاية المطاف إلى سقوط ظاهر العمر، ونهاية محاولة هذه التجربة الفريدة من نوعِها في التاريخ الفلسطينيّ!
وهناك نقطة أخرى لها أهمّيّة، وهي في محاولتِهِ الوصول إلى الشاطئ والسّاحل، اي حيفا وعكا والسّاحل، وقد بدأ من المناطق الدّاخليّة، واستطاع أن يدركَ أنّ للمناطقِ السّاحليّة أهمّيّة كبرى، وتلعبُ دورًا مركزيًّا ورئيسيًّا في بناء قوّتِهِ الاقتصاديّة، بمعنى، أنّه بتطوير الاقتصاد المَحلّيّ وقطاعاتٍ من الزراعة، وخاصّة في منطقة الجليل، وحصريًّا المناطق القريبة من عكّا والناصرة وبعض مناطق مرج ابن عامر، هي ذات أراضٍ خصبة جدّا، وإمكانيّةُ زراعة القطن وتطويرها فيها يؤدّي إلى ها القطاع، كما كانت له علاقلاتٌ تجاريّةٌ قويّة جدًّا بين تجّار عكّا مع تجّار أوروبّا، وبالتّالي استطاع أن يجنيَ أموالاً، ومِن هذه الأموال استطاعَ أن يبنيَ قوّتَهُ العسكريّة، ليُواجهَ الحُكّامَ مِن المناطق المجاورة، وأيضًا ليُواجهَ الضّغوط التي تُفعّلُها الدّولة العثمانيّة، ومن جهة أخرى، ما نلمسُه في قراءة الرّواية “قناديل ملك الجليل”، هو تشديد كاتب الرّواية إبراهيم نصرالله وتركيزُهُ على بعض المحطات التي تُميّز شخصيّة ظاهر العمر، تلك الشخصيّة التي تعتمدُ عليها أحداثُ الرّواية، والتي تلعبُ الدّورَ التّاريخيّ والدّورَ الرّوائيّ، وهذا التّركيزُ يُعطي الشّعبَ الفلسطينيّ الآن، سواءً كان في الدّاخل أو في الضّفة أو في اللّجوء، يُعطيهم شخصيّةً لها دوْرٌ قياديّ، استطاعت أن تُوحّدَ أبناءَ الشّعب ليصيرَ واحدًا، وتمنحَ هذا الشّعبَ قوّة الوجود وقوّة الاندفاع نحوَ المُطالبَة بنوعٍ مِن الاستقلال في ذلك الوقت، ويُبرزُ الرّوائيّ بعضَ النّواحي التي تُركّبُ وتُكوّنُ شخصيّة ظاهر العمر، وهي مُكوّناتٌ مُهمّة جدًّا، لولاها لَما استطاعَ أن يصمدَ هذه الفترة الطويلة، وعلى سبيل المثال، التسامح الدّينيّ!
اِهتمّ بالتسامح لأسبابٍ كثيرة:
أوّلاً لتوطيد حُكمِهِ، ثانيًا لأنّه أدركَ أنّ طبيعة المنطقة التي يتولى حُكمَها فيها تركيبة سكّانيّة ودينيّة وطائفيّة متعدّدة، فاستطاع أن يُرضي كلّ الفئات وكلّ الأطراف، وهذا ما يثميّز سياسته المتسامحة والمنفتحة تُجاه سكّان هذه المنطقة، فانفتح على الطوائف المسيحيّة وكنائسها في الناصرة مثلا، وشجّعها على إقامةِ المُؤسّسات الدّينيّة ودور العبادة، إضافة إلى مناطق عديدة في منطقة الجليل حصريّا.
والميزة الثانية أنّه اهتمّ بانتشار الأمن والاستقرار، ففي حين كانت الدّولة العثمانيّة مُصابة بحالةٍ مِن الضّعف وبداية الترهّلِ وتفكّكِ بعض المؤسّسات، استطاع ظاهر العمر أن يُفرضَ نوعًا مِن الأمن والاستقرار على المنطقة، ممّا أدّى إلى ازدهار المنطقة ليس فقط اقتصاديًّا، بل أيضًا بشريّا، نتيجة هجراتٍ داخليّةٍ في بلاد الشام السوريّة غير المُحدّدة بحدودٍ سياسيّةٍ مثلما هي اليوم، وازدادَ الحَراكُ البشريّ، ممّا أدّى إلى انتقالِ كثيرٍ مِن العائلات من المناطق السّوريّةِ واللّبنانيّة وشرقي الأردن إلى الجليل، بهدفِ الاستفادة من هذه الأجواء والفضاءات الهادئة والمريحة لفترة زمنية، وبالتالي يتمّ تطوير القطاعات الأخرى، وأهمُّها القطاع الاقتصاديّ، وهناك ارتباطٌ قويٌّ جدًّا بين الاستقرارِ وبينَ انتعاشِ الحالةِ الاقتصاديّة في المنطقة!
والميزة الأخرى التي يمكن أن ندركَها في قراءتنا التاريخيّة لهذه الشخصيّة، هي تركيز ظاهر العمر على هُويّةِ المكان وتلك المنطقة، فنحن بعد 250 سنة نحاولُ بأدواتِنا ومفاهيمِنا ومصطلحاتِنا أن نعودَ إلى الوراء، بمعنى؛ أن نستفيدَ مِن الاصطلاحيّة المُعاصرة، ونحاولُ أن نُحلّلَ الأوضاعَ التي كانت، وأن نهتمّ بإعطاءِ هُويّةٍ للمنطقة، وإبرازها على أنّها منطقةُ ربطٍ ومنطقةُ مُفترقٍ هامّ جدًّا في المنطقة، وليس فقط للمنطقة وحدها وإنّما للعالم أجمع!
كثيرون يعتقدون أنّ الاهتمامَ العالميّ بمنطقةِ الشّرق الأوسط قد بدأ في القرن العشرين أو ما قبله بقليل، ولكن في واقع الأمر، فحتى لو عدنا غلى غياهب التاريخ ندرك، أنّ هذه المنطقة كانت منطقة جذب لكثيرٍ مِن الأطماع الاستعماريّةِ التّوسّعيّة بكافة أشكالها، حتى مِن أيّام إسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، ويمكن من يحلّل التّوسّعات التي قامَ بها يدرك، أنّه كانت لديه رؤيةٌ مِن العولمة وتوحيدِ المناطق التي كانت تحتَ سيطرتِهِ، ضمنَ إطارِ حضارةٍ واحدة. طبعًا هذا الحلم لم يكن عند ظاهر العمر، ولكن كان حلمُهُ إعطاءَ نوعٍ مِن هُويّةِ المكان وهُويّةِ الإنسان، الذي يعيش على هذه الأرض، مِن خلال بناء هكذا مشروع؛ نوع من الاستقلال وليس الاستقلاليّة التامّة!
ومِن خلال المتابعة أيضًا، هناك تشديدٌ على الموروثِ العمرانيّ، وهذه نقطة هامّة جدًّا، فالموروثُ العمرانيّ الذي تركه ظاهر العمر ليس فقط في الناصرة وفي عكا وطبريا وعرابة وشفاعمرو وصفد، وفي بعض القرى الأخرى في الفضاء الجليليّ، فكلّ هذه المشاريع العمرانيّة ما كانت لتقفَ على أرض الواقع، لو أنّه لم يكن لديه اقتصادٌ قويٌّ ،لأنّها بحاجةٍ إلى مبالغَ كبيرة من الأموال، فالسّرايا في الناصرة وقلعة شفاعمرو ليستا مشاريع صغيرة، فهي ضخمة وهامّة جدًّا بمفاهيم بلادنا، لا نقارنها مع مشاريع عمرانيّة في أوروبّا، فكلّ هذه البلاد والأماكن مذكورة في الرّواية، بهدف التشديد على هُويّةِ المكان، وربطِ المكان بالحدَث التاريخيّ، لأنّ الرّبط بين هُويّة المكان مع هُويّة الحدَث التاريخيّ هو هُويّة الإنسان الفلسطينيّ؛ الضّاربة جذورُهُ في أرض هذه البلاد، لأنّ هذه البلاد لم تأت من فراغ ومن عبث، بل كان لها حضورًا ووجودًا وتاريخًا.
في نهاية اللّقاء شكَرَ الشّاعرُ مفلح طبعوني مُركّزُ هذه النّدوة الرّوائيّ إبراهيم نصرالله والمُحاضرين والحضور، وفتح بابَ النقاش، وقد كانت مداخلاتٌ عدّةٌ قيّمةً داعمةً ومُبارِكةً للشّاعرِ والرّوائيّ إبراهيم نصرالله عملَهُ الهامّ والجبّار، والذي يُعتبرُ الحَلقة المفقودة في سياسة تغييبها المقصود وتهميشها، وكأنّ الشّعبَ الفلسطينيّ لا تاريخَ ولا جذورَ له على أرضِه، والرّواية هي أيضًا الحلقة المفقودة في مناهج تدريسِ التاريخ للفلسطينيّين العرب، والتي تُعلّمُهم عن تاريخ العالم إلاّ عن تاريخ فلسطين وأجدادِهم!