المنامة الرابعة: وعلّمني رسمَ المَفازات
تاريخ النشر: 05/03/12 | 6:02يُطلقُ العربُ على الصحراء المهلكة اسم المَفازة على جهة التفاؤل، كما يُسمّى العطشانُ ريّاناً ، والأعمى بصيراً، أي سميت تفاؤلاً من الفَوْزِ بالنَّجاة من الهلاك، فهي اسم مكان : أي مكان فوز ونجاة {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} . وجمعها مفاوز أو مفازات. فإذا أهلكت سالكيها سمّيت بيداء أي مهلكة .
وقصة هذه المنامة وقعت على الطبيعة وفي الواقع في احدى المدارس في سنوات الخمسينات، حيث درج مديرو المدارس على اناطة تعليم الرسم بالمعلم الفاشل أي الذي لا يفلح في تعليم موضوع جدي كالرياضيات أو اللغة العربية، آملين أن يكون الضرر الذي يتسبب به هذا الاستاذ هو أقل ما يمكن في سبيل مصلحة الطالب، وقد كانوا يعلموننا أن الطالب هو مركز العملية التعليمية ، ولم يعلموا أن الرسم ملكة يمكن اكتسابها ونعمة وهبها الله لأصحاب الخيال الواسع وحرمها لكثيرين منا الذين لا يكادون يستطيعون رسم شجرة أو طاولة أو عصفور صغيرً، وقد يستطيعون رسم وجه انسان بشكل ما ، أما أن يجعلوا هذا الإنسان ينظر الى السماء أو إلى أي جهة أخرى فيضحكون من عجزهم وجهلهم، كذلك كان موضوع النشيد المدرسي الذي أصبح اليوم الموسيقى.
تعليم الرسم في الماضي
ولماذا كل هذا التقديم الوثير . فقد اوكل تعليم الرسم في (مدرسة صدقي) الى المعلم ابو العون في الخمسين من عمره، وقد بدت عليه منذ سنوات آثار التآكل والانحدار السحيق في العطاء، كان يكتب في يوميات الصف المادة المتعلمة هي رسم حر، أو رسم خيارة، أو كوساية، أو باذنجانة، أو تفاحة.
ولكن أبا العون كان يشترط على الطلاب إحضار خيارة أو كوساية ليضعها الطالب أمامه فيرسمها، ثم يجمع في نهاية الدرس الخيارات والكوسيات ويصادرها.
وكان أبو عصام معلم اللغة العربية الجاد جار ابي العون في غرفة صفه، فقد كان الباب على الباب كما يقولون، بحيث إذا أطل الواحد منهما من بابه يرى ما كتب على لوح الآخر، بل كانا يسمعان ما يشرح أحدهما للطلاب البريئين.
ويوماً ما عندما اقترب عيد الأضحى نظر ابو عصام فإذا حيوان يشبه الفيل مرسوم من أول اللوح الى آخره وقد كتب فوقه بالخط العريض ” خروف العيد” . والحق أن رسومات بعض الطلاب الموهوبين بالسليقة كانت تاتي أفضل من (فيل العيد ) المرسوم كنموذج يُقتدى به. لكن ليس هنا مربط الفرس، ولا هنا رفع الكلب رجله وبال على مزرعة المدرسة وعلى المدرسة كلها. فقد حدث يوما ما أن أراد أبو عصام أن يتندر مع أبي العون ، إذ لم يستطع السكوت وكبت ما لديه من مشاعر لا بد أن يقولها لأحد ما، وكان أبو العون رغم تفاهته وضحالته في التعليم من أساطين النفاق ومسح الجوخ ، ونقل الحديث، فكان مقرباً من صحن الإدارة، بل من صحن السلطان ، بل إن المدير كان يرهب جانبه، فكان يظن به الظنونً. أراد أبوعصام أن يسمع رأي أبي العون فيما قاله المدير مفتتحاً جلسة الهيئة التدريسية بعد وصول منشور هام يقيد عمل وحرية المعلم في مواقف معينة ، إذْ قال ذلك المديروهو يمسك المنشور بيديه كالقابض على الجمر: “ يا إخوان كان المعلم إشريطة والآن سيصبح ممسحة“. ولم يكتم أبو عصام ولا أبو العون ضحكاتهما من هذا الكلام المعبر المختصر والصريح. حقاً إنه لمدير جرئ يُشهدُ له قالها أبو عصام بكل حزم، وما لبث أبو العون أن انتبه الى خطورة الحديث وأخذ يسجل في رأسه انطباعات زميله لينقلها مملحةً بحذافيرها الى المدير والى أصحاب الشأن والسلطان.
رسم التفاحة
وسرعان ما انتبه ابو عصام الى الطلاب فرآهم يرسمون الكوسا، ثم قام الاستاذ بجمعها ووضعها جانباً، ثم توجه الى الطلاب قائلاً: ” يا شاطرين في الدرس القادم سوف نرسم التفاحة، وعلى كل واحد منكم إحضار تفاحة حمراء أو صفراء أو خضراء حتى يتمكن من معاينتها ورسمها . وهنا ثارت ثائرة ابو عصام فمن أين يحضر الطلاب تفاحاً وهم لا يكادون يشاهدونه في تلك الايام العصيبة. وهنا كان لا بد من التدخل الحاسم فقال لأبي العون بحدة: ” يا أستاذ لقد وصلنا الى التفاح، فمن يأكل التفاح أصلاً هذه الأيام؟ ثم ألا يمكنهم اعمال خيالهم ورسم التفاحة أو أي شيء آخر دون أن يكون أمامهم. وهنا ثارت ثائرة أبي العون فقال له: لا تخترع لي نظريات جديدة في الرسم، وإذا سمحت لا تتدخل في طريقتي التعليمية، وخلِ هذه التعقيدات لدروسك في اللغة العربية. ثم إنني أريدك أيها الفصيح النبيه بيكاسو زمانك أن ترسم لنا شيئاً من خيالك على اللوح. هيّا نراك كيف ترسم شيئاً من خيالك دون أن تراه!!
فما كان من أبي عصام إلاّ أن رسم شجرة جميلة على اللوح، فقال أبو العون وهذه الشجرة في أي مكان موجودة هل هي تعيش وحدها أم في خيالك، ومن أين لهؤلاء الصغار خيال خصيب في مثل خيالك. فكتب أبو عصام تحتها بخط عريض هذه شجرةٌ في مَفازةٍ، فهب به أبو العون وما هي المفازة، فقال له إذهب وابحث عنها في القاموس، فقال له: فقل الجواب فأنت مثل القاموس والناموس ، ولكنه رفض اشفاء غليله. وكان بإمكان أبي عصام كتابة شجرة في صحراء، ولكنه يحب الفخامة والجزالة اللغوية . واعادها عليه عدة مرات: نعم في مَفازة ، في مفازة مترنماً بها أي ترنيم . وظلّ أبو العون لا يعرف معنى المفازة، وانتقل أبو عصام الى جوار ربه، فقام أبو العون عريفاً لحفل تأبين زميله، فأخذ يعدد مناقب المرحوم قائلاً : ومن أقواله بيتٌ مكسرٌ للمتنبي، كذلك من أقواله حديثٌ للرسول(ص).كل هذه كما فهمها ابوالعون من أقواله، أي أقوال أبي عصام. ثم قال الطامة الكبرى والبلاغة العظمى : وعلّمني رسمَ المفازات!!! أي أن أبا عصام علّمه رسم المفازات، لقد مضى الى جوار ربه وهو لا يعرف لها معنى.
ولكن، لقد أصبحا في ذمة الله، ولا تجوز على الميت إلا الرحمة!!!
اقرأ المزيد للدكتور سامي ادريس
المنامة الاولى: منامة: وقع العشاءُ بنا على سِرحان
المنامة الثانية:يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة!
المنامة الثالثة: باب في صُحبةِ الدسوقي
احييك استاذي الفاضل على عطائك المتواصل ..بوركت وقدما الى الامام..
الحياة شعلة خير سلمت لنا..علينا ان نسلمها شعلة خيرات الى الاجيال القادمة..
جدير بنا ان نتالق باداء ادوارنا بمسرح الحياة لنخلق حياة فاضلة لنا
وللاجيال القادمة..
مجتمعنا يرقى الى الامام نحو التطور والازدهار مع الثقافة والمعرفة..
وجدير بنا ان نتالق بالمعرفة والثقافة وادراك الدروب الثقافية لنضع مجتمعنا
بطريق الخير والنور..
د. سامي إدريس!
بالإضافة إلى وشاحِ الجمال الذي تلفّ أعمالك به، وبالإضافة إلى الديباجة الأدبية التي تتحفنا بها كل مرّة، فإنّني ألاحظ عندك ميزة جميلة. وهي أنك -رغم استلالك قصصك من واقع معاش- إلا أنّ حبكة مناماتك التي تحملنا على إعادة القراءة، تضاهي كل حبكة قصصية إبداعية وُلدت في عصرنا الحديث . . فكم جميل صحو مناماتك .. بوركت
سلمت أناملك د. سامي إدريس لرسم المنامة الرابعة الرائعة رسما تصويريا بكل براعة , وهل هناك رسام أدبي مبدع مثلك , بصراحة لا يوجد وليس من يملك ريشة كريشتك .
وهل لديك أخي الغالي أدنى شك بأن أمثال أبي العون هم كثر في هذه الأيام , وهل لديك شك آخر بأن أمثال أبي عصام هم عصابة قلة قليلة ؟!
أما أنا فليس لدي أدنى شك بأن أية مفازة تطأها قدماك تصبح على التّوّ خضراء ولو كانت بيداء قفراء منذ خلق السماء .
كيف أحييك على إنجازك الذي يأكل من ثمره القاصي والدان , أطال الله بقاءك نبراسا للعلم والأدب .
أشكركم جميعاً، أنتم أيضاً مبدعون ومخلصون في كتابتكم. أبحث الآن في جوانب ذكرياتي وحياتي عن قصصص تكون مادة لمنامات جديدة،وأنا أحاول عدم مس أحد لأن القصص واقعية بحتة وقعت بالفعل… الى اللقاء في المنامة الخامسة
اجل ايها الكاتب كلامك يذكرني بالمعلم الذي شاهد قطعة الحلاوه مع الطالب ومن شغفه قال للطالب هات قطعه منها لانه لا يملك ثمن قطعة الحلاوه فظروف المعلم في الماضي كانت اسوئ من ظروف الاهالي وكان مسكين محروما من كثير من الاشياء فمنهم من كان يدرس مقابل البيض ومنهم مقابل الخبز .
[…] الثالثة: باب في صُحبةِ الدسوقي المنامة الرابعة: وعلّمني رسمَ المَفازات المنامة الخامسة: من يافا تبدأ الرحلة يا “نائم” المدير […]