الصفر النفيس
تاريخ النشر: 28/02/12 | 14:12بقلم – حنين امارة ( زلفة )
تتسابق الكلمات لتحتل مرتبة الشرف في تعبيرها عن ذلك الموقف الذي تجلت فيه اسمى معاني الاخلاص والتميّز، لتبرز فيه كأيقونة لحن جميل يتغنى بها كل من لاحت في عالمه أعلام النجاح والتفوق، انّ هذا غيض من فيض مغاز كثيرة تعلمتها من تلك القصة التي كان ذلك الطفل الصغير بطلها فطالما عهده ابناء صفه تلميذا مهملا لا يسوى شيئا البتة، غير انه يجلس في ركن الصف منتظرا لرنة الجرس المنقذة الذي ستصدح بصوتها لتعلن عن انتهاء الحصّة. كان كالزهرة الذابلة لا يفوح منها عطر ولا شذى بل تبث مشهد اليأس والاستسلام اليائس من أيّ شيء، كان يبكي احيانا متأثرا من نظرات أبناء صفه اليه ناعتين اياه بالصفر واحيانًا أخرى باسماء أخرى مهينة …..كلّ هذا كان هناك في ذلك الصفّ الذي يقع في الطابق الاسفل قرب البهو المظلم .
لم تقتصر تلك المعاملة السيئة على ابناء صفه وحسب بل حتى على معلميه الذين كان يريدهم ان يكونوا الدرع الذي يحتمي به مما يلاقيه من أذى واساءة ، لم يكونوا كما ابتغى فقد كانت الصورة مقلوبة والمناداة غير مسموعة فكل صوت ارتفع من ذلك المسكين كان يكتم لكي لا يستمر بالازعاج كما اعتقد معلموه كل هذا كان يحصل هناك…. وليس في مكان آخر انه في لبّ المكان الذي يقدسه الجميع ، مكان نشر العلم والمعرفة ، منبع القيم والتربية …..
استمرّ ذلك ايام طوال حتّى جاءت تلك المعلّمة التي تميزت بعطائها غير المسبوق ولكنها وقعت في مصيدة الآراء المسبقة هي الأخرى، فوضعت على عينيها غشاوة شوشت أفكارها لتجعل ذلك المسكين في خانة مشطوبة ومغلقة ، لم تكن تعره أيّ اهتمام سوى بعض النظرات الفوقية وقليل من الابتسامات الصفراء .ذلك فقط ما أعطته تلك المعلمة ” المعطاءة ” حتى ادركت في احد الايام انها وقعت في مطبّ الظلم والتجني على حقوق طفل خانه الزمان فادار له ظهره فوجد كل من حوله يعادونه اما بالكلمات او النظرات او حتى بعض التلميحات ……. كانت معلمة ” معطاءة ” لكنها لم تدرك انّ ذلك المسكين يحتاج ان يغترف من عطائها فامه قد توفاها الله منذ سنتين فانقلب حاله رأسًا على عقب حتى امسى طالبا مهملا لا يعرف سوى الخمول والكسل فلم يعد للدنيا طعم بعد وفاة اعز الناس الى قلبه لذا لم يعد يابه بشيء فقد ضرب كل شيء عرض الحائط ليجده الجميع في ضياع محتوم وموت بطيء يدهش كلّ شخص سبيله التفاؤل والسرور .
كلّ ذلك كشف عندما كانت المعلمة تتصفح ملفه الشخصي حينها طأطات رأسها وأجهشت في البكاء عندما علمت انه كان من المتفوقين وبدأت حالته بالانحدار في الوقت الذي توفيت فيه أمه – ريحانة قلبه -الى ان وصل إلى هذا الحال .
وأخيرا أدركت انها أخطأت بشدة بل كانت بلا احساس ورحمة عندما ادارت ظهرها لذلك الطفل الحزين ، فورا توجهت اليه في ذلك المقعد الخلفي حيث كان يجلس ، نظرت الى عينيه لتبحث عن ذلك المبدع المتفوق ….. نظرت وحدقت ……. وفعلا وجدته يبتسم ابتسامة صفراء تحمل في معانيها الحاجة والعناء …….
منذ ذلك الحين وايمانها به يكبر كما الطفل الصغير ، فقد وثقت به واعطته من حبها وعلمها فكان يدهشها في كل وقت وحين بما يكنه من ابداع وتميز حتّى اصبح ذلك الطفل المتفوق المميّز الذي ما عادَ صفرا على الشمال بل اصبح صفرا نفيسا لا يقدر بثمن فقد استطاع ان يخترق جدار المستحيل ليصبح قدوة لذلك الجيل بتحديه للصعاب بصحبة معلمته التي آمنت به أشدّ ايمان فكانت له اما حنون ذات قلب رؤوم يطفح بالعطاء الذي كان مخزونا في داخلها حتى أذنت له بالخروج .
تلك قصة استقيتها من لبّ الحياة التي نعيشها في زمن ما عاد للاحساس فيه من مكان حتى طغت به الماديّة الجامدة لتحتلّ عرش السيادة والتسلط ولكن بصيص أمل لاح من بعيد ليثبت ان للاحساس وجود وانّ تلك المشاعر الجيّاشة التي تسكن عروقنا وأجسادنا ما تلبث ان تغيب لفترة حتى ترجع آبية التخلّي لأي سبب كان ….. مهما صعبت واشتدت علينا ضغوطات الزمان.