المنامة الثانية:يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة!

تاريخ النشر: 26/02/12 | 14:27

كان في أيام صباي في الطيبة رجلٌ كفيف البصر، يدعى ” الصّادق”.أَعتبرُه محطة عزيزة على قلبي تقف ذاكرتي عندها أنا ومجموعة من أتراب الصبا. وأريد أن أُشرك قارئي العزيز بهذا البريق الذي يتبعني ويدخل في وجداني. خاصة وأن الكثيرين يعتبرونه من الصعاليك المهمشين، لولا هذه المنامة التي ستخرجة بحدة من عتمة النسيان في زقاق في الحي الشرقي حيث كان يسكن، الى نورانية الذاكرة في مدينة العشق والأدب.

كان الصادق طويل القامة يمشي مع عكازه نفس الطريق اليومي الى أن يصل مقهى ” حَنّون” فيأخذ الكرسي الخشبي ويجلس على قارعة الطريق ، بوقار . ثم يصيح بصديقه عمر صاحب المقهى : ” حُط على أُغنية الجندول ” ويأخذ في الاستماع اليها وهي تنبعث صداحة من هذا المقهى التاريخي، وكانت هي الأغنية المفضلة عند الصادق تداعب روحه قبيل مغيب الشمس، وهو يرتشف ذلك المشروب الذي (يشبه) الشاي في لونه فقط، ويعيد مع أغنية الجندول :

أنا من ضيّعَ في الأوهامِ عمرَه

نسي التاريخ أو أنسي ذكره

ويبدو أنه لن يشبع من سماعها لو أعيدت على مسامعه كل مغرب شمس، وقد ينتقل به الطرب الى أُغنية الكرنك فيتخيل نفسه بين الأطلال، فيأخذه الغناء صدّاحاً:

أنا هيمانُ ويا طولَ هيامي

صورُ الماضي ورائي وأمامي

وكان الصادق كثيراً ما يداعب عمر القهوجي، ريثما يأتي صديقه عثمان حسنين المبصر، فيقول له: كلكم مبصرون وترونني وأنا لا أراكم، هل في ذلك أي قسط من العدالة، إنكم تستمتعون برؤية السيدة وهي تتأوّد حُرقةً وتشدو، وكان أحمد شوقي قد رغب أن تشاركه كأس الشراب فرفعت الكأس إلى فمها ملاطفةً وتودداً، ولكنها لم تشرب شيئاً فقال :

سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها

واستخبروا الراح هل مست ثناياها

حمامة الأيك من بالـشــجـو طـارحـها

ومن وراء الدجي بالشوق نـــاجـاهــا

حتى إذا وصلت الى المقطع التالي، أحسَّ الصادق بالنشوة تغمر روحه وردد معها:

القت إلي اللـيـل جـيـدا نــافـرا ورمــت

إليه اذنا وحــــــــارت فـيـــه عـيـنـاهـا

وعادها الشوق للأحباب فـــانـبـعثـت

تبكي وتـهـتــف أحــيـانـا بـشـكـواهــا

وقد تمر بالمقهى فتسمع صوت السيّدة ينبعث حاراً وئيداً :

أغارُ من نسمة الجنوبِ

على محيّاكَ يا حبيبي

دهاءُ الصادق (السّادك): الشاي والسراج

وكان الناسُ ينادونه ( السادك) بالسين والكاف، وذلك تمييزاً له، وهو الشخص المهمّش المسحوق في نظر الناس، عن الصادق بالصاد المفخمة، ذلك الرجل الأرستقراطي المعروف صاحب المقام الرفيع. وهذا ما تعلمته من آداب الحديث من ستي عديلة ، فهناك فرق في المقام بين الصادق والسادك.

والمهم أنه كان يضع أمامه كأساً فيها شراب (يشبه) الشاي في لونه ولكنه لم يكن شاياً البته، لكن الصادق ليموّه الأمر على المارّة كان يضع ملعقة يأخذ في تحريكه كأنه الشاي . فإذا سمع أحداً من المارة قادماً نحوه ، يرتشف قليلاً منه محركاً شفتيه كأنما يشرب شيئاً ساخناً، ولكن الويسكي ليس ساخناً ولا يحتاج الى ملعقة لتحريك سُكّرهِ!!

لقد استمرت لعبة الصادق الذكية هذه على مدى ثلاثين عاماً، دون أن يكتشف أحدٌ من المارّة أنه كان يشرب المنكر، يشرب فيقهقه قهقهة ما تلبث أن تنقطع فجأةً كأنما يتذكر شيئاً محزناً لم أستطع فهمه. وكان يسخر من أشباه المثقفين خاصة أصحاب المناصب ، وكانوا يتجنبون سلاطة لسانه، وكان يقول : الحمد لله الذي أراحني من رؤيتكم، ولم يحرمني سماع الطرب الأصيل.

وكان الصادق لذكائه يحمل سراجاً إذا عاد في الليل بعد سهرة مفعمة بماء السماء، ومرة سأله أحدهم مستغرباً : ما معنى حملك السراج ياسادك وأنت يعني بلا إحراج كفيف البصر فماذا يفيدك السراج، فأجابه السادك: يا لشدة غبائك بلا إحراج ،السراج من أجل أن يراني أصحاب البصر( المفتحين يعني) فلا يصدموني بسياراتهم، وهم غارقون في مشاكلهم سارحين في عوالمهم الغريبة.

يا عُمر أيها الرُّوَيْبِضَة!

وكان كثيراً ما ينادي صاحب المقهى بأعلى صوته: يا عُمر أيها الرُّوَيْبِضَة، ولم يكن يعرف عمر معنى للرويبضة أي التافه الذي يتحدث في أمر العامة، ولكنه كان متأكداً أنها مداعبة له، وإلماح الى أن الصادق يريد كأساً أخرى. وكنا نحن الصبيان نعرف هذه الإشارة الصادقية ونتضاحك بمرح أيام زمان. وعندما كبرنا عرفنا أن عمر هذا لم يكن رويبضة البتة، بل كان الناس يهابون جانبه، وكان على سذاجته شديد الاهتمام بشؤون الانتخابات البلدية ، لدرجة أنه أوكلني أن أكتب له منشوراً يرشح فيه نفسه للانتخابات المحلية، وقد فعلت ذلك على سبيل المزاح، ولكن المزاح انقلب جداً لضراوة المعركة الانتخابية في ذلك الوقت، حتى أن رئيس أحد الأحزاب المتنافسة تقدّم الى المقهى حيث عمر وطلب منه أن يكفَّ عن ذلك ، حيث أنه يقتل أصوات من العائلة ومن الصعاليك الذين يؤمون المقهى ، ولكن عمر لما شعر بأهميته، أكبرني أيما إكبار حيث أن المنشور فعل فعله، وهذا يعني أنني قادر على قلب الموازين على عقبيها. فطلب أن نتابع اصدار المناشير، فقال له الصادق: ” بدك تخرّب بيت الزلمي… خليك رويبضة أفضلك”

شمسُ الأصيل

وقد تمرّ بالمقهى ساعات الفجر فتسمع صوت عبد الباسط عبد الصمد كأنه يتنزّل من السماء لساعتهِ يجلجل ويزلزل ويخرج من الروح أثقالها، فتقول ماله ومالها، وتعلمُ أن ربك أوحى لها، ولكنك لن تجد الصادق ساعتئذٍ، فهو يخرج من بيته قبيل المغيب وقت اصفرار الشمس عندما تكون السيدة تشدو” شمس الأصيل” ممتشقاً حسامه( محجانته التركية) ، يقطع الشارع بثقة المارد الجبار. ويسأل صديقه القهوجي عمر ماذا ترى منظر الشمس وكيف تكون عند الأصيل ،وعندما يشرح له ببساطته السوقية يزداد استمتاع الصادق بها

كان الصادق يحفظ من الأشعار الكثير ولكنه كان كثير الترديد للأبيات:

يا ليتَ ما بيني وبينكَ عامرٌ      وبيني وبين العالمين خرابُ

إنْ كان منكَ الودُّ فالكلُّ هيّنٌ     وكلُّ ما فوق الترابِ ترابُ

وقول بشار:

يَاقومُ أُذْنِي لِبَعْضِ الحَيِّ عَاشِقَةٌ ** والأذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أحْيانا

وقول الشاعر:

يُعيِّرُني الأَعداءُ وَالعَيبُ فِيهمُ *** وَلَيسَ بِعَيبٍ أنْ يُقالَ: ضَرِيرُ

إذا أَبصَرَ المَرءُ المُروءَةَ وَالوَفَا *** فإنَّ عَمَى العَينَينِ لَيسَ يَضِيرُ

وهكذا عاش الصادق ومات في طيبة بني صعب لم يخلد ذكره أحد سوى هذه المنامة من العبد الفقير الصادقيّ:

لم يكن أعمى ولا متعامي

عركتهُ حوادثُ الأيامِ

في حضنه قيثارة عتيقة

كانَ في شجوها هديلُ حمامِ

عاشَ صادقٌ صادقاً زماناً

بينَ عينٍ ترى وقلبٍ ظامي

ما رأى في الوجودِ أمرأً مهماً

تأسى على فقدهِ العيونُ

ومضى ولم يُخلِّفْ شيئاً

غيرِ قولٍ لهُ وشعرٍ حامي

كتب في هذا السياق للدكتور سامي ادريس:منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان

‫13 تعليقات

  1. كم جميل أن يعيدّنا الأدبُ إلينا، فيدفعنا لنجدَ من فينا ونجدّدَ ما بنا.
    سلم مدادُ قلمك، ولا فضّ فوك، ولا كلّت أناملك ولا نضبَ نهر عطائك

  2. رائع بكل معنىً للكلمة
    جذبتني منامتك د. سامي
    وعشت مع روح الصادق المحلقة بيننا
    مودتي

  3. تحيات: ولماذا منامة؟ إنها ذكريات ومذكرات صاحية، وقد تعرفت أنا كذلك إلى الصادق، وكنت أسكن في حي دار عبد القادر شرقي الطيبة. جميل سردك يا صديقي، امض واكتب أكثر فأكثر، حدثنا عن شخصيات اخرى مهمشة، وأخرى تركت أثرها في الطيبة وهي متواضعة إنسانية أصيلة مثل غازي الطيبي، وغيره. أصدقك أنني أسر بمواد كهذي، فأملي أن تواصل هذه الصفحات ففيها الغناء الكثير.

  4. تحياتي الوردية د. سامي ادريس
    ان هذه المنامة “يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة!” جميلة المضمون والفحوى فهي تحمل في طياتها الكثير من معاني الحياتية, فنرى الشخصيات المهمشة تلعب أدواراً حقيقة في الواقع .. كما وقد جاء سرد الأحداث بطريقة شيقة ليُضفى متعة وتناغم..

  5. د. سامي إإدريس صاحب الفكر النفيس ,
    هذا هو الأدب الأصيل , والذي تتغنى له شمس الأصيل ؟
    أقول لك وبكل صدق , هذا لون ادبي جميل , تعشقه الروح وتميل .
    لقد استمتعت بالتهام كلمات منامتك فأكثرت من الترديد والترتيل لأن المنامة قصيرة ولست أرضى منك بالقليل إنما أريد سيلا من أدبك الذي يشفي العليل .
    أتوسل إلى الله أن يمدك بالصحة والعافية والعمر الطويل .

  6. استاذي الكريم الدكتور سامي ادريس المحترم…حياك الباري وجمل ايامك بالسعادة

    ومكارم الاخلاق..

    احترام الناس الغلابة واجب خلقي اجتماعي وديني…ربما تجد رجل اسد في ثياب

    بالية..هناك اناس مع بعض العاهات الجسدية منحهم الله العبقرية والتالق الفكري العقلي..

    المنامة..ذكريات من واقع الحياة..تحمل افكار جوهرية للعيش الكريم..واحساس

    بالغبطة والفرحة والنظرة الايجابية ..

    التفاؤل الجميل..الامل الواعد بمستقبل فاضل..عناصر ضرورية للحياة الكريمة..

    استاذي الفاضل..لك جزيل الشكر والامتنان على عطائك المتواصل..لك مني خالص

    الحب والتقدير..بوركت..جزاك الله كل الخيرات..

  7. عندما أقرأ تعليقاتكم ايها السادة الكرام النخبة التي تتنامى يوماً بيوم، أحسُّّ أنني ما تعبتُ في استحضار روح الصادق عبثاً. وعندما يكون الأدب صادقاً يكون التعليق صادقاً مفعماً بالدلالات المعبرة عن مدى المتعة والتماهي مع النص.
    أشكر عزيزي الشاعر المجيد صاحب الدرر مسلم محاميد، ومزيد من الشكر والمودة للشاعر الذواقة أحمد فوزي أبو بكر. وإلى البروفيسور فاروق مواسي هل تسمح لي أن أصوغ منامة من وحي سيرتك الذاتية خاصة تجربتك الشعرية مع فدوى طوقان وعبدالوهاب البياتي، ونزار قباني؟! لستُ أدري كيف ستكون ، المهم السطر الأول كما قال يوسف ادريس، وبعدها يسيل سيل من المتعة والتشوف الشائق.
    والى صفاء أبو فنة فراشة الوادي، كم أود أن أكتب عن قصائدك! ولكن؟!مزيداً من الابداع!
    والى أبي فريد . كم هو فريد تعليقك يا سيدي الكريم الأصيل.
    والى المحامي ابي باسل ليس أعظم وأجمل من تحية الباري،ولتدم عليك هذه الاريحية راعياً حامياً وحاضناً للأدباء تفسح صدرك لهم وتفتح أبوابك مشرعة لكتاباتهم.

  8. اسفه لم انتبه بدايتا الى محتوى هذه المنامه وقراتها عدة مرات حتى اتوصل للرساله التي تريد ان توجهها لنا نحن القراء وفعلا هناك عدة رسائل وهي قيمه اننا وفي حقبه زمنيه رغم مرارة العيش وندرة الموارد الماديه الا ان الحياة البسيطه لها معنى اخر ينبع من عاداتنا وتقاليدنا الاصيله التي يفتقرها الكثيرين اليوم رغم اننا اليوم نعيش الوجه المعاكس لتلك الفتره التي عاشها ابي الصادق الانسان البسيط الذي تمتع بكل رشفة قهوه ارتشفها من مقههى الحياة البسيطه

  9. […] المنامة الثانية:يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة! […]

  10. […] المنامة الثانية:يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة! […]

  11. […] المنامة الثانية:يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة! […]

  12. […] المنامة الثانية:يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة! […]

  13. […] المنامة الثانية:يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة! […]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة