مقامةُ حَبلِ الغَسيل
تاريخ النشر: 23/02/12 | 13:44حدّثني أبو العبد الكَفْريني، وكان متّكئًا على يمناه. فاستقام وجلس القرفصاء ونشّ على سيجارته ثمّ قال بعد أن أسكت هاتفه النقّال- كنت جالسا في ديوان المختار. وكانت البلاد في ذاك الزّمان عمار. وكان في الديوان ضيوفٌ من لدِّ العوّادين . حول المختار متَحَلّقين جاءوا لطلبةِ عروس, لابنهم المحروس،فدخل علينا الأعرج النسويّ وكان طويلًا،نحيلًا بهيّ الطلّة. معسول العينين.في مشيته علّة.عظيم الكفّين.مسدول القذلة.مائل العقال.وكان شغوفًا بالنساء يشمُّ طيبهنَّ عن بعد عشرين فرسخًا. فألقى التحيّة على الغانمين. فردّوا بأحسن منها فدفش الباب.ومشى متخطّيًا الرّقاب.
وجلس إلى جانبي.يتفحّص وجوه العربان. الجالسين في الدّيوان. وكان ثاقب النظر لا تخونه عيناه فعرف أنّ الضيوفَ بدوٌ جاءوا طالبين النسب. وأنّ قهوتهم لن تشرب. إلا بعد أن يلبّى الطّلب. وكانوا قد صمتوا عن الكلام. وتشاوروا مومئين بالقيام . بعد دخول الأعرج عليهم فراعَهُ ذلك. وكان عزيز النّفس في نظرته تياسة .قاسي الرّأس لا يفقه الكياسة.فنظر إلى المختار يودّ لو يغوّره في عينيه.وكان المختار يكره دخول النّسويّ عليه. ولكن ما في اليد من حيلة يا جميلة فمالَ الأعرج عليّ وغمزني للخروج فاستأذنت. امّا هو فلا. وخرجنا وهو ينظر إلى القوم. وعيونهم ترمقه بحذر. وكأن في الامر خطر. وما أن خرجنا حتّى نسي الأعرج غضبه مستحضِرًا لعبه وطربِه ،فربّت على كتفي وقال-هلآّ رافقتني إلى زمّرين يا شيخ الرجال؟ فقلت له متسائلًا أوّاه- لعلّه خيرٌ إن شاء الله؟ فقال وهو يبتسم بفخرٍ وعُجُب- لقد دعوت إلى عرسٍ وطَرَب .وأنت تعلم أنّي لا أردّ من دعاني. وقد شهدت لي العرب في البدوِ والحَضَر .أني خير من دَبَك في التعاليلِ وليالي السّمَر. فتراهم قاصدين أعتابي لأدبكَ في أفراحهم. ولن أخيّب في رجائهم
فتراجعتُ خطوةً إلى الوراء. متسائلًا في دهشةٍ واستهزاء- وكيف لي أن أحضر عرسًا بدون عزومة. أتراني قليل القيمة.؟ فقاطعني وهو يقهقه عاليًا – لا عليك يا أبا العبد الهمام. عزموك سل أخاك عزّام- فأقنعني كلامه. وعدلت عن ملامه. وتركته لأعدّ فرسي. وقد صدقني حدسي. وتواعدنا أن نخرجَ غدًا صباحًا إلى غايتنا.
وكان ذلك فخرجنا بيضاءَ رايتنا. وكانت الشَّمس قد بزغت من وراء تلال الرّوحة . الوارفة المليحة. وإذا بفارس ينهب الأرض على فرسه البيضاء. يأتي مع وهج الشّمس مكتملَ البهاء. وما أن اقترب وبان . حتّى عرفنا مَن صاحب الشّان. فانتظرناه قليلا حتّى وصل .وبادره ألاعرج النسويّ بكلامٍ مرتجل –متى خرجت من اللجون يا عليّ؟ ما أظنّك إلاّ مدعوًّا الى عرس العسّال؟ فقال له عليٌّ لاجمًا فرسه مُميِّلًا العقال – صدقت أيّها النسوي. لقد خرجت مع وهج الشّمس الذّهبيّ .وها أنا في معيّتكم. فهل تقبلونني رفيقًا في رحلتكم.؟-.على الرّحبِ والسّعة يا عليّ .قلت مسبّقا للأعرج النسويّ الّذي لم يرق له الأمر فقد كان يحب الوجاهة في كل محضر .فتجاهلني رغم أنّي وجدت في عينيه ما أكره وخشيت مما أَضمَر. وسرنا في طريقنا حتّى وصلنا إلى زمّرين. على خيلنا راكبين. وكان الرجال يجمعون الحطب .لأشعال النّار كعادة العرب. وكان العرب في ذاك الزَّمان إذا أعرسوا أشعلوا نارًا. فإستقبلونا أهل زمّرين. بحفاوة الملوك الفاتحين. وساقوا الخيل وربطوها وكرّموها. أمّا نحن فأنزلونا في ديوان الحمولة. والنّساء صادحات بالمهاهاة والزّغاريد الطويلة. وهناك مدّت الموائد بالمناسف. وجلس الأقارب والمعارف. وفي صدر الديوان جلسنا نحن الضّيوف وأمامنا أربعون راس خروف .وأشعلت النار. وإشتغل اليرغول والمزمار. ونزلت الدبّيكه إلى المضمار. وعيونهم صوب شرفة العليّة. كل منهم يبحث عن صبيّة. تشعل الّلهيب في العيون. وتسحب الدبّيك إلى عالم مفتون.
وكان الأعرج النسويُّ ينتظر من القوّيل أن يهدر بإسمه عاليًا ليعلن بدء المعركة. فكان له ما أراد من حذلقةٍ وفذلكة. ونظر ألأعرج صوب العليّة .وقد سلب عقله سربٌ من عشرين صبيّة . يتراقص على نغمة اليرغول .السابحة في سماء الروحة الجميل. مع ريح البحر العليل. فنزل ممسكًا بعكازة الإمام. وتوجّه إلى الأمام. ألى رأس الصّف راكنًا الدّبّيكة على الرّفّ .واستلم القيادة من عليّ. عن طيب خاطرٍ أخويّ. واشتعلت ألأرض تحت رجليّ الأعرج نارًا .مدهشًا القومِ صغارًا وكبارًا. يتهامسون .وبرؤوسهم يميلون. طربين يتذكرون .أيّامهم الخوالي وشبابهم الغابر. في هذا العمر العابر. وكان الأعرج يدور في السّاحة مثل جواد هائج.أو كبحرٍ مائج. تارة يمسك بيد من يليه كربّان الفلوكة. وتارة يراقب أرجل الدّبيكة. وتارة يزجرهم بإشارة من إصبعه بنظرةٍ شقيّة. رامقًا سرب الصّبايا المتناغم مع الدبكة الشّمالية. وقد خيّل له أنّ الصّبايا يصفقن له طربًا ويتهامسن متسائلاتٍ في قلبٍ حائر- ترى من يكون هذا الدبيك السّاحر؟ وطالت السّهرة وتورّما شدقي الزمّار .وذهب صوت القوّيل المغوار. وتطرّحت الشّباب. من الباب للمحراب والنسويّ يقلّبهم سربًا سربا. حتّى بدت الغيرة في عيونهم شررًا ولهبا. وهو غير آبه بهم فتلك هي المعركة. والصّبايا ما زلن يتراقصن بغنجٍ وتكتكة .ولم يكن ذلك معهودا في تلك ألأيّام .قبل أكثر من ستّين عام.ولكن كما قالت الأمثال وعبرها- كل بلد ولها سبرها-.وفلّت السّهره. وانطفأت في النّار آخر جمرة. ومدّت الموائد للضيوف. من كلّ مرغوبٍ ومشغوف. لكلّ أكّيلٍ وملهوف. على شرفة العليّة. حيث وقفن العشرون صبيّة. وكان ضيوف المعزّب العسّالِ إبي الشّوب. من كل حدبٍ وصوب. فهو تاجر له صيته في البلاد. تشهد له كلّ العباد. واعتلى النسويّ سلّم العليّة. بألقٍ وعنتريّة. أرافقه عن يمينه وعلي عن يساره .سيفين مسلولين من إزاره .ومن ورائنا رجالات إجزم وكفر قرع ومعاوية. وأم الشّوف وأبو شوشة والدالية. وخبيزة وعين حوض والمراح. والصّبايا في المكان ولا براح. على غنجهن وما من رَواح. والنّسويُّ يعتلي السلّم درجة درجة وينظر بعينٍ محرِجة بعجب وكبرياءٍ وافتتان. ويقول في نفسه- ما بال النسوان. لا تغادر المكان. حتّى تجلّى له أنّه ساذجٌ هبيل .بعد أن اكتشف أنّها حبل غسيل. ترامت عليه الدشاديش والقنابيز والسّراويل. فإكفهرّ وجهه ورجف بنانه. وتمسمر في مكانه. مخفيًا وجهه بيمناه. غير مصدّقٍ ما ترى عيناه.
.ومنذ ذلك الحين أقسم الاعرج النسويّ قسمًا بلا كفّارةٍ أو تبديل. أن لا يدبك في عرس حتّى يجمع الغسيل. وطفقت أنشد وأقول..في أرجوزة العذول
إدبك لحبل الغسيل
وارقص لحبل الغسيل
وتمايل على الجنبين
لنغمة اليرغول
وهم هي الحياة كمثل حبل غسيل
الريح ثملى طروبٌ يميلُ حيث تميل
يتراءى كعذارى يشفين قلبًا عليل
غرقى ثيابك عرقًا والنّفس فيك تقول
من أجلهن الجفارى.. تبقى عيوني سهارى
وهنّ فيّ حيارى.. من ذا الفتى الجميل
إدبك لحبل الغسيل ..وارقص لحبل الغسيل
واخبط الأرض مرحًا تصول ثم تجول
تعضّ على الناجدين.. تخفي صبرًا جميل
لينتهي العرس سحرًا وتقهر كلّ عذول
وللوليمة تدعى بين الرجال جليل
تغرّك الأماني إذ يتراءى الغسيل
تراقصه نسماتٌ من الهواء العليل
وهم هي الحياة كمثل حبل غسيل
انشر غسيلك علنا وارضَ ولو بقليل
رائع . رائع
مقامة حلوة ..حكاية هادفة..حبل الغسيل كان مصدر للطاقة الايجابية..
جدير بنا ان نكون جميعا منبع للطاقة الهادفة..نشجع الابداع..نقوي العزائم..
ونسير بدروب السلوكيات الايجابية..لنخلق حياة فاضلة ..
الانسان هو المخلوق الوحيد الذي بحاجة الى رفاق يشجعوه على التالق المعطاء..
واذا انفرد الانسان بحياته اصابه الملل والجنون..
اخي الشاعر والاديب احمد ابوبكر المحترم حياك الباري وكحل دروبك بالسعادة والعطاء
الكريم..انك نجم ذهبي بسماء قلوبنا والوطن الكبير..عطاءك الكريم متالق الجوهر
والكلمات..حلق للمعالي شموخ النخيل..تمتع بالمجد والعظمة الخلاقة..نحن نسأل
الله ان يمنحك الحياة العريضة..بوركت وجزاك الله كل الخيرات..
أخي الشاعر أحمد فوزي أبو بكر , حقيقة أنت مبدع وتمتلك قدرات هائلة قلما نجدها في أيامنا هذه , لقد أعدتني عقودا إلى الوراء , إلى عهد الثانوية والمقامات السحرية والشبابية , واسمح لي بأن أقول لك إنك الشاعر الرائع صاحب الصدر الرحب والفكر الواسع , أشكرك كل الشكر لعطائك المتواصل فمثلك قلائل .
تحياتي أخي قاسم شكرا على السهرة الرائعة والمثرية في بيتكم العامر
تحياتي أخواي الأستاذ جمال والأستاذ زهدي ..كانت سهرة لطيفة ومثرية بمعيتكما ومعية الأستاذ عبد الحليم والأخ أنور..أشد على أياديكم في كل تحركاتكم التطوعية الثقافية