مع توفيق زيــــاد
تاريخ النشر: 05/07/14 | 9:24بمناسبة مرور عشرين عامًا على رحيل الشاعر توفيق زياد تصدر اليوم صحيفة الاتحاد ملحقًا خاصًا عن هذه الشخصية الفذة التي تركت أثرها في مجتمعنا الأدبي والسياسي والاجتماعي.
من المقالات التي كتبتها عن أبي الأمين : “النفس القصصي في شعر توفيق زياد”.
خلاصة المقالة:
نجد لدى زياد قصيدة/قصة ذات مقدمة وحبكة وعقدة استخدم الشاعر فيها عناصر الزمان والمكان والصراع والحوار بأنواعه.
وليس بعيدًا أن تكون القصائد الوجدانية والموقفية الأخرى ذات أبعاد قصصية سواء في قفلتها أو في ” نادرتها”(anecdote)، فقصيدة ” أشد على أيديكم” مثلاً (الديوان، ص 123 ) فيها هذا التواصل الحكائي الذي تقدمه واو العطف، وقس على ذلك الكثير!
أقول في خاتمتها:
إذا اختلف النقاد حول تقديم العنصر الفني لدى الشاعر فلا شك أنهم سيلتقون أن زيادًا كان يحمل قضية شعب، وكان يؤدي فكرة يسوقها بأداء فيه صور شعرية كثيرة حتى ولو لم تكن مكثفة، فهي أمينة في توصيلها مأمونة في تميّزها.
************************
النفَس القصصي في شعر توفيق زياد
إذا صح القول إن شعر الشاعر هو “أناه” – خلاصةُ تجربته وأسلوبه فإن ذلك يتمثل أيضًا في أدب توفيق زياد، فهو لمن لا يعرفه محدّث بارع، يسرد في مواضيعه حكايات مثيرة مشوّقة. ومن خلال دوره القيادي للجماهير العربية في فلسطين (أعني تحديدًا العرب في إسرائيل) فقد انعكس اهتمامه الريادي بالقص، وذلك عبر جمعه صورًا من الأدب الشعبي الفلسطيني، وعبر مجموعته القصصية حال الدنيا، وعبر تفصيحه لبعض الأغاني والحكايات والمأثورات الشعبية، وكذلك عبر تضمينه حكاياتِ وأساطيرَ في نسيج قصائده، وأخيرا عبر القصيدة نفسها – حيث تبدّى هذا النفس القصصي في طريقة العرض، وفي تطور الحُبكة، وفي استخدام عناصر القص المختلفة، حتى أصبحت القصيدة/ القصة من ملامح كتابته الشعرية.
وقد أشار د.عز الدين المناصرة في مقدمة ديوان توفيق زياد (دار العودة، بيروت – صفحة ب ب حـ حـ) إلى أن محاولة طمس الهوية الفلسطينية كانت سببًا من أسباب إدخال المنطوق في الأدب المكتوب، فزياد الذي يؤمن بكفاح الجماهير يستخدم لغتهم، وكتابته لهم تتسم بالبساطة العميقة… وهذا يعني أن الفولكلور برموزه وصدقه وصوره يتداخل في تضاعيف أدبه، كما يوظّف ذلك في أدائه السردي بصورة مباشرة أحيانًا كثيرة. فالشاعر يلجأ إلى تعابير المجتمع وثقافته ويضفي عليها نغمة وجدانية، وقد يستدعي الذاكرة التاريخية ليستند إليها ابن مجتمعه، وليؤصل بذلك الموقف الإنساني الذي يدعو إليه… وهذا كله لا بد له من النفس القصصي.
إننا في تصفحنا لعناوين مجموعاته الشعرية ولنأخذ “أشد على أيديكم” مثلاً فسنجد مثل هذا العناوين: “حكاية تطول” ( ن.م، ص 143)، فالعنوان هنا إخبار مسبق عن طبيعة النص أو لونه، وكذلك “ذكريات” (ص 154)، وماذا تكون هذه الذكريات سوى حكاية ما كان، وهناك “عن الرجال والخنادق” (ص 47) وتكفي لفظة “عن” للتدليل أن هناك ما سيُروى، ومثلها “عن النبيذ واللهب” (ص 148).
ولو أخذنا القصيدة الأولى لوجدنا العناصر القصصية بارزة فيها، ومثلها قصيدة “مقتل عواد الأمارة من كفر كنا” (ص 244)، وهي في ثلاثة أصوات.. وصوت من بعيد..وتهليلة جماعية. فكل صوت هنا يروي شيئًا عن معرفته بالقتيل الذي صرعته تقاليد الثأر:
ستةٌ… من بدء هذا العام
خلاهم رصاصُ الثأر صرعى….
وهذا “الصوت من بعيد” يقول:
ظاهر القصة – يحكي الناسُ
ثأرٌ وانتقام
باطن القصة – يحكي الناسُ –
شيءٌ آخرٌ يمتد من خيط الدمِ
الحابي على الإسفلت حتى قلعةٍ
غبراء في قلب المدينة، حيثُ
توجد.. غرفةٌ من دون رقم.
(ص 254)
فتفاعل القص وما يحكيه أو يرويه الناس هو جزء من القصيدة/ القصة، وينشئ مثل هذا التلاحم بين المجتمع وتعبير الفرد عنه.
وفي قصيدته “خائف يا قمر” (ص 187) نرى أن المطلع “أنا خائفٌ يا قمر” يشير أصلا إلى شيء من المفارقة، فالقمر هو عادة مبعث الهدوء والعشق للحبيب، فإذا به يضحي مصدرًا للخوف ولعشق حبيب آخر، وهذا هو الأخ الذي تتربص به أيدي العدوان.
وفي كل فقرة من القصيدة يتكرر المطلع، ويحمل معه مبررات أو مقَّدمات لما ستتمخض عنه الأحداث، حيث أن الابن سيعود على شرشف أبيض تلّونه بقع من الدماء.
والنفس القصصي في القصيدة تمثل في الدراما التي تعبر عنها الأفعال سواء على مستوى ما كان: تناول… وناولني، وودعني… وكان، وخلّف، وراح….
أو على المستوى الحاضري: وترتجف، وتلمح، وتصرخ، ويقترب الجند، وأبكي، وتزحف، وتهوي. وهذه كلها فيها معاني الماضي أيضًا قبل أن تكون من معاني الديمومة واستمرارية البطش.
وفي قوله: ونبكي ونبكي ونبكي. ثلاث مرات درامية فعلية يتخيلها المتلقي، وعلى إثرِ هذا التأكيد:
وتأمرنا دميةٌ نذلة
من جليد
بدون بكاء…. بدون بكاء!!.
وتتطور القصة في وصفها:
ويبتعد الجند…. في هيبة الفاتحين
ويخرق سمعيَ ذاك الصفيرُ الحزين
عن الأرض.. والشمس… واللاجئين
وعن أملٍ يُرجع الروح للميتين
(ص 196).
وحتى في هذا العرض القصصي كانت هناك استذكارات أو استرجاعات من قصص الآخرين، فالأم تستذكر حكاية ما جرى لجارتها التي:
مضى ابنها في الطريق البعيد
أعادوه في شرشف أبيضٍ
تلوّنه بقع من دماء
أعادته شرذمةٌ من جنود
دُمىً من جليد
وقالوا:
خذيه قتلناه عند الحدود
(ص 194)
إذن هي الحكاية نفسها، والشرشف الأبيض نفسه… والجنود دمى الجليد…
وهذا الاسترجاع هو أفق أخر من آفاق التوقع، وسيفضى لما تؤول إليه النتيجة، وهو يخدم بنية النص التي بدأت بتساؤل الأم وقلقها، وتحديقها في أوجه العابرين وهي تسائل هذا وذاك:
لقيته؟ شفته؟ يا للسماء
وترجع يائسة ترتمي
على عتْـبة البيت عاصفةً من بكاء.
وعنصر التكرار – مرة أخرى – ساهم في تصور حكاية ما كان:
وودعني وودعني وودعني….
ونحن نتخيل ذلك في التلقي، وقد تكون الثالثة في هبوط أو ضعف تحتاج معها إلى تمزيق كتابة اللغة أيضًا.
وفي مجموعة أنا من هذي المدينة (مطبعة أبو رحمون، عكا – 1994) نلاحظ أيضًا النفس القصصي وبشكل أقوى، ويتمثل ذلك حتى في إفصاح الشاعر:
كل ما سجلت جزء من حقيقه
وإذا أحوجنا الأمر سنأتي
بالتفاصيل الدقيقـه
(أنا من… ص 122)
ففي قصيدة :”عدنان وعدنان جديد” (أنا من… ص 39) يبدأ بذكر الحدث مع زمنه:
كانت النجمة في الأفقِ
وعدنانٌ على الأرض يموت.
قلبه ياقوتةٌ.. تفاحةٌ شهدُ
وجههُ حبةُ توت…
وبالطبع فإن التشبيهات البلاغية التي تواصلت في السرد- هي ارتفاع في النص إلى معانٍ تنقل المتـلقي إلى أجواء الإيحاء – في أثناء السرد. هي جزء من الشعر الذي يتسرب إلى الحكاية. وبعد وصف تتمازج فيه اللغة الشعرية واللغة المباشرة يقول:
مثلَ غمضِ العينِ
خرّ عدنانُ صريعًا
شتلة من حبقٍ أو فَرْعُ عُنّابٍ
تهاوى وانكسر
(أنا من… ص 42)
وللقصة في القصيدة خاتمةً:
أمه لم تبك
لكن همست في أذنهِ
شيئًا عن الحرية الحمرا
وعن أرض الجدود
………….
ومضت تهتف كاللْبوةِ
في وجه الجنود
أن في رحميَ عدنان جديد.
إذن هوالحل في توزيعة القصة الموباسانية.
وليس السرد قصرًا على الموقف الوطني فقط، فتوفيق زياد يحكي أيضًا عن الطفولة، وعن مواقف إنسانية مختلفة، وتأتي قصيدة “موت صديقنا الصغير عمر” ذات أنفاس حكائية درامية، يوظف فيها الزمان والمكان، وينقل لنا صورًا مختلفة، مستخدمًا التكرار والوصف الدقيق، فيبدأ الشاعر قصيدته معتذرًا:
اقبلوا عذري إن لم أمشِ
في تشييع جثمان عمر
(أنا من… ص 61)
وننتبه في السرد الذي يتواصل في القصيدة إلى فعل كان” وتكراره:
عمرٌ كان صديقي
وصديقَ الأهل والجيران – كان
عمر كان صديق الحي كلِّ الحيِّ – كان
عمره…
حجمه….
وجهه….
وهنا نرى ارتقاء التشبيهات إلى صور وإيحاءات، وهذه من شأنها أن تعوّض عن البقاء في دائرة الحكاية المباشرة:
ولنقرأ:
دائمُ البسمةِ كالتفاحةِ المغسولةِ الحمراءِ
في موسم حب ومطر
ماسةٌ لؤلؤةٌ…
إصبعًا من ذهب كان
وشمسًا
وقمر…
عاد الراوي الشاعر ومعه قطعة حلوى وكتاب وصور وأساطير. عاد من معرض إبراهيم في بيت الصداقة (والشاعر هنا يستخدم الأسماء عينها لإضفاء الواقعية)، فعمر مات بفقر الدم والحمى، ويتأثر الشاعر حتى يصل به الحال إلى أن يزور قبره، وينادي أبطال الحكايات الصغار..وأبطال الخرافات.. ومن يسكن في كتب الأطفال ليجلسوا جميعهم في دائرة حول قبر الصغير، فحضر علاء الدين والمصباح وأمير الشمس، وست الحسن وفرس النهر و و و و (يذكر نحو أربعين اسمًا بتوزيعات ليس الغرض منها الإدلال بمعرفة قصص وأساطير، وإنما هو في غمرة انفعاله واستذكاره لكل ما من شأنه أن يسعد الصغير)
جلسوا حول لقاءٍ ووداعٍ لعمر
ثم راحوا مثلما جاءوا
تلاشَوْا واختَفْوا
رجعوا للعشب والغيم وأقواس قزح…
وإلى أجنحة الطير وأغصان الشجر
وإلى وجه القمر
وأخذ يعدد لنا أماكن مختلفة كثيرة يستوحيها من عالم الطفولة الذي تماهى فيه إلى درجة قصوى.
وأختم هنا بعرض سريع لقصيدة “سرحان والماسورة”: (ديوان توفيق زياد،380)، وهي تروي حكاية سرحان العلي من عرب الصقر – الذي نسف ماسورة البترول في ثورة سنة 1936، والقصيدة منسوجة على نغم الحكايات الشعبية كما يقدم لذلك الشاعر.
يبدأ الشاعر القصيدة بتوصيفه للبطل:
يقظًا مثل حمار الوحش كان
وككلب الصيد ملفوفًا خفيف
وشجاعًا مثل موج البحر كان
ومخيفًا مثلما النمر مخيف
ونلمح بداية هذا الوصف الأسطوري، ثم يأخذ بوصف المكان والزمان من خلال وصف الطبيعة التي جرت فيها هذه الأحداث:
كان يمشي نحو تل الحارثية
كانت الدنيا مطر
ويستخدم الشاعر المونولوج الداخلي في تساؤل البطل:
لم لا يُخلق للإنسان أحيانًا جناحْ؟
كما يستخدم فن الاسترجاع والحوار مع الآخرين:
عندما قالوا له: سرحان يا سرحان
هل تقدر أن تفعل شيئًا للوطن
هز كتفه “أنا”؟ يا ناس خلوني بعيدًا عن حكايات الوطن!
بدأ الصراع يتفاعل، وذلك بعد إذ عذبه العسكر…. وبعد أن عاش مطاردًا طيلة عام ونصف. ومع هذه المطاردة اكتست شخصيته بلبوس أسطوري كذلك، بسبب صيته، وبسبب الطريقة التي قتل بها…. وبصورة اختفائه….
فاسمه عاش على كل لسان
وحتى بعد أن نشر الخبر عن تفجير ماسورة البترول:
وجد البوليس بعد البحث رجلاً بشريه
وبقايا بندقيه
……
والبقيه
في غد نأتي إليكم…
بالبقيه…
إن التحول طرأ بعد صراع البطل مع نفسه، وساقه ذلك إلى ضرورة الانتقام:
آه يا ماسورة البترول يا بنت الحرام انتظري
…..
كلها بضع ثوان قبل أن تنفجري…
وفي المقطع الأخير يفصح زياد مقاطع من أغنية معروفة كانت في سياق آخر من أغاني الندب القروي، ويضعها لتكون خاتمة النهاية المفتوحة للقصة/ القضية يقول فيها:
شيعوا لبني عمومته يجيئوا بالطبول وبالزمور
خبروهم أنه قد عاد من غزواته صقرُ الصقور
وزعوا الحلوى وأكياس الملبس للكبيـر وللصغيـر
بالهنا كل الهنا يا هنيــــه
وانكوت عيني أنا يا صبيـــــه
إنها إذن قصيدة/قصة ذات مقدمة وحبكة وعقدة استخدم الشاعر فيها عناصر الزمان والمكان والصراع والحوار بأنواعه.
وليس بعيدًا أن تكون القصائد الوجدانية والموقفية الأخرى ذات أبعاد قصصية سواء في قفلتها أو في ” نادرتها”(anecdote)، فقصيدة ” أشد على أيديكم” مثلاً (الديوان، ص 123 ) فيها هذا التواصل الحكائي الذي تقدمه واو العطف، وقس على ذلك الكثير!
وأخيرًا
ثمة من يرى أن الشعر يجب أن يرقى إلى مستويات عالية من الترميز والإيحاءات. ولكن أداء القصة في الشعر لا يمكن إلا أن يراوح في الشفافية بين الغموض والوضوح، وذلك حتى يتم التواصل مع المتلقين ليعوا رسالة النص، ويشاركوا في “العدوى” على حد تعبير تولستوي، ولا بد مع تفاعل المتـلقي إلا أن يحدث تأثير واع أو غير واع في بنية هذا المتلقي الإيجابي.
هنا دور الكلمة التي تلتزم بقضية عامة أو بفكرة خاصة أو بجمالية النص وفي النفس القصصي توصل لهذه العناصر الثلاثة بالضرورة…. فلماذا يقص الشاعر إن لم تؤرقه قضية ما؟
ولماذا يبني النص مع السرد إن لم يرد فكرةً بعينها…؟
وهذان يتأتيان إذا قدمهما الشاعر في مبنى نحس أن فيه فنية أداء.
وإذا اختلف النقاد حول تقديم العنصر الأخير لدى الشاعر فلا شك أنهم سيلتقون أن زيادًا كان يحمل قضية شعب، وكان يؤدي فكرة يسوقها بأداء فيه صور شعرية كثيرة حتى ولو لم تكن مكثفة، فهي أمينة في توصيلها مأمونة في تميّزها.