ظل….
تاريخ النشر: 10/07/14 | 0:29عادَ بلا حقيبةٍ، بإحساسٍ جارفٍ بأنهُ عائدٌ للعيشِ على سطحِ ورَقةٍ محروقةٍ.
وها هو مصابٌ بخليطٍ من المشاعرِ ذات المذاقات؛ من الحامِضِ إلى المُرِّ إلى المالحِِ إلى الحِرِّيف. حتى مذاقا السمكِ النيئِ والبصلِ المهروسِ لم يقفزا عنه. ولم يبقَ من الحُلوِ سوى ما التصقَ بجدرانِ الذاكرةِ المقبلةِ على خريفٍ.
فهو غاضبٌ مثلُ قفيرٍ من دبابير تعرضَت لنكْشَةٍ في بابِ قلعتِها. إنهُ يذكرُ غضبَ الدبابير جيّداً، من فترةِ الصِّبا والشيطنات. ما يزالُ يشعرُ بالوخزِ في قفاهُ وأمِّ رأسِهِ.
وهو متبرِّمٌ كسِنجابٍ جائعٍ تحتَ سقفٍ من تحليقاتِ العقبان والصقور.
وقد باتَ في الأيامِ الأخيرةِ سريعَ الانفجارِ كحبّةٍِ ذُرَةٍ مُقلّاةٍ على سطحٍ ساخنٍ. لكنّهُ، إذا لم يكنْ هذا الخليطُ كافياً، يشعرُ بنوعٍ من الأسى على ما آلَ إليه وعلى انجرافِه في هذا التيّار.
والأنكى أنه لا يعرفُ بالضبط ما الذي اختلطَ بِمَ وما الذي أدى إلامَ. لقد فقَدَ قدرتَهُ على التمييزِ، في حينِ كان قادراً فيما مضى على إخراجِ الإبرةِ من تلَّةِ القشّ.
عادَ عصراً من جهةِ الشرقِ إلى بيتِه الحجريِّ العتيق. في البدايةِ اختارَ الصمتَ والتحَفَ بحالةٍ من الشرودِ والوُجوم. لكنَّهُ فتحَ صدرَهُ وأطلقَ لسانَهُ، رويداً رويداً، إلى أن جاهرَ بأن المخابراتِ تُلاحِقُه. المخابرت! ليس أقلّ من ذلك. تحدثَ بغضبِ منْ يَعُدُّ عليه الآخرونَ انفاسَهُ. كلُّ ما يريدُ هو أن يتركوه وشأنَه.
قيلَ له: ربّما هي أشباحٌ، فالتجأَ إلى حُجّةِ العلومِ الحديثةِ وانقشاعِ الضبابِ عن زمنِ الضباب. لم يجرؤ أحدٌ على الردِّ عليه بأن الضبابَ ما زالَ يلفُّنا.
وقيلَ له: يجوزُ أنها هلوسةٌ ووهمٌ . ردَّ بسخريةٍ قاتلةٍ مصحوبةٍ بالتواءِ الشفتين إلى اليسارِ واليمين وبحركاتٍ حادةٍ، وضعتْ حداً نهائياً أوشبهَ نهائيٍّ للجَدَل.
ما يزالُ محتفظَاً بشخصيتِه الفولاذيّةِ رغمَ كلِّ شيء. في طريقِ العودةِ اكتشفَ مُجدَّداً التلالَ المحيطةَ، التي تُطلُّ من الجهةِ الشرقيةِ على صحراءَ آخذةٍ في الاتساع. لم تتغيّر التلالُ كثيراً، فيما اتسعتْ شجرةُ الخرُّوب التي يشربُ العطشى من ظلِّها وهوائها. لم يخرجْ لزيارةِ أحدٍ منذُ عودتِهِ ولم يلتفتْ إلى التحوّلات الحاصلةِ في الجوارِ القريب. فهي تحوّلاتُ تافهةٌ، لا تتعدَّى تكاثرَ السياراتِ وتراكمَ الأبنيةِ وسوءَ توزيعٍ في قماشِ الفساتين.
إنهم وكلاءُ المخابرات! لا مجالَ للنقاش.
وهو يراهم بأمِّ عينِهِ، يمشون خلفَهُ ويقتفونَ أثرَهُ، بلا صوتٍ ولا نأمٍَة، حتى حينَما يسيرون في الممرِّ الضيقِ المرصوفِ بالحصى البازلتيِّ والنوايا الحسنة، بين بيتِهِ الأرضيِّ وبقايا الكوخ الخشبيِّ في الحاكورة المهجورة. حتى النملُ يُصدرُ أصواتاً حين يدبُّ على هذا الحصى. أما هم، لعنةُ الله عليهم، فينسلّونَ مثلَ انسلالِ الروح من الجسد.
ظلَّ بيتُهُ كما كانَ منذ أن وُلِدَ فيه، باستثناءِ ألوانهِ التي بهتتْ واكتستْ بالهدوءْ. يُعجبُهُ هدوءُ الألوان وانطفاؤها. وعلى عكسِ الفكرةِ السائدة، بأن البيتَ يموتُ حين يهجرُهُ أهلُهُ، فإنَّ بيتَهُ لم يمُتْ حين تعرضَ للهجران. لكنَّهُ تغيّرَ. تغيّرَ تغيُّراً طفيفاً لا يراهُ الآخرون. صار للجدرانِ ذاكرةٌ عتيقةٌ، مغطاةٌ بطبقاتٍ من الحكايا المُعشِّشة ورذاذِ الأفراح وشظايا الأحزان ومسحاتٍ تميلُ إلى الخُضرةِ الطُّحلبيّة.
بالنسبةِ إليه، وبما قلَّ ودلَّ وشلَّ من الكلام، رُفعت الجلسة وحُسِمَ الأمر. هي المخابرات.
غيرَ أنَّ جارَهُ واصلَ محاولاتٍ ملتويةً ومُوارِبةً، لتخليصِهِ من هذا الهوَس، فيما انفضَّ عنه الآخرون. الناسُ لا يحبّون المجانين الجدّيين. وهو مجنونٌ جدّيٌّ وأصليٌّ ورصينٌ وعنيدٌ، ويتمسكُ بهذه الحالة بسطوةٍ تُهدِّدُ المالوفَ وسواءَ سبيلِ الآخرين.
لم يتبدَّلِ الجارُ كثيراً، ما عدا شكلَهُ الخارجيَّ، وليونةً أسقطتْ عنهُ صفاتِ الديكِ المشاكس. في القديمِ تعلَّمَ أن القنَّ يتسعُ إلى ما تشاءُ من الدجاجاتِ ولكنَّهُ لا يتسعُ إلّا لديكٍ واحدٍ ليس إلّا. الديوكُ لا تتفقُ على الشراكة. أن تكون وحدَك أو لا تكون، تلك هي المسألة.* تساقطَ شَعرُ الجارِ وشابَ ما تبقى منه في شكلِ حلقةٍ حولَ الأذنين، فيما غارتْ وجنتاه وبرز َعظمُ الصدغيْن وترهّلَ جلدُ العنقِ، والأهمُّ أنّهُ صارَ أكثرَ وداعةً.
بعد استنفادِ كلِّ الكلام، استدرجَهُ الجارُ يوماً للوقوفِ في حديقةٍ تربطُ أو تفصلُ بينَ بيتيْهِما. فالحدودُ بين الأعداء فاصلٌ والحدودُ بين الأصدقاء رابطٌ. كانت الحديقةُ مهملةً إلى حدٍّ بعيدٍ، كأنها أرضٌ حرامٌ، ولم يبقَ فيها غيرُ تينةٍ تدلّت أوراقُها حتى الأرضِ كراقصةٍ خليجيّة، وانتشرتْ عليها حبّاتٌ ناضجةٌ فوقَ اللزوم حتى يكادُ يفرُّ منها الحليبُ المُحلّى، فيما تكدّست كومةٌ من العشبِ اليابس فوق ترابٍ محلوقٍ. وعلى طرفِ الحديقةِ تناثرَ رفٌّ قصيرٌ من الصّبارِ المسلّحِ بالشوكِ والمحصَّنِ بحكاياتٍ عن الأفاعي ذاتِ القرون.
كان ذلك بعدَ ظهرِ نهارٍ عاديّ، وصَلتْ فيه الشمسُ بمفردِها، وكعادتِها، عاريةً وفي الموعدِ المحدَّد، على بعدِ إصبعينِْ أو ثلاثةِ أصابعَ إلى الغربِ من مركز السماء. وقف جارُهُ، ابنُ جيلِه وصديقُهُ في زمانٍ سحيٍق وخصمُه في عهودٍ لاحقة، وراحَ يحدّثُهُ عن أمورٍ غيرِ ذاتِ شأن، وغيرِ ذاتِ علاقة. الفراقُ الطويلُ قرّبَ بينهما، بعد أن فرّقَتهما العِشرةُ الطويلة. ويبدو أيضاً أن الحراشفَ الصلبةَ تتساقطُ مع الوقتِ عن الروح مثلما تتساقطُ عن الجسد، وأنَّ ماءَ الحياةِ يتناوبُ على صخورِ القلوب المُدبّبةِ فيجعلَها ملساء.
أدارَ ظهرَه للشمسِ.
السكونُ يكتسحُ الحيَّ بأكملِه، كأنَّ رفاً من الطيور حطَّ على رؤوسِ الناسِ جميعاً أو كأنَّ الألسنةََ تتعطَّلُ في الدرجاتِ العليا. لكن، حتى في هذه الأوقاتِ التي تشبهُ الفحمَ، لا يعرفُ أحدٌ من يُطلُّ من الشبابيكِ ومن خلفِ الستائرِ. والإشاعاتُ كثيرةٌ هذه الأيام. لذلك، قد يُكتبُ أو يُقالُ، مثلاً، في مستقبلٍ تضيعُ فيه أدلّةُ الماضي، إنه سيكتبُ أو سيقولُ، إذا امتدَّ به العمرُ وتوفَّرتْ كلُّ الظروف الملائمة:
“من يُدِرْ ظهرَهُ للظلّ يرَ نوراً، ومن يُدرْ ظهرَهُ للنورِ، يحصدْ ظلاً”.
لكن في الواقعِ، قد يَكتبُ أو يقولُ غيرَ ذلك أو العكسَ تماماً. ذلك أن الثنائياتِ المعهودةَ قابلةٌ للانقلابِ. أما الآن فإنَّ الظلَّ هو السلعةُ المرغوبةُ.
كانا حاسريّ الرأسيْن. وكانت الشمسُ تصبُّ ما لديْها من لهبٍ في ظهرِه. تذكرَ زوجتَهُ. ذهبَ الذين نُحبُّهم وما تركوا غيرَ عينيْن واسعتيْنِ وغمازتيْنِ وصدى صوْتٍ رخيمٍ وبسمةً زيتيةً لا تمّحي ورائحةً تملأُ الخزانةَ والزوايا.
سقطَ ظلُّهُ أمامَه.
انحنى لالتقاطِ الظلِّ.
تكوّرَ الظلُّ،
وانتفشَ مثلَ قنفُذٍ هاربٍ للتوِّ من سياجِ الشوك.
عاد وانتصبَ.
تثاءبَ الظلُّ وامتدَّ مثلَ أفعى.
صارَ اليومَ وحيداً كأنَّهُ فهدٌ كهْلٌ تقاعدَ عن حلباتِ الحُبِّ والقِتالِ، أو كأنّهُ فرعٌ مقطوعٌٍ من شجرةٍ في حُرشٍ بعيدٍ وصعبِ المِِراس. أما هو فيشعرُ كأنَّهُ رغيفُ فقيرٍ يابس.
شعرَ بعدوانيّةٍ تجاهَ الظلِّ.
تقدّمَ للدوسِ على المخابراتِ، فانزلقَ الظلُّ بعيداً.
انتظرَ طويلاً، شارِدَ الذهن، فيما كان يقصُّ جارُهُ قصَّةً عن عشقٍ ممنوعٍ.
طالَ الظلُّ واستدقَّ.
مدَّ يديهِ أفُقياً في الاتجاهيْن، في حركةِ “لاحولَ ولا قوّةَ”، فأخذَ الظلُّ شكلَ بروميثيوس** مصلوباً على حسدِ الآلهة واحتكارِهم للنارِ والأقدار.
أنزلَ يداً حتى صارَ مثلَ فزاعةٍ شوّهتْها الرياحُ على أطرافِ الكرومِ، فاستحالَ الظلُّ شرطيَّ مرورٍ بصفّارةٍ لا ريحَ فيها.
سمعَ جارَهُ يقولُ كلاماً ما عن لقاءِ قمةٍ ما، كان سمعَ عنه في تقريرٍ مُتَلفَزٍ ما على محطّةٍ ما.
ضحِكَ.
لم يضحكِ الظلُّ.
قالَ جارُهُ إن عملياتِ القصفِ العنيفِ تسبقُ اتفاقيةً لسلامٍ أبديٍّ، أو ربما قال إن اتفاقياتِ السلامِ العنيفة تسبقُ القصفَ الأبديَّ.
قهقهَ.
عبسَ الظلُّ واهتزَّ في صمتٍ.
قطَّبَ حاجبيْهِ وزمَّ شفتيْهِ.
لم يتخلَّ الظلُّ عن حيادِه المزعوم.
تصبّبَ ماءً مالِحاً، فتمسّكَ الظلُّ بنزعةِ القططِ إلى الحفاظِ على جفافِ وَبْرِها وأقدامِها.
غمرتْهُ تحتَ الإبطيْن رائحةٌ داكنةٌ.
لم يتنازلِ الظلُّ عن رائحةِ الترابِ المُتبَّلِ بأمونيا الحيواناتِ الأليفة.
شتمَ الظلَّ بألفاظٍ نابيةٍ.
تظاهرَ الظلُّ بالصّمَمِ.
قالَ للظلِّ: هيّا نتسابق.
تظاهرَ الظلُّ بالبَكَمِ.
تذكّرَ حكمةً تقولُ إن الغزالَ يسبقُ الكلبَ، لأنَّ الأولَ يركضُ من أجلِ نفسِهِ والثاني يركضُ من أجلِ سيِّدِه. لكن سرعانَ ما تراءت لهُ سلحفاةٌ، في ما يشبهُ أحلامَ اليقظة، فلم يعُدْ متأكداً من صحةِ الحِكمة.
سكتَ تماماً.
ظلّ الظلُّ ساكتاً.
قمْ. تحرَّكْ. قلْ شيئاً أيها الجبان!!
لم يتحرك الظلُّ إلا بقدرِ ما أتاحتْ لهُ تحرّكاتُ زاويةِ الضوء.
فكّرَ عميقاً، فنامَ الظلُّ نوماً خفيفاً يشبهُ نومَ الفريسة.
وكانَ سمعَ، في وقتٍ لا يستطيعُ تحديدَهُ، أن الأرانبَ تغفو بعينيْن مفتوحتيْن كالرادار، وأن الأسماكَ اقتلعتْ جفونَها وتنازلتْ عن أحلامِها، كي لا تفيقَ في بطنِ مُفترِسٍ.
حمدَ الله على أنه ما زالَ قادراً على بعضِ النوم وممارسةِ لُعبةِ الإغفاء.
تذكّرَ نُتفاً من الجفاءِ والشقاء اللذين مرَّ بهما ومرّرا حياتَه. ذهبَ الذين نحبُّهم، ولم يُبقوا سوى صورٍ على حائطٍ ورائحةٍ على رداءٍ وبقايا مناجاةٍ على أطرافِ جدائلِ الليل.
أشعلَ سيجارةً،
فنفثَ الظلُّ سحابةً رماديةً منزوعةَ النيكوتين والقَطران.
تشوشتْ أفكارُهُ وشعرَ بدماغِهِ مطبوخاً.
لم يُبالِ الظلُّ واحتفظَ ببرودِه.
كان جارُهُ يُثني على الطريقةِ القديمةِ في فصلِ المرحاضِ عن البيت ويتحدثُ عن قُبحِ عُلبِ الإسمنت التي اجتثت الطرازَ القديم. وقالَ الكثيرَ في مديحِ الظلالِ والديكورات ِالشرقية البائدة، باعتبارِها تضفي الخفيّ المقدّسَ على الظاهرِ المألوفِ، ولا تكلفُ شيئاً سوى سقوطِ الضوءِ المجانيِّ على العاديِّ.***
إذن، هي الظلالُ، ليس غيرُها.
تنهّدَ هو ملءَ رئتيهِ، فانتفخَ صدرُ الظلِّ ثمّ انكمشَ.
حملقَ في الظلِّ، فمرَّ ظلُّ عصفورٍ وتقاطعَ مع ظلِّه ثم انطلقَ بعيداً كرصاصةٍ رماديّةٍ مُطفأةٍ.
نظرَ إلى جارِهِ، محاولاً التقاطَ ما فاتَهُ من حديثٍ، وفكّرَ في الدورانِ إلى الاتجاهِ المعاكس.
تحفزَ الظلُّ وهدّدَهُ بالملاحقةِ، فوقفَ في مكانِه.
تمنّى لو يستطيعُ الاستظلالَ بظلِّه.
فطنَ أنه لا يقدرُ أن يكونَ السببَ والنتيجةَ. كادَ أن يقولَ: لن يستطيعَ أحدٌ أن يحملَ نفسَه بين ذراعيْه.
لكنّهُ قررَ أن يحاولَ في يومٍ سيأتي.
بصقَ على ظلِّه،
فاحتملَ الظلُّ الإهانةَ بكثيرٍ من الخُبث.
أرادَ الجارُ أن يعلنَ انتصارَه بالقول، مثلاً: “أترى؟! هو ظلُك أنت. فلا مخابراتٌ ولا يحزنون”.
رأى شفتيّ الجارِ تتحركان. لم يسمعْهُ.
لفّهُ الصمتُ وارتسمتْ على وجهِهِ توزيعةٌ جديدةٌ من الخطوطِ المتعرِّجة.
ظلَّ الظلُّ منبسطاً ومنفرجَ الأسارير.
تخيّلَ أنّه يحفرُ حفرةً عميقةً يلقي الظلَّ فيها، جثةً هامدةً.
راحَ الظلُّ ينمو وتسلّقَ على الجدران بسرعةِ الرجلِ الجندب.
ردمَ الحفرةَ بالتراب.
قام الظلُّ واستلقى على سقفِها باسترخاء، وراحَ يمضغُ عِلكةً ويحفرُ في مِنخرَيْه.
كادَ ينفجرُ غيظاً.
ضربَ الظلَّ بعكازِه،
فانطلقَ عواءُ جروٍ في الجِوار.
كانت الدنيا، في هذه الساعةِ، قيظاً لاهباً كأنها الدّركُ العلويُّ غيرُ المسقوفِ من أدراكِ جهنم، أو كأنها عذابُ يومِ الظُّلَّة.****
التفت الجارُ إلى الوراء. فلمحَ ظلَّهُ يلاحِقُه.
تسمّرَ في مكانِه، يغمرُهُ رُعبٌ مَطلِيُّ بالعرَقِ الباردِ.
سوفَ يقالُ، في يومٍ ما وفي مكانٍ ما، إنه صارَ عليهما أن يتبادَلا الأدوارَ.
وقد يُقالُ إنهما سيتنافسانِ على الدوْرِ نفسِه.
وقد يقالُ، في وقتٍ آخر وموقعٍ آخر، إنهما سيخرُجان عن النصِّ الجاهز وسيكسِران المنصّة.
وقد يقالُ، في زمَان رابعٍ ومكانٍ رابعٍ، إن واحداً منهما سيصيرُ ظلّاً لجارِه.
على مقربةٍ من المكانِ والزمانِ وتداخُلِهما، وقفَ أحدُهم في غرفةٍ نصفِ مُعتِمةٍ. وضعَ نظارةً سوداءَ، بحُكمِ المألوفِ أو ربّما لإخفاءِ أفكارِه والتخلُّصِ من فِعْلِ المرايا. فالعيونُ مرآةُ القلوب.
ألقى نظرةً على الجاريْن فرأى واحداً يجرُّ ظلَّهُ وآخرَ يجرّهُ ظلُّه.
جارٌ مشروطٌ بجارٍ.
جارٌّ ومجرورٌ.
هي الحياةُ.
ثمَّ رآهُما يختفيانِ وراءَ بابٍ، فيما استرخى ظلّاهُما على العتبةِ في حالةٍ من التوثُّب والترقبِ والانتظار. ها هي استراحةُ الظلِّ. ابتسمَ من وراء صفّين من الأسنان المُعرَّضةِ للتسوُّسِ، كسائرِ الأسنان، ثمَّ خرَجَ ومشى تحتَ الشمسِ نفسِها، التي لا تُميِّزُ بين ذئبٍ وحمَلٍ.
هنا أيضاً لا يعرفُ أحدٌ من يسترقُ النظرَ من خلفِ الشبابيك ومن ثقوبِ الأبوابِ وقماشِ الستائر، ومن يسترقُ السَّمْعَ من مساماتِ الحيطانِ الهشّةِ، ولا في أيِّ وقتٍ. الشائعاتُ كثيرةٌ في هٰذه الأيام، كما في سالفِ الأيامِ وقادمِها.
قال مجهولونَ إنه كان يمشي بلا ظلٍّ، بذريعةٍ مشكوكٍ في صحَّتِها، أنه لا ظلَّ للظلِّ.
وقالَ مجهولونَ آخرون إن الظلَّ ظهرَ في البدايةِ، وحين مشى صاحبُ النظارةِ السوداء، بقيَ ظلُّهُ واقفاً في مكانِه، مثلَ كلبٍ مأمورٍ ومدرَّبٍ للحراسة.
وقالَ فريقٌ ثالثٌ من المجهولين إنهم رأوْا ظلاً سائراً وحيداً، بدون جسدٍ.
غيرَ أن شهودَ العيان قالوا إنه، حين مشى، كان ظلٌّ يلاحقُه بدون أن ينتبهَ، وأنَّ ظلاً كان يلاحقُ الظلَّ.
كان من المتوقعِ والمفترضِ أن تنتهيَ الحكايةُ ها هنا.
غيرَ أنَّ الجاريْن اتفقا على المضيِّ إلى ما بعدَ النهايةِ الشائقة والشيّقة. فالكافرُ يسجدُ لغير الله وظلُّه يسجدُ لله.*****وعلى القياس نفسِه، قالَ، فإن المؤمنَ يسجدُ لله وظلُّه يسجدُ لغيرِ الله.
وعلى أيةِ حال، في يومٍ عاديٍّ آخر، في صيفٍ سيأتي أو في شتاءٍ ستتخلفُ عنه الغيومُ، ستخرجُ الشمسُ التي لا نعرفُ غيرَها حتى الآن على الأقل. وسوف تقفُ وحيدَةً وعاريةً تماماً في مركزِ السماء.
سيقفان في الحديقةِ نفسِها، على مقربةٍ من إغواءات التينة المحتقنةِ بالشهواتِ والأفاعي ذاتِ القرون.
حينئذٍ، سوف يختبئُ الظلُّ تحتَ نِعالِهما. وقد يدوسانِ عليه في رقصةٍ هنديةٍ حمراء.
وحينئذٍ، على امتدادِ الوقتِ الذي يستغرقُ مرورَ الشمسِ الوهميِّ في تلك النقطة الوهميّة، أو ما بعدَ ذلك، سوفَ يغمرُهما عرَقٌ دافئٌ.
أما في الليل، فسوفَ تواصلُ الشمسُ الوقوفَ، كعادتِها منذُ كانت، وبدونُ تدخُّلٍ من إلٰهِ يهوشع،******فيما ستدورُ الكرةُ الأرضيةُ نصفَ دورةٍ لتلقيَ ظلّها الكاملَ على نصفِ أبنائها وبناتِها.
وسوفَ يخرجُ الجاران إلى الحديقةِ.
سيخلعان ظلَّيهما عند العتبةِ، وسيحملانِ إبريقاً من الشاي المعطّرِ بالنعناع وكؤوساً تكفي لعابري السبيل.
وسيسهران مع الأضواءِ المائية، فيما ستنطلقُ في البعيد جوقةٌ من النُّباح.
فريد غانم