المنامة الثالثة: باب في صُحبةِ الدسوقي
تاريخ النشر: 02/03/12 | 1:58الوحشة تحاصر الشاعر الدسوقي
هل ستتوقف قيثارة الدسوقي عن العزف، فترسل أناتها الحزينة، هل ستخبو بسمته القانعة المؤملة، هل ستُطفأ الشمعة التي أضاءت ما حولها، أم هل سيتوقف ذلك النهر عن الجريان، وهل ستخلد العاصفة الى السكون بعد أن تساقطت أوراق الشاعر وتناثرت، هل سيتوقف حلمه بضرورة تغيير عالمنا وتعاملنا مع بعضنا وبزراعة حقول من المحبة والتآخي بين أبناء الشعب الواحد، بعد حياة حافلة بالمباهج والنضالات والرحلات، فقد كان لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال يسافر الى أبعد نقطة في البلاد من أجل أن يلقي قصيدة، في أي مناسبة مهما كانت صغيرة. كيف ستمرُّ عليه هذه السنوات العجاف، وقد أصبح لا يستطيع السياقة الى أقرب مكان، وقد خفتَ صوتُه الهادر ، فمن يخطب على المنصات محمساً ومثوّرا جماهير المسحوقين في الأرض؟ً!
الدسوقي وما أدراكَ ما الدسوقي، كانت صحبتي له كالحلم في المنام لم أصحبْ في حياتي شخصاً كالدسوقي، في طيبته، وحبه للحياة، وأريحيته، وشهامته، لم يكن ليّناً فيُعْصَر ولا يابساً فيُكسَر، وكان له من الأصحاب من كل صنف من السياسيين ورجال الدين والشعراء، ومن عامة الشعب، وكان همه قطف المتعة في هذه الحياة والرحلات المستمرة في جميع أنحاء البلاد وخارجها، فإذا دُعي الى مناسبة أو علم بوقوع حدث هام هُرع َ اليه، وكان يحب صحبتي له في هذه الرحلات، وفي أحد هذه المرات بينما كنتُ واقفاً انتظر السفر خارج الطيبة، إذْ به يقف الى جانبي ويقول لي إصعد هيا، وأقول له : إلى أي جهة يا أبا عدي ، فيقول الى صديقنا جمال قعوار حيث دعانا الى ندوة شعرية.
إنه شاعر يحب السهر والسفر والصحبة ومتع الحياة وهو بارع في وصف كل شيء، فهو شاعر متمكن جدا وسهل العبارات والكلمات ويحسن ببراعة فائقة جانب الوصف، والشعر الحماسي وشعر المناسبات. قال شعراً في كل شئ في مديح طبيبة العيون الروسية التي أجرت له عملية ناجحة، وفي وصف ارتجالي لراقصة مصرية أمام زمرة من الأصدقاء والندامى. وفي السياسة والدين وهجاء الزعماء العرب.
وكان شعار الدسوقي في حياته شعار طرفة بن العبد:
ولولا ثلاثٌ هنَّ من لذة الفتى وحقك لم أحفلْ متى قامَ عُوّدي.
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء الممدد
إنه محمود الدسوقي شاعرٌ بل أولُ شاعرٍ في الطيبة، وأول من أصبحت لفظة الشاعر ملازمةً له، فإذا رأوه قادماً قالوا جاء الشاعر، وإذا أشاروا إلى داره قالوا دار الشاعر، وإذا رأوا ابنه عدي قالوا ابن الشاعر، ولا تعرف منصة نصبت في الطيبة إلاّ والشاعر خطيبها المصقع وسحبانها المبدع، ولا تُعقدُ ندوةٌ شعرية في أقاصي البلادِ ودانيها إلاّ والشاعرُ بطلها، فإذا علا المنصة وأمسك بزمامِ مكبر الصوت هبَّ الجمهور مصفّقاً دون أن يفهمَ كثيراً مما يقول، فالمهم هو ذلك الصوت الجهوري الحماسي الذي حباه الله به، وتلك السليقة الطّيّعة في النظم واسترسال الشعر في كل باب: في الرثاء يصول وفي الغزل يجول، وفي السياسة حدث ولا حرج. وقد كان يخشى الاجتماع به على منصة واحدة كبارُ الشعراء المعروفين في المناسبات الوطنية، حيث يفوقهم في مقدرته على الإلقاء وكسب حماس الجمهور فيُذهلوا وتذهب ريحهم. وكان كثيراً ما يتحدث عن هذا الأمر بفخر واعتزاز أحببتهما فيه، وكان يقول لي وهو سائق سيارته: أمسك القلم وسجّلْ، ويأخذ في املاء القصيدة التي نحن ذاهبون ليلقيها في المناسبة التي دُعينا لها، فيُذهلني براعته وقدرته في النظم واللغة وحافظته للشعر العربي الكلاسيكي.
حين يكون الشاعرُ غيرَه
وأذكر أنه استأجر داراً تُطلُّ على الشارع الرئيسي وكتب شعاراً كبيراً عليها هو( الإتحاد الاشتراكي ) أسوةً باتحاد جمال عبد الناصر، وكان يرسل الخطابات الحماسية من على هذا المنبر تجلجل وتزلزل أركان الطيبة. وليسمح لي الشاعر أن أكتب عنه بهذه الصورة غير الرسمية والإباحية بعض الشئ ، وبدون الرجوع الى أي نوع من المصادر سوى الذاكرة ، لأنني أرى ذلك أخلد للذكرى في أذهان القراء، فلو كتبت أشياء رسمية لكان مملاً ولن يستمر في قراءته أحد. فلا تكلُّفَ في الكتابة وأهم سمات هذه الكتابة هو الصدق المهذب والبوح المريح ، وتسجيل ما لن يسجله أحدٌ غيري في هذه المنامة المتواضعة. أما لماذا أدعوها منامة فلأنها كالحلم في المنام بأسلوبها ومضمونها وتجربتها وكفى. وأنا حين أكتبها أكون غيري، ومن أكتب عنه يكون غيره!!!
هَلُموا بجماهيركم لحضور الندوة
دعاني مرّةً الى ندوةٍ كان فيها مجموعة من شعراء الجليل، وطلبَ مني أن أنزل لأرى واستطلع آراء الجمهور وردة فعلهم على الخطاب الذي كان يلقيه، والنداء الذي يوجهه الى الأهالي: هَلُموا بجماهيركم لحضور الندوة الجماهيرية الشعرية الوطنية التي نستضيف فيها نخبة من شعراء الجليل الوطنيين، وشاعراً من الأراضي المحتلة، ويعيد الدسوقي النداء مكرراً أياه بإضافة أمور أخرى لعلها تلهب مشاعر المارة فيصعدوا فينظروا على الأقل على سبيل حب الاستطلاع، ولكن لا حياة لمن تنادي ، لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً، ولكن لا حياة لمن تنادي، يلتفت حوله فلا يرى إلا ثلاثة أشخاص، فيميل الى شاعر كبير هامساً في أذنه إن عملاء الأحزاب المناوئة يمنعونهم من الحضور، إنك تعرفهم جيداً وتعرف أساليبهم من تجربتك معهم. ويسألني المدعو (خرابيط) مالك تسير في الشارع ولا تحضر الندوة ، ألا تسمع صوت صديقك الشاعر، إن الناس استهلكوا هذه البضائع ويوجد حفلة عرس فيفضلون الذهاب اليها، وأقنعه بالصعود معي لحضور الندوة فيصعد .
تجديد الصحبة
تجددت صحبتي والدسوقي عند ما أصبح مفتش المعارف عبد الوهاب درواشة عضو كنيست، وأصبح الدسوقي أبو عدي علماً من أعلام هذا الحزب، فأخذ يصطحبني الى الناصرة حيث مقر الحزب العربي، ولم تكن السياسة تهمني في كثير أو قليل، ولكن صحبة الدسوقي والتعرف على شعراء الجليل، والرحلة والذهاب الى المطعم الشرقي في الناصرة الذي كان يعد لنا على فرن الحطب طبق الكفتة الشهية بالطحينية النصراوية، ثم ما نلبث أن نيمم شطر المختار للحلويات النصراوية، فنأكل أشهى طبقين من الكنافة. ولا تنتهي هذه الجولة عصراً حتى تبدأ جولةٌ أطول وأشهى، فقد أوكل رئيس الحزب ابو باسل( عبدالوهاب دراوشة) الى أبي عدي مهمة توزيع جريدة الديار في منطقة يافا والمركز، فيكون علينا السفر من الناصرة الى يافا، ونصل الى يافا قبيل المغرب الى بيت امرأة أذكر أن اسمها كان ” بنت حسن أفندي” فنسلمها الجرائد ونشرب القهوة ونحمُّ بالنا، ولكن ما نلبث عندما نخرج الى الشاطئ في أيام الصيف قبيل مغيب الشمس نراقب الشفق، ونستنشق نسيم البحر اليافاوي . ووتبدأ سهرة أخرى هي الأساسية.
الرحلة الى جزيرة قبرص
كم كانت دافئة تلك الجزيرة في ذلك الشتاء القارص، في الهيلتون، وفي قاعة السي سي بي، قاعة التضامن مع الشعب الفلسطيني، حيث كنتُ أنا والدسوقي ضمن وفد من قبل الحزب نذهب كل يوم صباحاً الى هذه القاعة، ونضع السماعات على أذنينا لسماع الخطاب المترجم من خطباء من جميع أنحاء العالم، وننتظر موعد الغداء . لقد تحملتُ هذا البرنامج ثلاث أيام كنا نعود منهكين فلا نستطيع السهر ليلاً، وفي اليوم الرابع قررتُ الاستمرار في النوم وعدم الذهاب، وعبثاً حاول أبو عدي ايقاظي فلم يفلح، وخرجتُ الى مركز نيقوسيا فشاهدت عالماً مثيراً : مطاعم سورية لبنانية وأناس من كل الدول العربية وأكواب من عصير الجزر والحلومي ( الجبنة العربية)، فعرفت أن هذه الجزيرة يمكنها أن تكون بحق عاصمة الشرق الأوسط.
واكتشفت الأمور التي تفتح أبوابها بعد منتصف الليل فقررت اصطحاب أبي عدي ليستمتع هو الآخر بالرحلة، فأخذ يقنعني بأننا قادمون في مهمة وطنية بحتة، فقلت له وهل يمنع ذلك من الاستمتاع بالرحلة بدلاً من الاستمرار في التهام نقانق الخنزير من الفندق التي لم نكن نعرف أنها لحم خنزير حتى نبهنا الى ذلك القائد الوطني عبد العزيز ابو اصبع المرافق من حزب آخر، والذي رافقنا الى مطعم التلة الخضراء حيث أكلنا لحم البط وكانت سهرة جميلة.
نعم قادمون في مهمة وطنية، ولكن عندما صرنا بباب المكان ورِجلٌ تقدم وأخرى تؤخر، أشرت الى الدسوقي قائلاً : أنظر من يدخل الى الأسفل في السرداب المؤدي الى بهو الراقصات. أنه ذلك الشخص من الأراضي المحتلة وبرفقته شخص آخر يبدو قائداً وطنياً هو الآخر، وماذا في ذلك أليسوا بشراً ألا يحق لهم الترويح عن أنفسهم، ونحن هل غادرنا الطيبة من أجل أن نسمع خطباً في السياسة فقط؟ إذاً فقد وقع العشاء بنا على سِرحان. هنا تشجع صديقي ورضي أن يدخل ففتحت أمامنا أبواب الجنة تماماً هي جنة عدن وهذه الحور العين كأنهن اللؤلؤ المكنون، يسلبن ذا اللبِ حتى لا حِراكَ به، وهُنَّ أضعف خلق اللهِ إنسانا. أفواج من الراقصات يبهرن العيون كطيور البطريق او اللقالق البيضاء. وكأننا دخلنا كنز علي بابا.
ويومها حدثني عن راقصة مصر حيث كان بصحبة مجموعة من الأصدقاء فطلبوا منه أن يقول شعرأ في وصف هذه الراقصة، فأبدع في الوصف والتصوير، وكان كثيراً ما يُطلب منه أن ينشد هذه القصيدة في محفل من أصدقائه الحميمين، فينشدها، إلى جانب قصيدة أبي لهب التي يقول فيها إن جنود الزعماء العرب هم جنود أبي لهب.
كان الدسوقي الى جانب ورعه وتمسكه بالمسلمات الدينية، خاصة بعد أدائه لفريضة الحج، كان معجباً بالسلوكيات الغربية، فإذا جلسنا في مقهى يعج بالناس، يلفت انتباهي الى تصرف الجالسين ، فلا أحد ينظر الى الآخر، كما يحدث لدينا، فإذا دخلتَ أنت وزوجتك مثلاً أخذوا يرقبونها ويقارنون بينكما وهل أنتما متوافقان أم لا وما الذي أعجبك فيها، وينظر إليك أحدهم يريد أن يأكلك بعينيه كأنك قاتل أبيه. كنا نشعر بحرية إنسانية شاسعة في هذه المنتديات.
وكان الشاعر كثيراً ما يتمثل بقول ابن عربي المعبر:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فدير لرهبان ومأوى لغزلان
وترتيل إنجيل وترنيم كعبة ومصحف توراة وآيات قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجهتْ ركائبُه فالحب ديني وإيماني
الطبيبة الروسية الساحرة
أُجريت للشاعر الدسوقي عملية جراحية في عينه اليمنى على يد طبيبة عيون روسية ماهرة وساحرة، وقد نجحت هذه العملية ففرح شاعرنا أيّما فرح وكتب فيها قصيدة أصر أن يلقيها في المستشفى أمام البروفيسورة طبيبة العيون، وساعدنا في ترجمتها وايصال مغزاها من افتتان الشاعر بأنامل هذه الطبيبة. ثم تشجع الشاعر واطمأن الى إجراء عملية في عينه اليسرى، ولم تكن نفس الطبيبة فنسيت أن تقلب العين وأعادتها بشكل مقلوب، مما اضطر ه الى اجراء العملية مرة أخرى، وكان أن هجاها بقصيدة مريرة.
وبعد، فهل جاء زمانٌ يتعلم فيه طلابنا قصائد الدسوقي. أم عاد زمانٌ كنا فيه تحت رحمة من ينبطحون تحت الجذر التكعيبي للجهل كما قال أبو عدي؟!
أم كما قال نزار قباني:
أبحث عن رجال أخر الزمان ..
فلا أرى فى الليل الا قططا مذعورة … ً
تخشى على أرواحها …
من سلطة الفئران..!!
استاذي الفاضل احييك على عطائك المتواصل..اتمنى لك دوام الصحة والعافية والعطاء
الكريم..لك مني جزيل الشكر والثناء والتقدير..
مقالتك ..المنامة الثالثة.. كلمات جوهرية بحق شاعر كبير ابن الطيبة المحترم..
السيد محمود الدسوقي شاعر وطني قدير سجل سطور من الذهب العتيق بتاريخ
الادب العربي ..تكريمه واجب ..له جزيل الشكر على عطائه الكريم…
استاذي الكريم..اسلوبك بالكتابة شيق وجذاب..يمتع القاريء ويشده الى مطالعة
المقالة حتى النهاية..
تحيه لك اخ سامي على كتابتك القيمه وتحيه لابوا عدي شاعر الماضي والحاضر واتمنى له دوام الصحه والعافيه والايام التي التقيته كانت ايام جميله لا تنسى
لقد استمتعت بها كثيرا يا دكتورنا الغالي والتتمة في الرسالة الألكترونية التي بعثتها لحضرتكم , بوركت ودمت ودام قلمك .
من متعة ابداعك اكرر القراءه عدة مرات لكنني دائما انسى ان اعقب على طهر واناقة هذه الكلمات الرائعه فلك احترامي الدائم الذي لا يعادله احترام وانزل القبعة من على راسي احتراما
لك استاذي الغالي
د. سسامي دمت في صحه وعافيه
أشكركم جميعاً،والى اللقاء في المنامة الرابعة
[…] الثالثة: باب في صُحبةِ الدسوقي المنامة الرابعة: وعلّمني رسمَ المَفازات […]
[…] الثالثة: باب في صُحبةِ الدسوقي المنامة الرابعة: وعلّمني رسمَ المَفازات المنامة […]