تقول للأعور أعور بعينه!
تاريخ النشر: 04/07/14 | 15:00الصديقة القاصة والروائية ميسون أسدي عاملة اجتماعية في قسم الرفاه الاجتماعي في منطقة الجليل، ولذلك فإنها تستغل وجودها في قريتي كفر ياسيف لتقوم بزيارتنا من حين إلى آخر، في كل زيارة تفاجئنا بما تحمله في جعبتها من القصص القصيرة للكبار وقصص للصغار. نتدارسها معا ونتبادل الرأي، فتبدع بشكل لافت للنظر بما لديها من أفكار نيرة ومن كم هائل من الإبداع الذي تنسجه بسرعة البرق، فهي أبدا حاضرة مع أكثر من قصة قصيرة وفي كل مرة نلاحظ أنها شديدة الانتباه بحيث تستخلص قصصها من عالم الواقع الذي تعيشه. إنها تعيش الكثير من قضايا معاناة الإنسان الفلسطيني فتعالجها بأسلوبها الجريء والذي فيه تتحدث عن قضايا المرأة العربية الفلسطينية والأوضاع الاجتماعية التي تعاني منها ولا تلمح لبعض القضايا التي تعتبر عيبا في هذا المجتمع بل تقول للأعور اعور بعينه!
من هنا وجدت قصصها رواجا كبيرا فهي تنشر كل قصصها في جميع وسائل الإعلام المقروءة بشكل جريء ومباشر، هكذا تتحدث عن الجنس والشهوة الجنسية والممارسات الجنسية عندما تجد أن هناك حاجة ماسّة للتعبير عنها فتدخل القارئ والقارئة معها في سير الأحداث توزعها بشكل واقعي وبلغة تغلب عليها البساطة وتفاجئ جمهور القراء في كل مرة بنهايات غير مألوفة، تعطي القصة رونقا خاصا. ما يجب ذكره حول عالم الرواية هو أن الرواية بدأت في السنوات الأخيرة، تحتل محل الصدارة في الإبداع العربي المحلي، بينما كان الشعر بعد النكبة عام 1948 يحتل ذلك المحل، فشعراء ما بعد النكبة حاولوا وبقوة تخطي الهزائم العربية وإبراز البطولات العربية من ماضي هذه الأمة، فنجح شعراء كبار أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وحنا أبو حنا وحسين راشد وحنا إبراهيم في تبرير الهزيمة وإعادة الثقة بالإنسان العربي خاصة وان إسرائيل التي نجحت في احتلال ارض فلسطين إلا أنها لم تحقق السلام المنشود حتى اليوم، لذلك فأن مسلسل الهزائم سوف يستمر إلى أن يحقق كل طرف ما يصبو إليه وخاصة الطرف الفلسطيني في إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
من هنا فان الأديبة ميسون أسدي تعالج في بعض قصصها الاجتماعية قضية القضايا الفلسطينية بعين فاحصة لتؤكد أن الإنسان الفلسطيني سوف يصل بالنهاية إلى تحقيق الثوابت التي لا تنازل عنها مثل حق العودة وحق تقرير المصير وما إلى ذلك!
رجاء تقدم شكوى ضد المجتمع!
اتخذت الأديبة ميسون لروايتها “مثلث توت الأرض” بطلة صبية فلسطينية اسمها “رجاء” وفي هذه التسمية أمل كبير في تحقيق أهدافها، فتجعل رجاء فتاة فلسطينية مثقفة تتعلم المحاماة ولها علاقة طبيعية مع أستاذها المعيد في الجامعة في قسم الحقوق وتسلمه ملفها الخاص والذي فيه تطلب منه تقديم شكوى ضد المجتمع! يفاجأ المعيد بالموضوع لغرابته عن كل المواضيع التي عالجها في حياته كمحامٍ وكمدرس في قسم محاماة في الجامعة وبينما كان يفكر في رفض الطلب، إذ به يفاجأ بتسلسل ما كتبته فلا يضع الملف جانبا بل يعود إلى مراجعته مرة تلو الأخرى خاصة وان رجاء تبدو وكأن بها مس من الجنون أولا بحيث تدخل مستشفى الأمراض العقلية وتعود من حين إلى أخر لتمارس حياتها الطبيعية وتختلط القضايا وتتشابك من حولها فتلعب دور القيادة في عائلتها وفي مجتمعها ويقتنع المعيد بأن هذا الملف به الكثير من الصدق.
تحاول ميسون من خلال بطلة قصتها رجاء التي كانت في الخمسين من عمرها إدخال مجموعة من النساء اللواتي يعانين من مشاكل خاصة، منهن قريبات لها وصديقات ومنهن من صادفتهن رجاء بالصدفة وهكذا تتجمع القضايا لدى رجاء بحيث تصبح قضية واحدة عبارة عن صوت الأنثى العربية أو صوت جميع النساء العربيات اللواتي يعانين من ظلم المجتمع العربي من جهة ومن ظلم المجتمع الإسرائيلي من الجهة الأخرى. إذا يكون ظلم المرأة الفلسطينية مزدوجا واكبر بكثير مما تعانيه المرأة اليهودية هذا إلى جانب معاناتها من المجتمع الذكوري الذي يكبت أحاسيسها.
تحاول المؤلفة استغلال مكان المعيد وهو الأستاذ المحاضر في كلية الحقوق من اجل تقديم شكوى بطلتها رجاء إلى القضاء في ملف يحوي يوميات أو مذكرات البطلة رجاء، وبالرغم من أنها تظهر هذا الأستاذ بموقف اللامبالي من يوميات رجاء إلا أنها تفاجئنا بتمسكه بالملف والعودة إليه بسبب عناصر التشويق التي تسردها المؤلفة، فتجعله يتمسك بالملف ويتحمس للموضوع بما فيه من تحديات لمعلوماته ودراساته، ومن غرابة تثير لديه عنصر حب الاستطلاع فلا يضع الملف جانبا بل يتابع قراءته حتى النهاية.
في تقديمها لهذه الرواية تحاول “د. دوريت جوتسفيلد” المقارنة بين يوميات رجاء وقصص ألف ليلة وليلة لتتنتج أن شهرزاد في “ألف ليلة وليلة”
نجحت في إخضاع الملك شهريار للاستماع إلى قصصها حتى النهاية فتمر الليالي الألف ولا يقرر شهريار قتل شهرزاد لما في قصصها من عناصر التشويق بينما في رواية رجاء لميسون أسدي لا تنتهي الرواية بحل مشابه بل يبقى الوجع النسائي على حاله دون علاج شاف لواقع المرأة العربية الحياتي.
هكذا تصل رجاء إلى حالة الجنون التي تداهمها بين الفينة والأخرى لتحصل على العلاج في احد المصحات العقلية ويتحول هذا الجنون إلى واقع مر تتخلص منه رجاء البطلة لفترات وتعود تعاني منه من جديد.
والترميز هنا واضح كل الوضوح فحالة الجنون لا تخص رجاء وحدها لان المؤلفة حاولت إقناعنا بأن المجتمع العربي والعلاقات اليهودية العربية في إسرائيل معقدة جدا بحيث توصل المرأة الفلسطينية إلى حالات الجنون
الفاكهة المحببة والأيدي العربية الرخيصة!
“مثلث توت الأرض” هو عنوان هذه الرواية وتوت الأرض هو من الفاكهة المحببة والتي تصلح للتصدير إلى العالم الخارجي إلى جانب الاستهلاك المحلي. هذه الفاكهة تزرع بكثرة في ارض المثلث الطيرة والطيبة وقلنسوة وهو يعتبر زراعة ناجحة إلا انه يحتاج الكثير من الأيدي العاملة الرخيصة من اجل جمع المحصول، وهنا تلعب الأيدي العربية الرخيصة دورا مهما في جمع المحصول وترتيبه في مكعبات من البلاستيك ليصبح جاهزا للتصدير ولكن الإشكال في هذه الزراعة يكمن في تصدير توت الأرض إلى خارج إسرائيل، وهنا أيضا تأتي الشركات الإسرائيلية اليهودية لتجمع المحصول المعد للتصدير، فتقرر سعر المحصول حسب رغبتها ولا يبقى للمزارع العربي إلا النزر اليسير. هكذا تدخلنا المؤلفة في الصراع العربي الإسرائيلي داخل المجتمع الإسرائيلي، فالعربي يقوم بالأعمال الشاقة واليهودي يستغل الوضع ليراكم أرباحه على حساب العمال العرب.
المهم في هذا الموضوع هو كيفية استغلال الفلاح العربي، هذا النص يذكرنا بما كان يحصل في مصر في فترة الاستعمار البريطاني بين عامي 1872- 1952 في فترة السبعين عاما حاولت بريطانيا تشجيع الفلاحين المصريين على زراعة القطن المصري الذي يعتبر من أجود أنواع القطن في العالم إلا أن هذا القطن كان يزرع ويجمع محصوله كله بالعمل اليدوي، فكان الفلاح المصري يتحمل شقاء العيش مع عائلته لجمع المحاصيل وتصديرها ولكن على أيدي الشركات الانجليزية ولا يصنّع هذا القطن إلا على أيدي شركات التصنيع في بريطانيا.
وهكذا هو توت الأرض مصدر رزق الفلاح الفلسطيني في بعض قرى ومدن المثلث ولكنه كان مصدر نقمة بسبب تحكم الشركات الإسرائيلية في هذا المنتوج.
مهم أن نذكر بأن العمل اليدوي الشاق الذي يشارك به كل أفراد العائلة كان عاملا موحدا للعائلة ولكنه كان يقوي سلطة الأب في العائلة أيضا على حساب باقي إفراد العائلة، فالأب هو الذي يبيع المحصول ويوزع الربح على باقي أفراد العائلة حسب رغباته، هكذا يكون الاستغلال مضاعفا ويؤذي أفراد العائلة الصغار الذين يجبرهم الأب على العمل معه بدلا من أن يعيشوا طفولتهم بسعادة وهناء وان يتفرغوا للتحصيل العلمي كما يجب!
وهنا لاحظنا مدى تعلق الإنسان الفلسطيني بالأرض بالرغم من قوانين المصادرة الجائرة التي كانت ولا تزال تبطش بالأرض الفلسطينية، لذلك فأن الإحصائيات التي قرأت عنها- ولم أتأكد من دقتها- تشير إلى أن ما مجموعه 95% من أراضي فلسطين أصبحت تملكه الوكالة اليهودية والمتمولين اليهود ولم يبق للعرب في إسرائيل سوى 5% من مجموعة مساحة فلسطين فقط!
وضوح دون لف أو دوران!
تتميز كتابات المؤلفة ميسون أسدي بأمرين واضحين: الأول بساطة اللغة ووضوحها دون لف أو دوران.. الثاني: استغلال الجنس بشكل مباشر في محاولة منها لمعالجة عناصر الكبت التي يمارسها المجتمع العربي ضد المرأة العربية، والجنس في كثير من الحالات يكون سببا في الاعتداء على المرأة العربية حيث يعتدي عليها لمجرد الشك في أن لها علاقة جنسية مع شاب كائنا من كان خارج إطار الزواج. هكذا لمسنا أن حالات قتل المرأة بحجة الحفاظ على شرف العائلة تتكرر في معظم قرانا. ولو عدنا إلى التاريخ العربي والتراث العربي منذ الجاهلية أي قبل الإسلام لعرفنا أن أجدادنا كانوا أكثر وعيا لمثل هذه القضية، فالفتاة التي تمارس الجنس أو تغتصب خارج إطار الزواج كان شيخ القبيلة يأخذها إلى بيته ويضمها إلى حريمه دون أن يكتب كتابه عليها إلا أن يجد الشاب المناسب فيزوجها على سنة الله ورسوله وتنتهي المشكلة بحل سلمي ومناسب وتعود المياه إلى مجاريها. أما اليوم فان شبابنا الغير مثقف يلجأ إلى العنف وتكون النتيجة دفع الثمن بقتل الفتاة ويقضي الشاب الأب أو الأخ أو العم سنوات كثيرة في السجن ثمنا لفعلته غير الإنسانية.
لا تلجأ المؤلفة إلى المحسنات البلاغية أو اللفظية لأن المهم لديها هو إيصال الفكرة التي من اجلها تكتب قصصها وهدفها ضمان الرفاه الحقيقي للعنصر النسائي في مجتمعنا العربي من هنا جاء أسلوبها واقعيا جريئا وواضحا كل الوضوح.
إلا أنها تلجأ من حين إلى أخر، لإدخال بعد الأمثال والأحداث تربطها في بعضها بتسلسل مشوق لتجعل منها قصة واحدة أو رواية واحدة متكاملة الفصول مترابطة مع بعضها وهي في كل الحالات لا تقسو على بطلاتها من الفتيات بل تعمل على نصرتهن في الغالب.
هكذا لا تتردد بالدخول إلى الكثير من التفاصيل تسخرها من اجل الحصول إلى ما تصبو إليه بالأساس وعلى الرغم من كثرة الشخصيات التي تدخلها في السرد إلا إنها تعود من حين لأخر إلى بطلة روايتها وترتب علاقاتها مع شخصيات مر ذكرها في بداية الرواية فتعيد لحمتها كمسبحة انفرط عقدها وأعادت المؤلفة جمعها من جديد دون الخروج عن دقة التفاصيل ولا ملابسات الأحداث.
النهاية: نوبة الجنون!
إذا كانت بطلة الرواية رجاء تخرج من مستشفى الأمراض العقلية وتعود إليه المرة تلو الأخرى فأن نهاية الرواية تأخذها إلى المستشفى للمرة الأخيرة، حيث يقيدها الممرضان المكلفان بإعطاء المادة المهدئة خلال نوبة الجنون التي تصيبها وبالرغم من صراخها واستنجادها بالله وبأبيها وحتى بالملائكة وترفض الحقن المهدئة التي تسميها القاتلة والتي تعشّش في دمها فتحرقها وترتخي يداها المتشنجتان وتسبل رمشيها وقليلا قليلا يتوقف صراخها ويهمد صوتها ويرتاح بالها وتخلد إلى نوم عميق بفعل المهدئ ويزحف القمر ليطل عليها من النافذة حيث تموت الريح في السماء!
ويصرح احد الممرضين: لن تترك العنبر المغلق بعد ولن تهرب المعتوهة ثانية!
وتضيف المؤلفة قولها: ولم تنته القصة بعد.
هذه النهاية فيها الكثير من عنصر التشويق من مزج السرد كما نلاحظ
بقلم: د. بطرس دلة- كفر ياسيف