حيفا "الأسد" / علي نصوح مواسي
تاريخ النشر: 28/02/12 | 4:52أشبه بأن يكون مدخلا ما:
قال أحد الشّعراء في وصف صفّ السّحيجة في مهرجان التّضامن مع السّيّد الرّئيس بشّار الأسد:
صـفّقْ على دمِّ الشّهيدِ فإنَّكَ *** صَفِقٌ وعبدٌ لطاغيَـةِ الشّــآمِ
ستذكُرُ الأيّامُ أنَّــكَ مـجــرمٌ *** ونَـحَرْتَ سوريّا بِعُهرِ كلامِ
ما بعد المدخل:
لم تكن حيفا الّتي اكتظّ تاريخها بمحطّات النّضال الوطنيّ التّقدميّ الإنسانيّ المشرّف، ضدّ القهر والطّغيان والاستبداد، ومنذ ما قبل “القسّام” وحتّى “جائعون للحرّيّة”، لتتوقّع يومًا أن يجرؤ أحدهم على تشويه صفحة بياضها ببقعةٍ قاتمةٍ من سواد الشّوفينيّة.
في مساء الخامس والعشرين من شباط / فبراير، بوغتت حيفا بصوتٍ نشازٍ غير الصّوت الّذي عوّدتناه، يجمع بين قوميّة الانتماء وإنسانيّة وتقدميّة وأخلاقيّة القيم.
هناك من وقف في ذلك المساء على منبرٍ من منابر حيفا، سُطِّرَتْ في كلّ ركنٍ من أركانه مقولات الحرّيّة والتّحرّر، كما كلّ شبرٍ من فلسطين، فقالَ ما هو نقيضٌ للحرّيّة والتّحرّر ولأحلام وروح فلسطين:
* هناك وقف قدسُ مطرانٍ، يرتّل كلّ برهةٍ رسائل السّيّد المسيحِ محبّةً وسلامًا ومغفرة، وفقط عند بوّاباتِ حمصَ تخلّى عن كلّ ما تعوّده من كلام، فلا هو دعا للآلمينَ ولا تمنّى للبشر، أبناء المسيح المخلّص، السّلام.
من سيصدّق بعد اليوم صلواتٍ لنور القدس، وقد انحازتْ للظّلم والظّلام؟
* هناك هتف جولانيٌّ محتلٌّ باسم المقدّس والمبجّل والمنزّه، يريد أن يفديه “بالوليد والولد”، وقد فاته أن يتساءل عن أربعين عامًا مِنْ إهماله ونسيانه مِنَ المفتدى، رغم ثباته وكلّ تضحياته، وكذلك أن يتساءل عن دبّاباتٍ ومجنزراتٍ خجلت من أن تطأ تراب أرضه المحتلّة، بينما توجّه فوّهاتها الآن نحو صدورٍ عاريةٍ في درعا وحماة والقامشلي.
هل ذلك لأنّ “الشّعوب تفقد المناعة ضدّ الاستبداد؟!” (دي لا بواسييه).
* هناك وظّفَ جنبلاطيُّ عتيقٌ عريقٌ الأمثالَ الشّعبيّةَ ليقنعَ ويتحفَ، مثل “قل لي من صديقك أقل لك من أنت”، و”عدّي رجالك عدّي من الاقرع للمصدّي”، فنسيَ صديقَ من كان هوَ، ونسيَ أن يعدّد من بين الرّجال، أكبر القرعان، زعيمه وليد جنبلاط.
* هناك استشهد أحدهم بأبياتِ “بلاد العرب أوطاني” للشّاعر المناضل الكبير فخري البارودي، ليرثي العروبة.. ربّما هو من أولئك الّذين يريدون للسّوريين عبوديّةً دهريّةً في عصر “ربيع الشّعوب”، ففاتته أبياتٌ للشّاعر نفسه يقول فيها:
في سبيلِ المجدِ والأوطانِ نَحـيا ونَبـيــدْ *** كلّـنا ذو هِمّةٍ شــمّـاءَ جـبّــارٌ عَـنـيــدْ
لا تطيقُ السَّادةُ الأحرارُ أطواقَ الحـديدْ *** إنَّ عيشَ الذلِّ والإرهاقِ أولـى بالعبيدْ
* هناك ندّد، وهدّد، وتوعّد، مؤمنٌ عقائديٌّ راديكياليٌّ بخيار الدّولة الواحدة، فنسي ربّما أنّ الدّولة في عصرنا، هي الإنسان المواطن قبل كلّ شيءٍ، لا حكم جنرالاتٍ وجيشٍ يدعوه من حيفا إلى دكّ إنسانٍ معارضٍ من مواطني الشّعب، استرخص دمه وألغى حقّه في الوجود، ووصفه “بالعميل”، فقط لأنّه عارض طاغية.
ثمّ وكساحرٍ يخلط ليلًا بنهار، وماءً بنار، جمعَ المؤمن العقائديّ بين تأييده بقاء سفَاح دمشق على عرشه من جهة، وتأييده للاصلاحات والدّيموقراطيّة والتّعدّديّة والتّناوب والحوار ووووو من جهةٍ أخرى، ولو أتيحت له فرصة اطّلاعٍ على “طبائع الاستبداد” لعبد الرّحمن الكواكبيّ الحلبيّ، وحديثه عن صلة الاستبداد والاستعباد بإضعاف الدّول والشّعوب واستجلاب الغزاة، لخجل كيف يقول ما يقول وهو ابن الألفيّة الثّالثة وعصر الـ “بي. دي. إف” و”الآيباد بوك”، لا من زمن الكواكبيّ قبل ما يزيد عن مئة عام!
واستنتاجنا هو أنّ العصريّة ليست وقتًا، إنّما قيمة.. وعكس العصريّة ما هو؟
صحيح، هو الرّجعيّة.
* وهناك كذلك، أفتى شيوعيٌّ عنيدٌ، ضاق أفقه فعجز عن تحديد الاحتمالات واجتراح الحلولِ، فخيّرنا ما بين مؤامرةٍ كونيّةٍ أو قوميّةٍ أسديّةٍ، بين الأبيض أو الأسود، بين أن تكون معي تمامًا أو ضدّي تمامًا، بين وطنيّته وعمالتنا، حكمته وسذاجتنا، لا ثالث في أيّ شيءٍ ولا منطقةً وسطى، وقد غفل عن خيارٍ محتملٍ مفاده “أنّني أريد أن أكون مع الشّعب.. وفقط مع الشّعب.. ولا يشرّفني أن أكون معك في حيّز الجريمة”.
وكم غريبٌ عجيبٌ الانتقالُ المكوكيُّ لهذا الشّيوعيّ العنيد من معسكر وحالة “أوسلو وأنابوليس وكامب دافيد” واشنطن وتل أبيب، وثورة “كوتيج روطشيلد” الطّبقيّة الإنسانيّة الخالدة المطالبة بالعدالة الاجتماعيّة وحقوق الإنسان، ونعي “الشّهداء” الرّفاق العراقيين من أتباع الحاكم العسكريّ بريمر بالبونط العريض، إلى معسكر وحالة “الرّجعيّة العربيّة” و”محور الاستبداد السّوريّ”؟!
أوهذا الّذي كان يقرّع ويجرّم ويوبّخ مع بدايات الثّورة اللّيبيّة، وبأثرٍ رجعيّ، زملاءه من أعضاء كنيست وسياسيين لأنّهم التقوا القذّافي، وهم – وفقًا له – كان ينبغي عليهم أن يتنبّأوا بجرائم حربه المستقبليّة قبل وقوعها!
ولتفسير حالة صاحبنا وانتقاله المكوكيّ، أرجو اختيار واحدةٍ من الإجابات التّالية، هو كذلك:
أ. لأنّ زرّ موسكو الأحمر ما زال يعمل منذ عام 1947 ولم يصدأ.
ب. لأنّه مصابٌ بعقدة “عزمي بشارة”.
ج. محاولة منه لحفظ ما تبقّى من ماء وجه.
د. كلّ الإجابات صحيحة.
* هناك تواجد أيضًا مَنْ تذكّر فجأةً، وبعبقريّة نبويّة، أنّ “مؤامرةً” ما تحاك على سوريا وبلاد العرب، وكأنّ القوى الامبرياليّة كانت ومنذ نشوء المسألة الشّرقيّة (روسيّا) تقصقص بزر!
أحسب أنّ أخينا نسيَ ما قاله نزار قبّاني الدّمشقيّ يومًا، فأذكّره:
“ما دخلَ اليهودُ من حدودِنا
وإنّما..
تسرّبوا كالنّملِ.. من عيوبِنا”..
* وهناك، في المكان نفسه، رابَطَ مَنْ يجمع في الآن ذاته، وبعجائبيّة شهرزاديّة، بين “فش إشي بسوريا.. كلّ شيء تمام وهدوء.. وفش ثورة ومظاهرات وولا إشي” وبين “على النّظام أن يبيد كلّ المتآمرين عليه.. المخرّبين.. الإرهابيين”، فما عدنا نعرف هل يوجد شيء ما في سوريا أم لا يوجد؟! هل نصدّق أنّ هناك “أزمة” وفقًا لفؤاد المعلّم، أم “الأزمة انتهت” وفقًا لبثينة شعبان؟! “هدوء درعا” وفقًا للدّنيا، أم “عمليّات الجيش البطوليّة وشهداء الأمن في درعا” أيضًا وفقًا للدّنيا؟!
* وهناكَ هناك، كان مشهدٌ هزليٌّ من النّوع الدّراميِّ السّيّء، سيكون من الصّعب جدًّا نسيانه أو شطبه من الذّاكرة، إذ أعلن اللّفيفُ المجتمعُ من مؤيّدي جزّار دمشقَ، ومن قلب حيفا، تقديمهم لموعد الاستفتاء على دستور الأسد الجديد، دستور بند “الرّئيس الرّجل المسلم”، ليوافقوا عليه أجمعين بالتّصفيق والغناء، ويا ليتهم انتظروا يومًا ليروا كيف أنّ ثقافة “متلك مين إنت يا عالي الجبين؟.. نحنا جنودك ملايين.. يا بشّار يا أسد يا حبيب الملايين”، لم تدفع بملايين الملايين ليبايعوا رئيسهم عبر الاستفتاء الجديد، ، كما صوّر لنا الإعلام الأسدي الفاسد، وقد علّق أحدهم على “الفايسبوك” قائلًا:
“الاستفتاء الأسديّ، ورغم أنّه أسديّ، فهو مؤشّر مهمّ وخطير على شعبيّة الأسد..
استفتاء القيادة المقدّسة المبجّلة الّتي يؤيّدها ملايين الملايين، تمنح مؤشّرًا قد يكون حقيقيًّا لشعبيّة الأسد.. هذا لو أخذنا بصحّيّة الاستفتاء، ونحن نعلم أنّ في قرانا العربيّة حتّى، هنا في البلاد، وفي أكثر الدّول ديموقراطيّة تحصل التّزويرات، فكيف إذا ما تحدّثنا عن دولة ’البعث‘؟!
ولكن فلنسلّم بذلك.. فلنفترض أنّ الاستفتاء صحيح:
%57 من ملايين الأسد شاركوا بعمليّة التّصويت فقط!!! ولوووووو؟!!
وفقًا لما نراه في الإعلام الأسديّ الفاسد، كان يجب أن يصوّت على الأقل، وبحماسة، 80% من الشّعب.. لا أقلّ.. فهذا النّظام هو نظام ثقافة تعكسها أغاني ’متلك مين.. إنت يا عالي الجبين.. يا حبيب الملايين…‘
750 ألف شخص من هؤلاء الّذين صوّتوا قالوا ’لا‘ (9%)، وهناك 132 ألفا أسقطت أوراق استفتائهم (1.6%) ربّما لأنّهم كتبوا عليها “ارحل”، كما شاهدنا في الفيديوهات!!!!
قوّة الأسد في الشّارع السّوريّ، وفقًا للاستفتاء الّذي حشدت له الحشود، وأقيمت الدّنيا ولم تقعد إعلاميًّا لكي ينجح، تظهر أنّ 46.4% فقط من السّوريين البالغين العاقلين يؤيّدون دستور الأسد…
هذا في حال افترضنا أنّه لم يحصل تزوير، وأسقطنا كلّ تشكيك بعمليّة الانتخاب وتغاضينا عن أنّنا شاهدنا أشخاص على قناة الدّنيا (الحمد لله مش مزوّر الفيديو)، يأتون بدفاتر عائلات أبنائهم المغتربين ليصوّتوا عنهم!!!
46.4% من أبناء أسد ملايين ساحة الأمويين والسّبع بحرات يؤيّدونه فقط؟!!!! ومع تزوير؟!!! ولو.. شو السّيرة؟! شو بعد قاعد بسوّي؟!
فضيحة بجلاجل!!!!!” (انتهى تعليق المعلّق).
وأخيرًا:
فلتحبّ سوريا وأوطان العروبة كما تشاء، ولكن شتّان بين محبّ يهتف بـ “الله، سوريّا، بشّار وبس” وبين آخر يهتف بـ “الله، سوريّا، حرّيّة وبس”.
فلتحبّ سوريا وأوطان العروبة كماء تشاء، ولكن شتّان بين محبّ يحمل صور أزهار وعصافير وروابي الشّآم، وبين آخر يحمل يزفّ صورة الطّاغية الفرد الحاكم المستبدّ، في زمان انهيار الصّور واندثار الشّخوص.
فلتحبّ سوريا وأوطان العروبة، ولكن ليس من يحبّها هو من يهتف لمرتكب قتلٍ وسفكٍ ودمارٍ، قاعدٍ عن مقاتلة العدوّ الحقيقيّ، مجاهدٍ على شعبه، بـ “الله محيي الجيش”، وينسى أن يدعو إلى حوارٍ وتصافٍ واصطلاحٍ، على مبدأ “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما…”، أو أن تقاتلَ الّتي بغت.. وواضحٌ جدًّا من بغى هنا!
فلتحبّ سوريا وأوطان العروبة كماء تشاء، ولكن اعرف أنّك لست وطنيّا أو قوميّا أو عروبيّا أو حريصًا على الأوطان أكثر من غيرك، وأنّك لست وصيًّا على أحد ولا تتحدّث إلّا باسم نفسك.
حيفا عزّ الدّين القسّام، ونوح إبراهيم، وبولص فرح، وإحسان عبّاس، وجميل البحيري، وإيليا زكار، وصادق عبد الرحيم، وصالح ناجي، ورشيد الحاج إبراهيم، ستبقى وفيّةً لوطنيّتها وقوميّتها الملتحمة بالتّقدميّة والإنسانيّة وقيم التّحرّر من الطّغيان مهما كان مصدره.. ومخلصةً لشعوب العروبة وهي تخوض أروع معاركها دحرًا للاستبداد والرّجعيّة العربيين، حصان طروداة الامبرياليّة، فتصنع ربيعها.
حيفا لن تسمح لك أن تشوّه صفحتها البياض.. وستبقى دومًا حيفا الشّعوب، لا حيفا الأسد أو غير الأسد.
وهكذا فلسطين..
* ملاحظة: مرتاحٌ جدًّا لأنّ قاعة السّحجة كادت أن تخلو من الشّباب، سدنة وأبناء العصر.