فضاءات التناص في ديوان " مسروق السماء" للشاعر احمد فوزي ابو بكر

تاريخ النشر: 26/02/12 | 14:07

بقلم د. عمر عتيق جامعة القدس المفتوحة

ينبغي أن نعاين البنية الدلالية لعنوان ديوان ” مسروق السماء ” لتكون المعاينة التي تفكك الغلاف الخارجي اللفظي للعنوان مسوغا للدخول إلى فضاءات التناص في نصوص الديوان ، وكشفا عن التعالق الدلالي بين عنوان الديوان وفضاءات التناص ، وذلك أن دلالة التناص ، وأية دلالة أخرى في الخطاب الشعري ينبغي أن تتقاطع وتتماهى مع عنوان الديوان .

سيميائية العنوان

تشير الصيغة الصرفية ” اسم المفعول ” للعنوان ” مسروق السماء ” إلى أن سرقةً حدثت لأمر ما .. ، كما أن إضافة ” مسروق ” إلى السماء يضفي على حدث السرقة هالة من القداسة تجعل السرقة جناية كبرى ، والسارق جانيا آثما . وتبدأ تساؤلات المتلقي بالتشكل والتمدد في مساحة التوقع والاحتمالات ؛ ما المسروق ؟ ومَن السارق ؟ .ويشكل هذان السؤالان فضاء نفسيا موازيا للفضاء الدلالي الأولي الناجم عن التركيب اللغوي للعنوان ؛ وهو فضاء نفسي مشبع بظلال دينية ؛ إذ إن المسروق ليس ملكا فرديا ، بل هو ملك وهبته السماء “لجماعة” ، وأن “عودة” المسروق لأصحابه واجب مقدس تقتضيه شرائع السماء . ويغادر المتلقي عتبة العنوان إلى بهو النص وهو محمّل بهذه الاستحقاقات ، ويشرع بتأمل قصائد الديوان بشهوة الباحث عن إجابة أضمرها العنوان .

إن الكشف عن دلالة العنوان في جسد النص الشعري يقتضي متلقيا بارعا في ملامسة العصب الدلالي النابض بدلالة العنوان ، ولا يتأتى هذا الكشف إلا بعد رصد القناع الرمزي للخطاب الشعري في غير موضع في الديوان ، كما أن تفكيك الرمز في موضع واحد لا يكفي لمعرفة التعالق الدلالي بين العنوان والنص ؛ لأن البناء الرمزي للقصائد يتسم بنسق تراكمي يجمع بين خاصية التكثيف وخاصية التسطيح ؛ ففي بعض المقاطع يأتي القناع الرمزي مكثفا، وفي بعضها شفافا ، وفي بعضها مسطحا لا أثر للرمز فيه . واستئناسا بما سلف فإن مهارة التلقي تحتاج إلى قدرة على التفكيك والتجميع ؛ تفكيك الدال الرامز وتجميع المدلول ، وهي مهارة تشبه تركيب قطعة فسيفساء تتجلى فيها معالم صورة ” مسروق السماء ” وملامح صورة السارق !

وتحوي بعض الألفاظ المفردة بريقا دلاليا يوهم المتلقي بأنه يملك طاقة على إضاءة العنوان ، ولكن سرعان ما يتلاشى بريق الألفاظ المفردة أمام كثافة الرمز والبنية العميقة للصورة الفنية الرامزة . كذلك لا تنهض التراكيب اللغوية المعزولة عن السياق الكلي بالكشف عن الجينات الدلالية بين العنوان والمضمون . كما أن العناوين الفرعية للقصائد تسهم في بناء نسق دلالي بنيوي بين العنوان وقصائد الديوان وبخاصة العناوين ذات الدلالة المباشرة على الفضاء النفسي المقدس لعنوان الديوان الذي أشرتُ إليه ، فبعض العناوين يحمل شحنات دلالية تتماهى مع ذلك الفضاء النفسي نحو ” كرمل ،وشعلة النار التي في قبضتي ،وهكذا أردت أن أكون ، و الله .. الوطن .. حبيبتي ، وصلاة حرة ” ، وحينما يعاين المتلقي عنوان قصيدة ” مسروق السماء ” التي اختارها الشاعر عنوانا رئيسا للديوان يتوهج ذلك الفضاء النفسي المقدس . وبعض العناوين الفرعية ذات دلالة زئبقية لا تسعف المتلقي بالربط المباشر بينها وبين دلالة العنوان الرئيس ، نحو ” مفتاح الليل ، وشاعر ومجنون ، ورسالة قصيرة جدا …وغيرها ، فالتعالق بين عنوان الديوان وعناوين القصائد يتراوح بين علاقة جاذبة مشرقة دالة ، وعلاقة ساكنة محايدة . لكن رصد الصور الجزئية وتفكيك رموزها وتجميع دلالتها يفضي حتما إلى نزع القناع الدلالي عن العنوان .

فضاءات التناص

من البديهي أن اللغة إرث إنساني مشترك ، وأن نصيب المبدع منها يتحدد وفق اطلاعه الأفقي على بنيتها السطحية المعجمية ، وتأمله الرأسي لبنيتها العميقة ، وعليه فإن وجود لغة بكر عند المبدعين يعد وهما وخرقا للحقيقة . فالمبدعون لا يتمايزون باللغة نفسها بل بتقنيات استخدامها وتوظيفها في سياقات متناغمة . كما أن الصورة الشعرية ترتبط بمنابع قبْليّة تُشكل الأفق التخيلي وتؤسس للبنية الدلالية في الخطاب الشعري . وقد يعي المبدع تلك المنابع القبلية والأصيلة فيرتشف منها نسيجا فنيا في تجربته الشعرية ، وقد تتسرب تلك المنابع في تجربته الشعرية دون قصد ، أي أن الصورة الشعرية تتشكل في اللاوعي .

وفي الحالتين ( الوعي واللاوعي ) يمتص الشاعر الجينات الدلالية من منابع أو مشارب ثقافية ليشكل منها جسد القصيدة ، فالتناص في تعريفاته المختلفة لا يخرج عن امتصاص النص لنصوص سابقة . وعلى الرغم من أن النقاد قد اصطلحوا على تسمية تلك المنابع أو المشارب بـ ” التناص ” فإني أميل إلى تسميتها بـ ” الامتصاص الثقافي ” . ويمكن توزيع الامتصاص الثقافي في ديوان ” مسروق السماء ” إلى فضاءات على النحو الآتي :

1 فضاء التناص العنقودي

يتشكل التناص في بعض المواضع من ديوان ” مسروق السماء ” من مرجعيات مختلفة تشكل عناقيد دلالية متداخلة ومتكاملة ، نحو قوله من قصيدة” الله .. الوطن .. حبيبتي ” :

كبركانٍ تثور الذكريات

مدىً من التاريخ في ذاتي

تراقصني ظلال العامريِّ

على صدى الأنّات عنّاتي

وعنترةُ بن شدّادٍ يناجي

في الوغى عبلَة

فسبحان الذي أجرى بحار

الدمع في المقلة

ورابعةٌ تحشرجُ روحها عشقاً

لربِّ الكونِ والقدرة

ذوي الأخدود فأتوني لهيباً أطفأ الجمرة

ويعلو وقع خيل العزّ في حطّين والسَّجَرة ( ص 63 )

يتوزع المقطع على خمسة محاور تناصية ؛ الأول : تناص أدبي وجداني يتمثل بقول الشاعر : (تراقصني ظلال العامريِّ على صدى الأنّات عنّاتي ) ، إذ يستدعي مناجاة قيس بن الملوح لمحبوبته ” ليلى ” ، ومناجاة قيس لليلى التي تتوشح بالحزن والأنين تنسجم مع أنّات الشاعر في القصيدة . ويتماهى هذا التناص مع الجزء الثالث من عنوان القصيدة وهو كلمة ( حبيبتي ) . والثاني : تناص أدبي وجداني يتمثل بقول الشاعر : (وعنترةُ بن شدّادٍ يناجي في الوغى عبلَة ) الذي يستدعي مناجاة عنتر بن شداد لمحبوبته ” عبلة ” ، ويتقاطع التناصان ( الأول والثالث ) في الدلالة نفسها ، ويتماهيان مع الجزء الثالث من عنوان القصيدة ، وقد يجد المتلقي فرقا دقيقا بينهما حينما يستشعر أن دلالة الشجاعة والبطولة في شخصية عنتر تتسرب إلى الجزء الثاني من عنوان القصيدة ( الوطن ) ، وتؤسس هذه الدلالة لتناص قادم يتعالق مع الوطن . والثالث : تناص ديني روحاني يتمثل بقول الشاعر : (ورابعةٌ تحشرجُ روحها عشقاً لربِّ الكونِ والقدرة ) الذي يحيلنا إلى شخصية المتصوفة رابعة العدوية . وفي هذا التناص ظلال دينية روحانية تتناغم مع الجزء الأول من عنوان القصيدة ( الله ) ، كما أنها تنسجم مع النسيج النفسي للقصيدة والبنية الوجدانية للشاعر وبخاصة أن هذه الظلال الروحانية جاءت بعد سياق نفسي مشبع بالحزن والأنين مستمد من حزن قيس بن الملوح وحرمان عنتر من ” عبلة ” . والرابع : تناص ديني يتمثل بقول الشاعر : (ذوي الأخدود فأتوني لهيباً أطفأ الجمرة ) الذي يستحضر قصة أصحاب الأخدود قوله تعالى : ((قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ(4)النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ(5) ( البروج ) وهو تناص يتقاطع مع الجزء الثاني من عنوان القصيدة ( الوطن ) ؛ إذ إن أصحاب الأخدود الذين ألقوا في خنادق النار يناظرون المعذبين بلا ذنب على هذه الأرض . والخامس : سياق تاريخي يتمثل بقول الشاعر : (ويعلو وقع خيل العزّ في حطّين والسَّجَرة ) ، ولا يخفى تقاطع هذا التناص مع مفردة الوطن في عنوان القصيدة . ويعد المحور الخامس (التناص التاريخي ) سياقا مقابلا للسياقات الأربعة المتقدمة ، فهو يضفي على الحزن والأنين نشوة النصر من حطين ، ويحوّل سياق الانكسار والضعف والهزيمة إلى سياق عنفوان وكبرياء ، ويحول المهانة والذل إلى مجد وعزة .

2- الفضاء الديني

يستحضر الشاعر معاناة السيد المسيح عليه السلام ، وبخاصة الصليب الذي أضحى أيقونة رمزية في الخطاب الشعري الكوني ، وذلك في قوله من قصيدة ” الله .. الوطن .. حبيبتي ” :

أحبّيني قتيلاً بين كفّيْكِ

أسيراً في سراديبٍ وأقبيةٍ

على مرأى جحافلهمْ

تكبّلني سلاسلهمْ

تخزّقني سنابكهمْ

على العتبات مشنوقاً

ومصلوباً

بألواح الوصايا العشرِ ( ص 56 )

يقارب الشاعر بين آلام السيد المسيح ومعاناة الفلسطيني على أرضه ، واللافت أن الشاعر قد أحدث تحويرا في تفاصيل السياق التاريخي الديني ؛ فالصلب في القصيدة لم يتم على ” الخشب ” كما هي حال السيد المسيح ( كما يعتقد المسيحيون ) ، بل تم بألواح الوصايا العشر التي أنزلها رب العالمين على سيدنا موسى عليه السلام لبني إسرائيل ، والوصايا العشر هي مجموع المنظومات الأخلاقية التي كان ينبغي على بني إسرائيل اتباعها . والصلب بألواح الوصايا العشر يحيلنا إلى فضاء دلالي يتسم بالتكامل والامتداد الزمني ؛ إذ إن بني إسرائيل يتحملون المسؤولية التاريخية في صلب السيد المسيح ، كما يتحملون المسؤولية التاريخية في معاناة الفلسطيني . والمفارقة في دلالة التناص أن الوصايا العشر تختزل بعدا أخلاقيا وإنسانيا ، ولكنها تحولت في سياق القصيدة إلى تعاليم ساديّة تعتمد القهر والظلم منهجا وسبيلا .

وفي سياق موازٍ لما سلف يستحضر الشاعر مريم العذراء في قوله من قصيدة ” انتهت الرحلة :

وسنأكل حَبّاً

أو حُبّاْ

ستهزّين بجذع النخلةِ

فَتُساقِطُ من فوقكِ رُطَباّْ ( ص 82 )

لا يخفى أن النسيج اللغوي للمقطع يشير إلى قوله تعالى: (( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)) ( مريم: 25) . والسياق القرآني يجمع بين مشهد آلام مريم العذراء ، والسكينة والطمأنينة اللتين منحهما الله عز وجل لمريم ، وقد وظف الشاعر دلالات هذا السياق في حواره ومناجاته لصديقته السمراء التي اتخذت في القصيدة ملامح الوطن ، أو لنقل إن المرأة التي يناجيها الشاعر في القصيدة تختزل حلما منتظرا ، وسواء كانت وطنا أو حلما فإن الإعياء والتعب والقلق والانتظار والترقب هي الملامح التي ترسم صورة المرأة في القصيدة ، وهي ملامح تناظر النسيج النفسي لحالة مريم عليها السلام . وهذا النسيج النفسي المشحون بالتوتر والمثقل بالقلق والانتظار للمرأة في القصيدة يقتضي خطابا مشبعا بالسكينة والطمأنينة ، لذلك استدعى الشاعر العناية الإلهية التي غمرت مريم.

يمتص الشاعر السياق الرمزي لناقة صالح عليه السلام في قوله من قصيدة ” شاعر ومجنون ” :

إذا ما هذيتُ كأنــــّي اهتديتُ

بناقة صالحْ

فشعري يكافحُ بعضاً يصالحُ

بعضاً يسامحُ بعضاً يصافحْ

ولكن رجوتُ

إذا ما صحوتُ بعِزِّ المنامْ

ألست أمارس فنّ الكلامْ..؟

إذاً لا ملامْ ( ص 19 )

تختزل ناقة صالح في الخطاب السردي القرآني ثنائية دلالية تتوزع على مشهد الحق ومشهد الباطل ؛ لذا فإن التناص في المقطع يضع المتلقي على مفترق دلالي ؛ اتجاه نحو قوم صالح الذين عقروا الناقة فحلّ بهم غضب الله ، وعقر الناقة في هذا الاتجاه يتحول من دلالته الحقيقية إلى دلالة مجازية وهي عقر حقوق شعب !! . واتجاه نحو الناقة نفسها التي تجسد معجزة ربانية تسكن مسامات الذاكرة وآفاق الوجدان . وإذا أحسن المتلقي تفكيك شيفرة المقطع سيكتشف أن دلالة الناقة تندغم مع الاتجاه الأول ، وبخاصة حينما يستأنس بقول الشاعر : (إذا ما صحوتُ بعِزِّ المنامْ أكون لموتيَ موتاً زؤامْ ) .

ومن تجليات التناص في ديوان ” مسروق السماء ” التناص المضمر الذي يمتص سياقا خارجيا يشكّل نسيج النص الشعري دون ظهور علامات لغوية دالة على علاقة التقارب أو التناظر بين السياق الخارجي وسياق القصيدة ، فعنوان قصيدة ” لوحة بلقيس ” يستحضر صورة بلقيس ملكة سبأ ، كما أن القصيدة نفسها تمتص تفاصيل القصة ، وذلك في قوله:

جَفَّ احمرارُ شفاهِها

وَجَلاً

لتحتذرَ السّقوطَ بِلُجَّةٍ

يغتالُ عينيها

خضوعٌ للّذي تخطو لَهُ

قدمٌ تلامسُ ظلَّها المائيَّ

ترنو للسّماءِ

كأنَّما مَلَكٌ يُرَفْرِفُ

فوق هالتِها

فتمشي فوقَ بلّورٍ

لتَتْبَعَها الصقورُ السّودُ

فوقَ العاجِ والياقوتِ

سِرْبَ حمائمٍ بيضاءْ

………..

والشَّعرُ احتفاءُ النارِ

في كفٍّ لجِنِّيٍّ تبرَّأَ من قبيلتهِ

لِيَهْربَ مع صهيلِ الرّيحِ

يُشعلُ مضجعَ الآفاقْ ( ص 117 )

إن قول الشاعر : (قدمٌ تلامسُ ظلَّها المائيَّ فتمشي فوقَ بلّورٍ ) يحيل المتلقي إلى قوله تعالى : ((قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ))(44النمل ) . كما أن قول الشاعر: (لتَتْبَعَها الصقورُ السّودُ فوقَ العاجِ والياقوتِ ) يحيلنا إلى ما ورد في سفر الملوك: (وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب فأتت لتمتحنه بمسائل جاءت إلى بيت المقدس بموكب عظيم جداً .. حاملة أطياباً وذهباً كثيراً جداً وحجارة كريمة.) وقد يكون العاج والياقوت في القصيدة وصفا لعرش بلقيس كما تصفه الروايات بأنه عرش مرصع بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر …

ويؤسس السياق القصصي لقصة بلقيس في القصيدة فضاء دلاليا حرا يمنح المتلقي حرية التقارب والتناظر لأي سياق دلالي ينسجم مع قصة بلقيس على أن يكون السياق الدلالي الذي يستحضره المتلقي متناغما مع الظلال النفسية للقصيدة نفسها . ولعل المرجعية التاريخية للمتلقي تحيله إلى المكان الذي جاءت إليه الملكة بلقيس وهو بيت المقدس . وإذا ارتبط الفضاء الدلالي الحر بالمكان فتكون القدس هي محور التناص الكلي في القصيدة ، وإذا لم يرتبط بالمكان فيبقى حرا يشكله المتلقي وفق ثقافته ونبضه الوجداني .

كما أن قول الشاعر : (والشَّعرُ احتفاءُ النارِ في كفٍّ لجِنِّيٍّ تبرَّأَ من قبيلتهِ ) يستدعي بعض الملامح الأسطورية التي تناقلها الرواة وبعض المفسرين حول الملكة بلقيس ، فقد زعموا أن سيدنا سليمان حينما رأى الشَّعر على ساقيّ بلقيس أمر الجن أن يصنعوا دواء لإزالة الشعر !!!

وفي قصيدة ” كرمل ” يستحضر بعض ملامح شخصية ( الخضر ) في قوله :

هل يستوي القمران

في هذا المساءْ!!؟

يتسابقانِ الإنحناءَ للَيْلكٍ

في ظلِّ سيفِ الخِضْرِ

حُلماً إِنْ يُراوِد سَكْرَتي

فَسَأستفيقُ منَ القصيدةِ فوقَ أعتابِ القيامةْ

فأنا وأشعاري على

باب السّماءْ ( ص 11 )

تثير حكاية الخضر إشكالية في الخطاب الثقافي ، فبعضهم يرى أنه الخضر إيليا ابن الياس صاحب موسى عليه السلام في الرحلة البحرية التي أشار إليها القرآن الكريم ، وبعض الموسوعات العلمية تصف الخضر بأنه نموذج للحكمة والأناة والصبر وشيخ الزهاد والمتعبدين ، وله قدرة على التشكل على الرغم من آدميته . أما في الخطاب المسيحي فالخضر هو القديس ( مارجريس ) الذي يتجسد في فن النحت والرسومات التشكيلية بشاب وسيم الوجه يمتطي حصانا ويطعن برمحه تنينا بسبعة رؤوس ! وبصرف النظر عن حقيقته فإن استحضار الشاعر لصورة الخضر هو امتصاص لمنظومة القيم والمعتقدات التي تشكل حيزا في الخطاب الثقافي الفلسطيني الذي يصور الخضر وليا أو قديسا يملك قوة خارقة على مواجهة المخاطر التي تهدد الإنسان ، ويرمز إلى انتصار الخير على الشر ، ويبشر بالقيامة والنصر ، وهذه هي الدلالات التي اختزلها التناص في القصيدة ، إذ إن السياق النفسي لقصيدة ” كرمل ” يقتضي استحضار قوة الخير لمواجهة الشر الجاثم على سفوح الكرمل ، ويقتضي كذلك التبشير بآفاق الانبعاث و الخلاص للتغلب على حالة الإحباط والاحتقان وضبابية الرؤية .

3الفضاء الأدبي

تجسد ” ليلى ” في الخطاب الشعري أيقونة رمزية تختزل حزمة من الدلالات الوجدانية والفكرية ، ويستدعيها الشعراءُ في دفقاتهم الشعرية لأغراض شتى ، فهي معادل موضوعي يتسع لآفاق مختلفة . وقد استدعى الشاعر ” ليلى ” لتكون فضاء وجدانيا يعبر فيه عن الوطن في قوله من قصيدة ” الله .. الوطن .. حبيبتي ” :

أنا المجنون يا ليلى

وليلى لا تؤرّقني

أنا المجنون يا ليلى

وحمّى البَيْنِ تحرقني

ويمنحني شعاع الضوء

فيضاً من كرامتهِ ( ص 65 )

يحيلنا دال ” المجنون ” في المقطع إلى الشاعر العاشق قيس بن الملوح الذي بلغ عشقه لـ ” ليلى ” حد الهُيام ، فساح في الأرض بغير هدى . ويتحول جنون العشق من قيس إلى الشاعر أو ” الأنا ” الفلسطيني ، وتتحول المعشوقة من ” ليلى ” إلى الأرض ، وبهذا يصبح جنون العشق تماهيا مع قضية وتفانيا من أجل كرامة . و” حمى البين ” في المقطع يختزل شعورا مكثفا من الاغتراب عن الوطن بعد أن كان حرقة فراق في سياق العشق .و” شعاع الضوء ” رمز ينطوي على حلم منتظر يُعيد الأرض لعاشقها لتنتهي حمى البين وحرقة الفراق .

4- فضاء التراث الشعبي

يستحضر الشاعر من جيوب الذاكرة مشهدا من عبق التراث الفلسطيني في مواسم الفرح ، وبخاصة حينما كانت النساء البرمكيات يتكسبن بغنائهن ورقصهن ، كما في قوله من قصيدة ” في ضفاف الأربعين ” :

في ضفاف الأربعين

أرجعتني

زقزقات الطّيرِ من ساحة بيتي

للأغاني

في دعاء البرمكيّاتِ

لِمولودٍ جديدْ

في فضاءٍ من تباريك الأقاربِ

وزغاريدِ العواجزِ

وكفوفٍ من حديدْ

أمطرَتْ

بالرّاقصاتِ

الغجريّات ( ص 33 )

والتوسل بالتناص التراثي في ديوان ” مسروق ” السماء لا يقتصر على تجليات الذاكرة الذاتية كما في المقطع السابق ، بل يتجاوز البعد الذاتي إلى تجليات الذاكرة الجماعية ، فيستل الشاعر من جيوب الذاكرة صورة الوطن في قوله من القصيدة نفسها :

في ضفاف الأربعين

جرّحتني زقزقات

الطّير حيناً قبل حينْ

حينما استصرخْتُ

أرضيْ

يوم تلك الزلزلة

كنت طفلاً

ليسَ لي (شبقٌ ولا عبقٌ )

بأرضٍ مهملة

تحت حكم السّفلة

والدّماء السائلة,

وعيون الحاقدينْ ( ص 36 )

يتجلى تناص التراث في المقطع في المثل الشائع (ليسَ لي شبقٌ ولا عبقٌ ) ، والمثل في أصله يعني الشهوة الجامحة بين الرجل والمرأة ! والعبق رائحة العطر الذي يضاعف من تلك الشهوة. والمثل استعارة تمثيلية ، إذ شبه الشاعر عدم شعوره بالنكبة التي حلّت بالوطن ؛ لأنه كان طفلا صغيرا لا يعي سبب سفك الدماء من قبل السفلة الحاقدين ..شبه تلك الذاكرة الشعورية برجل لا يشعر بشبق ولا يثيره عبق ..!! . ومن البدهي أن مناسبة المثل وأصله اللغوي يتلاشى في الذاكرة الجماعية التي تكتفي بالسياق الدلالي الذي يقع فيه التمثيل .

ويمتص الشاعر من تراث الخطابة عبارة ( أيتام على موائد اللئام ) التي أضحت مثلا دارجا في قوله من قصيدة ” صلاة حرة ” :

يا تِبْرَ موجِ البحرِ في شَمْسٍ تنادت للأصيلْ

مات الدّليلْ

ماتَ الدّليلُ

وتاهَت الصَّحراءُ فينا

لا تقلْ صرنا يتامى

فوق مائدة اللّئامِ

أَتَت بِعَصْفِ الرّملِ صحراءُ النّوى

جمراً يجنّحُ في الوجوهِ

قوافلَ الثوَّارِ جيلاً بعدَ جيلْ( ص 89 )

أزعم أن أصل عبارة ( أيتام على موائد اللئام ) مستمد من خطبة طارق بن زياد الذي حرّض جيشه على فتح الأندلس في قوله : ((أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم….. )) . واللافت أن خاتمة المقطع في القصيدة تتناغم مع ظلال البطولة والثبات والشجاعة في خطبة طارق بن زياد . وسواء كان التناص بين المثل وخطبة طارق بن زياد مقصودا أو كان ناجما من اللاوعي الجمعي فإن المتلقي يجد فيه مساحة “حرة ” للتأمل وتفكيك البنية العميقة للنص .

وتعد ” جفرا ” أيقونة تراثية فلكلورية مشبعة بالدلالات ، نحو قول الشاعر من قصيدة ” صلاة حرة ” :

والرّيحُ ريحُ الشَّرقِ

روحي دائماً

غنّت لجفرا

واستماتت في هواها

لا هَوانْ

يأتي الموشِّحُ رقصةً صوفيةً

تحكي لنا عن زهرةِ الصّبّارِ

والشَّوكِ السِّياجِ على الهويّةِ

وانعتاقِ المستحيلْ . ( ص 90 )

تشكل ” جفرا” فضاء الوطن ، وتمتص مخزونا فكريا ووجدانيا لا حدود له . وقد كتبتُ مطولا قبل سنوات عن دلالات ” جفرا ” في دراستي لشعر عز الدين المناصرة حينما قلت :

جفرا ظاهرة عشق أزلي ، تضرب جذورها في نخاع الأرض ، فنسمع مناغاة بين جفرا وذرات التراب، وتغدو الأرض والإنسان كيانا منصهرا في علاقة عشق لا تنتهي لم تعد ( جفرا ) جذورا للزجل الشعبي الفلسطيني فحسب ، فقد خرجت من الرحم الفلسطيني إلى رحاب العالم اللامتناهي ،وأضحت أغنية ورمزا وشعارا وأيقونة ، تتجسد بها إنسانية الإنسان وطموحاته وأحلامه ، لقد أضحت ( جفرا ) شيفرة لكل المعذبين في الأرض ، ومنارة للرافضين الساخطين ، وناموسا لخارطة العالم المنتظر ، إنها (محرك بحث ) في عصر التقنية ، يمنحنا ما نشاء من القيم والمثل والأصالة والمصداقية والتحضر ، يهبنا صفحات تاريخ صادق غير مزور ، صفحات ناصحة البياض ، نكتب فيها التاريخ الذي لم يُكتب بعد ، ونعيد صياغة التاريخ المزور .

وجفرا هي اندغام الوجدان بنكهة التراب ، وهي الوطن السليب ، والوطن المسجى في المزاد العلني ، والوطن الطاهر البكر الخالص من أوزار أبنائه . قل ما شئت عن جفرا ولكن لا تقل إنها مجرد أغنية شعبية . ودلالات جفرا من زئبق ، كلما امسكنا بدلالة انفلتت منا عناقيد دلالية . هل هي الوطن والثورة والأرض والمرأة ؟ هي كل ذلك وأكثر . جفرا رمز عنقودي يسكن وجدان الإنسان . مَنْ منا ليس فيه جينات من جفرا ؟ من منا لا تنبض مسامات وجدانه عشقا وفرحا لجفرا ؟

واستئناسا بما تقدم فإن ” جفرا ” في بنية الخطاب الشعري لدى الشاعر أحمد أبو بكر تختزل الجينات الدلالية في كل ما تقدم ذكره ، بل يضيف الشاعر بأن ” جفرا ” أغنية تردد الروح صدها ، وتستميت من أجلها ..إتها الأرض بعبقها وشموخها وعنفوانها ، وهي كذلك الأرض بنزيفها وصبّارها وشوكها ..وهي الهوية التي تعجز عن طمسها أبجدية الغرباء ..إنها انبعاث المستحيل وانتصار الإرادة .

‫4 تعليقات

  1. لقد قرأت الديوان..مسروق السماء..لشاعرنا الكبير احمد ابوبكر..استمتعت بقصائده

    وادركت ان ناظم هذه القصائد شاعر اصيل متمكن من اللغة العربية .التورية ..البلاغة.

    جزيل الشكر للاستاذ عمر على التحليل العميق للديوان وقصائده..

  2. انا من المولعين بالشعر العربي القديم الكلاسيكي ،والحديث الحر وتربطني بالشاعر احمد فوزي ابو بكر علاقة صداقة ولي ثقة كاملة بمقدرته الشعرية الأبداعية القادرة على تحريك مكامن روحي الفنية ،لذلك لم اتردد ولو للحظة بالموافقة على استعمال واحدة من لوحاتي كصورة للغلاف الخارجي لديوانه مسروق السماء ,وبعد صدوره واهدائه لي وقراءته ،وجدت انني محق فيما قمت به ، وزادت ثقتي بقدرة شاعرنا احمد على تجيير اللغة مجازاّ وتطويعها لتصبح اداة لأثراء حياتنا الفنية .

  3. لقد اطّلعت على ديوان الشاعر الكبير أحمد فوزي أبو بكر ( مسروق السماء ) واستمتعت كثيرا واغترفت من بحره شربات الشفاء ودعوت له بالخير من رب السماء على هذا العطاء الذي قلما نجده في أيامنا هذه لدى ( الأدباء ) أو ( الشعراء ) .
    هنالك الكثير من الذين يتمنون أن يصلوا للمستوى الرفيع الذي وصل إليه الأستاذ أحمد ومنهم أنا وبالتأكيد .
    أدام الله أخي أحمد ذخرا لميدان الأدب ووفقنا إلى ما يحب ويرضى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة