قراءة في قصيدة أنفاس الظباء موسى حلف
تاريخ النشر: 26/06/14 | 9:00نشرت فيما نشرت قراءات لبعض قصائد منفردة كتبها شاعر أو آخر من شعرائنا الفلسطينيين في الجليل والمثلث، وهو توجه نقدي عمدت إليه في كثير من كتاباتي النقدية: أن أتركز في النص الواحد، وأعمل فكري وطاقتي في التلقي، وألقي الضوء من نقاط مختلفة.
أقدم لكم اليوم قصيدة الصديق موسى حلف “أنفاس الظباء”، وكنت نشرتها في كتابي “قصيدة وشاعر”. ج 1.نابلس: دار الفاروق- 1996، ص 65- 72.
القصيدة:
أنفاس الظباء
موسى حلف
…………………..
عندما يرسم طل الفجر
عينيك قصيدة…
ويغني لحنَهُ…
جدول في ناظريك
وشراع ينطوي…
في قاربي…
أسلب النجم..وأهديه
لعينيك وشاحا..
**
حين أرض.. أنت فيها
ترتوي غيثا دقيقا
وندى..
يكبر الزيتون فيها
ويصير النرجس الفتان…
نارًا تتلظى..
في قلوب العاشقين
**
عندما ينقش عصفور
على خد الورود الحالمة..
حلمًا حرًا.. وشوقًا غردا
وحبال النور فيها..
يكتوي ثلج السفوح الناعسة
أجمع الورد لنهديك غلاله
**
كلما زينك الصمت جمالاً
وخيالاً جامحا..
يصبح الصمت صلاة
وطقوسًا.. نزرع الدفء
على سمر الشفاه التائهة
**
عندما في السفح ينمو
“زعتر”
وتوشح..
نفسها الوديان بالعطر
الذي
ملأ السفح بأنفاس الظباء..
أكتب الشمس لعينيك
نشيدًا
كي يصير الصبح أحلى..
كي يصير الغيث رقراقـًا
جميلا..
كي يذيب النجم في عينيك
للكون قصيده..
…………………….
قراءة في القصيدة
ليست كثيرة هي القصائد الغزلية في شعرنا المحلي- نسبيًا.
وقصيدتنا هذه فيها أنفاس الشعر الصافي، ورقة العاشق اللهفان،كتبها موسى حلف (من عرب الحلف)-وهو نفسه صاحب الكلمات الملحنة والمغناة التي أذيعت له في أكثر من أغنية محلية. وهذه القصيدة مؤلفة من خمسة مقاطع تبدأ كلها بجمل ظرفيه وكأنها شرطية:
عندما…
حين…
عندما…
كلما…
عندما…
وبالطبع فهذه التوزيعة لـ”عندما” فيها تراوح واطراد ودوران، ولا أدل على هذا الدوران من علاقة القصيدة بعيني الحبيبة في مطلع القصيدة وخاتمتها.
ولنعد على بدء:
في المقطع الأول يبدأه “عندما”وكأنه احتمال، ولكنه لا يعني إلا الوقوع والحدث، فقد رسم ندى الفجر عينيها. في أية صورة؟
– قصيدة، ولماذا قصيدة؟!- لأنها خلاصة الأحلى والأجمل في نظره، وكما اعتبرت الموسيقا اللغة الأعلى فإن الشاعر يجعل القصيدة (أو الشعر) مشبهًا به أقوى، فلا بد إذن أن يكون للقصيدة عنوان أخر هو “قصيدة”، بل (القصيدة).
ومرة أخرى يعود الراوي إلى ناظريها، فيرى فيهما جدولاً يغني لحنه، وبالطبع فإن اللحن استمرار للقصيدة وضرورة فيها.
وإذا كانت العينان جدولاً فلتتوقف رحلة معاناته، وليطو الشراع، وليترصد النجوم في رحلة”عيونية”، لعله يسلب منها نجمًا، حتى يهديه إلى عينيها، وحتى يوشحها بالضوء.
على ذلك، فعيناها كالقصيدة، وفيهما جدول يغني لحنه، وها هو الراوي يترصد ليعود بالنجمة، وليقدمها لصاحبة العينين حتى يزداد إشعاعهما وألقهما.
في المقطع الثاني يتبين لنا مدى علاقة الحبيبة بالأرض، فأنى تكن الحبيبة فإن الأرض ترتوي بالغيث الرهام –الغيث المنهمل بطيئًا، فيخر في باطن الأرض ليعود نعمة وخيرًا وغوثًا، ويغمر الندى وجه الأرض، ويكبر الزيتون- علامة ارتباطنا بالأرض، ودلالة البركة. أما النرجس فعيونه الفاتنة تذكر العاشقين بعيون معشوقاتهم، وفي هذا تصادٍ مع الشعر القديم الذي ربط بين عيون الحبيبة وبين فتحة النرجسة، وقد تساءلت عن سبب تكرار هذا المعنى في شعرنا القديم، وكذلك في الموشحات على نحو ما قاله لسان الدين:
غارت الشهب بنا أو ربما أثرّت فينا عيون النرجس
فوقعت على مقطوعة لابن الرومي تفصح عن سر هذا التشبيه، إذ قال في نرجسة:
ترى أصفرها الفاقع في أبيضها المونق
كعين الناظر الضاحك في محجرها المشرق
وشبيه بذلك ما قاله الشاعر نفسه في بيت آخر:
وأحسن ما في الوجود العيون وأشبه شيء بها النرجس
في المقطع الثالث يعرفنا الشاعر على طبيعة الهدية التي سيقدمها لنهديها، أو على الأصح غلالة لهما- في غطاء شفاف رائق-، ويبدو لنا أن الهدية مؤلفة من:
أ- الحلم الحر (الذي نقشه عصفور حلم الورود)
ب- الشوق، الغرد، فالعصفور ينقش على الورود هذا الشوق الذي يطلق العصفور. (هنا لا يقول لنا إن تغريده يحمل الشوق، إنما يعكس المعنى ليزيد الصورة جمالاً ومفاجأة- الشوق الغرد. وماذا تضم هذه الورود التي داعبها العصفور؟
– إنها تضم حبال النور فيها. أي أن للنور امتدادات وإشعاعات، كل ذلك عندما تذوب الثلوج (رمز البرودة وانقطاع الحب) على هذه السفوح الناعسة – صفة مستعارة من العيون يخلعها على السفوح لتزداد رقة وأُنوثة.
في المقطع الرابع يتركز الشاعر على صمتها الأخاذ، الذي يُضفي عليها جمالاً باهرًا، فالصمت يزينها جمالاً (لفظة مباشرة، ومجرد التعبير) ولكن مع الجمال ثم خيال جامح- وهنا مجال للانطلاق وللتوثب… وإلى ماذا سيؤول الصمت؟- يصبح صلاة وطقسًا وعبادة.
ولكن لمن؟ وما هي؟
– لا تهمنا الإجابة بقدر ما تهمنا النتيجة، فها هي العبادة تزرع الدفء والحياة على الشفاه السمراء التائهة المتلهفة الباحثة عن انسجام.
في المقطع الأخير ينقلنا الشاعر إلى جو الطبيعة، إلى الزعتر النامي في السفح، إلى الأودية الموشحة بالعطور- هذه العطور التي غمرت السفح بأنفاس الظباء البرية- جمال في الطبيعة، رائحة كالمسك، وقديمًا قال المتنبي: “فإن المسك بعض دم الغزال”.
ماذا سيفعل الراوي في مثل هذا الجو الحالم الساحر؟
أ- يكتب الشمس نشيدًا لعينيها. لا يكفي أنه وشحهما بالنجم- الذي سلبه-، فقد ازدادت حميّا الارتباط، وهنا هو لا ينسج من نور الشمس سوارًا يضعه على يديها- كما تقول الأغنية -، إنه سيكتب الشمس، ماذا؟ وكيف؟
-سيكتبها نشيدًا ما دام الجدول يغني لحنه فيهما، إنه سيقدم النشيد (مصحوبًا بجوقة) كي يصير الصبح أحلى، حتى يرسم طل الفجر لوحته بشكل أبهى وأزهى- كما في المقطع الأول-، وحتى يصير الغيث رقراقًا أو أرق- كما في المقطع الثاني- وهذا النجم الذي أهداه وشاحًا لعينيها لن يكون نجمًا عابرًا أو وصفًا مجردًا، بل له فعالية، فهو سيذيب في عينيها للكون قصيدة. ونحن هنا ننتبه إلى “الكون” إلى الشمولية، وكذلك إلى “قصيدة”، وهذه تعطي مبررًا آخر لتكون عنوانًا مركزًا ومكثفًا للقصيدة.
إنها قصيدة الوجود في العينين الساحرتين.
**
بعد أن طفنا حول عيني حبيبته، وشهدنا تلهفه لها، لا بد من وقفة على مبنى القصيدة. وقد لاحظت فيها نمطين مما اتفق النقاد على اعتبارهما من عناصر الحداثة، هما “cataclysm” – الهزة الخفيفة-و “Deviation” الإزاحة-، والمصطلحان مستعاران من مصطلحات (السيسمولوجيا). وسأحاول أن أقدم نماذج من كل:
ففي التعابير: يرسم طل الفجر عينيك قصيدة” أو حتى في نهاية القصيدة “كي يذيب النجم في عينيك للكون قصيدة”، فإننا نلاحظ هذه الهزة أو الرجرجة في تحريك المألوف أو السائد، ولكننا سرعان ما نعود لنتشبث بالواقع ونمسك المعنى. وعلى غرارهما: “وتوشح نفسها الوديان بالعطر” أو “كلما زينك الصمت جمالاً”.
ولكن الإزاحة أو الانزياح- كما يحلو للبعض ترجمتها- نجده في المعاني التي تخرج أو تبتعد عن منطقية العبارة، فعندما نقول: “ينقش عصفور شوقًا غرّدا” فإننا بحاجة إلى أن نخرج المنطق المجرد (تغريد العصفور (إلى عملية نقش يقوم بها العصفور، وإلى كون الشوق هو المفعول الأصلي، وصفته غرِد، وقد لا تكون العلاقة وطيدة بين العصفور مباشرة و(غرد) مع أن الصوت له وفيه.
وعندما يقول الشاعر:
“زينك الصمت خيالاً جامحا” فإننا إزاء جدة أو إدهاش، وعلى نحو ذلك: “أكتب الشمس نشيدا…الخ.
وقد لاحظت في القصيدة هذه الصور الشعرية المتنامية المركبة، وتتدرج حتى المقطع الأخير لتؤكد صورة جمال العينين وانبهاره بهما.
**
ولعل المزج بين الوطن/ الأرض وبين المعشوقة من خلال الزيتون والورد والسفوح والزعتر و”الوديان” والظباء والغيث والنجم- هذه المظاهر المتجلية في بهاء- تنعكس على عينيها، فتتماهى الأرض بالحبيبة، والحبيبة بالأرض؟ وبالطبع فهذه الصور المتآزرة المتضافرة تلتقي في حضرة عينيها، اللهم إلا لقطة الورود الحالمة المهداة “لنهديها”…. إلا إذا قرأناها بمعنى: لنقدم لك هدية، ويقلل من إمكانية هذه القراءة الأخيرة عدم الوفاء، فكيف يتم المعنى: أنا أجمع الورد ونحن جميعًا نهديك. أما إذا كان المعنى يتعلق بالأرض المعشوقة فيصح ذلك، فهي لنا جميعًا، وكل يقوم بواجبه، ونحن جميعًا لها. وعلى كل فالقراءتان متاحتان مباحتان- خاصة والقراءة الأولى كنا قرأنا مثلها لبشارة الخوري:
سكر الروض سكرة صرعته
عند مجرى العبير من نهديك
**
العنوان “أنفاس الظباء” لا يشير بأية حال على علاقة بعينيها، إلا بعد أن يتوصل القارئ إلى عطر الأودية- وهي الصحيحة لغويًا- الذي ملأ السفوح بأنفاس الظباء- إلى منظر طبيعي رائق، وهو ظرف أو زمن – عندها يقوم الراوي بتقديم نشيده الجديد. والظباء ليست مقصورة على عصر جاهلي أو بيئة صحراوية، فهي على مرمى البصر في بلادنا الجميلة.
إنه لم يستعر منها عيونها (وهذا ما نعهده عادة)، بل استعار منها أنفاسها، حرارة لهاثها، دفء راحتها…
وهل أرق من نَفَََس يتواصل مع نفس، إذا جمعتهما اللهفة، واندمجا في لحن أو أغنية أو حوار صامت أو صلاة، إنه الدفء الحالم، أو إنه “القصيدة”.
**
على الإجمال، فالقصيدة تدل على حالة وجد يعبر عنها الشاعر بصدق شعوري بعيد عن التكلف أو تركيب العبارات. إنه يتلاحم مع طبيعة بلاده، ويضفرها نجمًا لعينين أخاذتين، هما خلاصة الانتماء ومعنى الوفاء. وكل ذلك تأتـى له في بحر “الرمل، المشبع بالغنائية والشفافية- وخاصة إذا اندغمت فيه ألفاظ رقيقة وتكرارات مترددة بعذوبة- هذا التكرار الذي تساوق في القصيدة من معنى إلى معنى، لكنه المعنى الواحد في الصورة المركبة.
ب.فاروق مواسي