منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان
تاريخ النشر: 24/02/12 | 6:33لا تتوجسوا خيفةً من العنوان ، فهو بسيط جميل لو فهمناه، وهو قصة مثل فالسِرحان بكسر السين هو الذئب والسَّرحان بفتح السين هو الراعي
وهو يطابق المثل العامي ” هذي الأكلة مش بهذي القتلة ” أي ذهبنا لكي نتعشى، فإذا ذئبٌ بانتظارنا يريد أن يتعشى علينا، وعندما تقرأ قصة المنامة (شبه المقامة) تتوصل الى قصدي من العنوان:
فما هي المنامة:
على وزن المقامة فن شبيه بالمقامة والرسالة، كرسالة الغفران للمعري، وقد ابتدع هذا الفن كاتب مغربي مغمور يدعى ركن الدين الوهراني. وهو احد رجالات الادب المنسيين .. عاش متنقلا مرتحلا بين الامصار ، محبطا من عصره ساخرا من ناسه وعكس كل ذلك في أدبه الموغل في اللامعقول ، فكان من أبرع الأدباء واشجعهم (ت: 575هج). والمنامة نوع أدبي اعتمدته اعتماداً جديداً، فعندي أنه تصوير كاريكاتوري يعتمد السخرية من الواقع الاجتماعي الذي يأكل قِيَمَه السوسُ، وتشغله المسائل اليومية التي تبدو عابرة هدفها الإضحاك، ولكن فيها إشارات فكرية فلسفية وتلميحات مثقلة بالألم والأمل، ويتناول فئة المهمشين اجتماعياً، والصعاليك، وقاع المدينة- شخصيات واقعية جدا . كل ذلك بأسلوب يميل الى خِفة الروح والظرافة، فيه حلاوة وطلاوة، وأحلام كبيرة وانتصارات وانكسارات.
ما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء فحمة.
وهي تشبه حديث المقاهي، وحديث عامة الناس البسطاء، وتسجيل لصور الواقع اليومي، هدفها الامتاع والمؤآنسة والفائدة. ولذلك تراني أطلق عليها أحياناً اسماً آخر هو ” النّمنامة” من النميمة، لأنها تدخل في أدقِّ تفاصيل حياة الشخصية وهمومها الانسانية، وتكون بلغة سلسة فيها تفصيحٌ للعامية وتسهيلٌ للفصحى ليحبها ابناء الشعب جميعاً. ولماذا أدعوها أنا المنامة لأنني أخرجها من اللاوعي، أو أكون فيها بين النوم واليقظة فتكون كأحلام اليقظة، ولأنها تشبه المقامة في استخدامها للأمثال والأشعار والطرائف التراثية. وقد راق لي هذا النوع الأدبي ، فأخذت أسطر المنامات تلو المنامات. والله المستعان الله المستعان، فقد سقطَ العَشاءُ بنا على سِرحان. وما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء فحمة. فإذا أعجبتكم مناماتي أحببتم العودة إليها وحكايتها لأصدقائكم .
المنامة الأولى: بعد الغداء في ( بيت جدي)
يممتُ أنا وصديق لي شطر طولكرم ننوى الغداء في “بيت جدي”، وقد أعجبنا اسمه أكثر من طعامه،وكنا سمعنا عنه من بعض الأصدقاء الذين يؤمونه فراقنا الأمر، وبعد تناول الغداء، قررنا وقد صرنا قريبين من “الماسة في الحلويات الشرقية” أن نلتهم شيئاً من الكنافة الكرمية الناعمة المحلاة بالفستق الحلبي. وذلك رغماً عن داء السكري اللعين الذي دبَّ فينا سُفلاً وعُلوا وعضواً فعضوا. ولسان حالنا يقول: نموتُ وفي فمنا حلاوة خيرٌ من أن نموت وفي فمنا مرارة. فلما انتهينا من هذه المحنة الكنافية، قصدنا الطريق المؤدي الى الحاجز (المحسوم) الذي يفضي الى مدينتنا ، فكان أمامنا مشهدٌ مثيرٌ يبدو أنه يتكرر يومياً: طابورٌ من السيارات أمامنا متسمرة في مكانها لا تتحرك، بل يتزايد عددها بقدوم أعداد أخرى من السيدات السائقات ، ومن الشبّان الذين لا يطيقون صبراً، فيأخذون في المزاحمة والمدافعة حيث لا مجال لذلك مطلقاً. فتقول لنفسك : لقد وقع العشاءُ بنا على سرحان، أي جئنا لكي نتعشى، فإذا ذئبٌ بانتظارنا يريد أن يتعشى علينا، أو كما يقولون: هذي الأكلة مش بهذي القتلة. لكن ما العمل ، ليس أمامنا إلاّ الصبر والانتظار.
بائع العطر – وسرعان ما يسعفكَ بائعو الأمور الصغيرة، التي يمسكونها بأيديهم بدلاً من ذُلِّ السؤآل، منهم الطفل الصغير ومنهم الشيخ المجرب، ومنهم الشاب الملاعب، ولكنهم جميعاً يشتركون في نفس الخاصية، فيريدون تحكيمك في قصة حياتهم ومصيرهم، وأنهم لم يرزقوا اليوم شروى نقير، وتجد نفسكَ، وأنتَ المستعجل فارغ الصبر، مضطراً إلى سماع أحاديثهم وشكواهم، واعطائهم ولو شيقلاً واحداً. ولكن الأمور تتطور فيأتيك بائع العطور، وما لنا وللعطور في هذا المقام والوقت العصيب، ولكنه يملك كل الوقت، ونحن نملك كل الأعصاب، فيأخذ في مناغاتنا والتلحين على أعصابنا ، وعندما يجد طراوةً في نظراتي يتوجه إلىَ متحنناً: بحياة أمك خذ ثلاث زجاجات عطر فاخر بمئة شاقل ، ويرش عليك قليلاً من واحدة يظن أنها من العطر الفاخر ، فإذا هي تشبه الدواء، فتقول له على سبيل المداعبة ، ولقتل الانتظار في الدور الى أن تصل عند الحاجز: إذا كان لديك عطر باكو رابان الفرنساوي فإني آخذ كل ما عندك، فيقول لي والله يا استاذ هذا أفضل منه، جرّبه، طيب خذ خمس زجاجات بمئة شاقل، طيب والله ما رُزقتُ بشيءٍ اليوم خذ كل ما في هذا الظرف بمئة شاقل،ثم ما تلبث أن تسمع بائع الزعتر المفروط يقول: مفروط يا زعتر يا ستات، مفروط وجاهز ونظيف والبصل الأخضر خذ وتدلل وفرّح قلب زوجتك! ثم يقبل اليك شخص له لحية يبدو رزيناً يحمل مجموعة من السروج والمصابيح الصغيرة فيراكَ وقد نفذ صبرك من الانتظار والسيارات لا تتزحزح من مكانها، فيحاول تهوين الأمر قائلاً باللغة العبرية : صبرك يا ابو العم فسوف تتغير ” المشميرت” بعد قليل وتتغير الدورية فيأتي جنود وجنديات أرحم من هذه المرّوكية المسترجلة وصديقتها الأثيوبة . ولكنه لاحظ امتعاضي من ملاحظته ، فتقدم نحو سيارة سيدة تجلس بجانبها سيدة أخرى صبغت شعرها باللون الأصفر، وسيارتها أرقى بكثير من سيارتي ( بي، أم)، فقال لها: ما قولك بهذا السراج الجميل، سراج علاء الدين؟ واقترب بائع القهوة السادة فصب لكل واحدة منهن فنجاناً دون أن تطلبا منه ، وبالطبع فقد نقدتاه خمسة شواقل فمضى مهللاً مكبراً الى سيارة أخرى. ثم ما يلبث أن يمر بنا بائع كتب وقصص للأطفال ، فأقول له أطفالي شبوا عن الطوق ، ولكي يبدو مثقفاً فليس يحسن أن يبدو كالحمار يحمل اسفاراً، قال جملة غريبة بدا فيها فيلسوفاً يفلسف الأمور: سبحان الله أنتم تريدون أن تطيروا وتسابقوا الزمن حتى تقطعوا ( المحسوم) الحاجز، بينما نحن نريد أن تظلوا منقطعين هنا وليس نحسب حساباً للزمن، لأننا أصلاً غير موجودين في الزمن، ولكن ماذا يمكننا أن نفعل سوى أن نقتل الزمن في هذا المكان حيث يمر الحامض والحلو من أمامنا، فنتماهى ونضيع في حاضرنا ذاهلين عن مستقبلنا، لا نملك إلاّ أن نبكي ولكن بصمت. ولو يعرف هذا الشيخ السبب الذي يجعلني أتوق بفارغ الصبر لعبور الحاجز، إنه وللأسف الحلقة التركية ( العشق الممنوع) التي تتحلق كل العائلة لمشاهدتها، وتكون موضوع حديث في غرفة المعلمين في اليوم التالي، فأخاف أن تفوتني. فمن الذي لا يعيش في هذا الزمن يا حج يا استاذ يا (أبو العم)؟
وبعدُ ، فقد جعلتني هذه المنامة الواقعية أُقسمُ أن لا أعود الى طولكرم بعد اليوم.وقلتُ شعراً فيها يناسبها:
تجنبْ طولَكرْمَ ولا تأتِها
كنافتُها ليستِ الزّاكيةْْ
ونابُلْسَ يمم شطرَها،لا تخفْ
ففيها الحمائمُ في الساقية
فمِن آلِ طوقانَ هبُّ الهوى
كما هبّ ريحٌ على البادية
تمايلنَ من طرَبٍ مُثملٍ
من عذبِ شعرٍ قلته في غانيةْ
(يسلبنَ ذا اللبِّ حتى لا حِراكَ بهِ وهنَّ أضعفُ خلق اللهِ إنسانا)
منامة هادفة ..جوهرية المضامين..تحمل دروس وعبر ..تسالات واسئلة كثيرة عن واقع
الحياة..عن الانتماء ومعنى العمر..مناظر مؤلمة لواقع قاهر..اين الحياة الكريمة..اين
الامل ..وهل الاهداف النبيلة تقاس بالزمن..
استاذي الكريم..حياك الباري وجمل ايامك بالسعادة ومكارم الاخلاق..
مقالاتك..قصائدك..نقدك..ملاحظاتك..جوهرية بكلمات جميلة..باسلوب سلس متواضع
به طيبة ونكهة جميلة..
لك مني خالص الحب والتقدير..بوركت وجزاك الله كل الخيرات والبركة..
فقط أردت أن أغتنم الفرصة , وأحيي أستاذي العظيم .. استاذ سامي أدريس .. اتمنى ان تكون بالف الف خير ..ونتمنى ان نرى كثيرا من كتاباتك , كما ارجو ان لا تطيل علينا فلقد بِتُ أشعرُ بالبرد فأعطني من كلماتك حتى تكسنا وتدفئنا .. بارك الله فيك يا استاذنا العظيم .
منامة معبرة ولطيفة من أديب مقتدر
الحق أقول لك د. سامي أنني استمتعت بهذا النص الراقي مبنى ومعنى
سلمت ودمت
د. سامي أدريس , حفظك الله ورعاك
تستحق على هذه المنامه أن تلبس عمامة بعد الحمد لله على السلامه , وأعدك كما وعدتنا ألاّ أزور طولكرم ولا حتى نابلس إلى يوم القيامة بعدما كشفت لنا عما ينتظرنا من خلف الغمامة .
يا سلام عليك يا دكتورنا , فأنت متألق بقول الشعر وسرد الحكاية الواقعية بكل جمالية وبمنتهى الشفافية ليستمتع بها القارئ وكأنها قصة خيالية تصلح لأن تكون مسرحية .
دمت ودام قلمك لمكتبتنا الثقافية والأدبية .
لك مني كل التحيه والتقدير ايها الكاتب القدير . وبلادنا بلاد الخير مليئه بالخير الوفير فيها الكنافه النابلسيه وفيها الزعتر والرمان والتين فيها الشعراء والادباء كفدوى وابراهيم فلنقنع انفسنا ولو مرة اننا امام الحواجز عاجزين. ادباء وشعراء ومواطنين
أحبكم جميعاً أيها القراء والمعلقين النخبة، أنا نفسي أحب أن أعود لقراءة هذه المنامة عدة مرات، حتى قالت زوجتي: أنتَ مثل بجماليون الذي صنع تمثالاً وأُعجبَ بتمثاله فظلّ ينظر إليه.
كل التعليقات جميلة ولها خاصيتها الأجمل
فانتظروا المنامة الثانية والثالثة و… حسب التساهيل وما يمر علينا وما يكتب لنا في هذه الحياة.
[…] في هذا السياق للدكتور سامي ادريس:منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان اقرأ أيضاً في […]
[…] المنامة الاولى: منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان […]
[…] المنامة الاولى: منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان […]
[…] المنامة الاولى: منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان […]
[…] المنامة الاولى: منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان […]
[…] المنامة الاولى: منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان […]