يوميات معلم أعزب

تاريخ النشر: 08/03/12 | 3:54

في وقت كان فيه مهر العروس يعادل أربعين راتبا شهريا لمدرس جديد!!

في القرن الماضي وفي منتصفه بالذات عانى مجتمعنا المحلي ومعه مجتمعات محلية أخرى كثيرة من ظاهرة قضت مضاجعه وأقلقته بل وأدمته في ظل أوضاع اقتصادية متردية وأحكام عسكرية جائرة ألا وهي ظاهرة غلاء المهور سيئة الصيت، أي مهور العرائس التي وصل فيها المهر خمسة آلاف ليرة إسرائيلية في أقل الحالات ليصل في بعضها إلى عشرة آلاف ليرة إسرائيلية يدفعها العريس أو من ينوب عنه إلى والد العروس أو إلى ولي أمرها عدا ونقدا ، مضافا إلى ذلك تحمل العريس أعباء إنشاء وإقامة بيت الزوجية وما يترتب عليه من أثاث وأدوات منزلية وآلات كهربائية مختلفة أما الطامة الكبرى فهي ما يجب أن يقدمه لعروسه من مصاغ من الذهب والياقوت والفضة، أما الذهب فهو الصنف الغالب على الأكثر بمختلف أحجامه وأوزانه وأسمائه بدءا بالدبابات ومرورا بالحلق والأساور والدبابيس والحيايا (جمع حية) والخواتم والعقود ووصولا إلى السحبات والليرات الذهبية الانجليزية والعصملية لتصل قيمة هذه المجموعة الجديدة من أثاث ومصاغ إلى حوالي عشرة آلاف ليرة إسرائيلية تضاف إلى المهر… وإذا ما تخلينا أن راتب معلم مدرسة جديد يتراوح ما بين 250 – 300 ليرة فأن معنى هذا أن يدفع العريس عدا ونقدا ما يعادل 75 – 80 راتبا شهريا لمدرس جديد وترجمة ذلك إلى لغة اليوم فأن هذا يساوي 400 ألف شيقل جديد على أقل تقدير.

هذا الأمر حدا بالعديد من الشباب المقدمين على الزواج البحث عن شريكات الحياة خارج المنطقة الجغرافية وأحيانا خارج القومية والدين حيث المهور الأدنى والأقل تكلفة ، وكان أن ازدهرت عملية “سمسرة العرائس” وراجت رواجا لا بأس به واضطر الكثير من الشباب الارتباط بشريكات حياتهم من خارج منطقتنا الجغرافية وبواسطة وكلاء الزواج الجدد…..

أمام هذا الوضع المرهق والقاسي والذي أثار زوابع وعواصف من النقد والتقريع في الصحف ومن على منابر المساجد، أمام هذه الظاهرة دلوت أنا بدلوي فخط يراعي صورة قلمية لاذعة واقعية عندما كنت شابا في مقتبل عمري في 25 أيلول سنة 1962م واليكم ما كتبته:

كنت أجلس أصيل ذلك اليوم وثلاثة من زملائي في مقهى القرية ، وعلى الجانب الغربي من الشارع العام ، حينما مر من الشارع وبخطى وئيدة يحمل في يده الواحدة عصا من الخيزران (محجانة) وفي الأخرى مسبحة ربما كان يسبح الله على نعمه وربما كان يعد بحباتها زبائنه أو ضحاياه ، وما أن غاب عن أعيننا حتى قال زميلي أحمد:

“أصحيح أن أبا فلان ، وأشار بيده نحوه ، سمسار عرائس” ، ورغبت في مداعبته وأنا الذي طالما سمعت عنه وعن تجارته الناجحة فلحقت به وناديته باسمه فتوقف عن مشيته واستدار ليرى من المنادي ، وأسرعت الخطى نحوه مادا يدي لتحيته والسلام عليه…

وبدأت المجاملات التقليدية السؤال عن صحة الأولاد والعيال ، إلى ما هنالك ، ثم قلت له وأنا أتصنع الجد آخذا بيده ومنتحيا به زاوية الشارع:

“سمعت أنك كنت الواسطة في زواج عادل!؟ هل هذا صحيح!؟ وكيف تم ذلك!؟

وشعرت أنه يلطمني بكفه لطمة خفيفة مداعبا ، وابتسامة عريضة ترتسم على شفتيه وقال:

“وأنت كمان بدك ، أنا بقدر أجيبلك أحسن عروس من (…..) أرخص من هون ، شو بدك ، رخيصة وكويسة وبنت ناس ، متعلمة ، زيك زيها ، ست بيت معدلة ، ورأيته جادا فيما يقول… معنيا بمساعدتي ، فقلت مازحا:

“متى يكون السوق؟” ولم يفهم ما أعنيه ، فقال مستفسرا، “أي سوق؟”

قلت: “سوق البنات” …

“شو..هن بهايم..السوق للبهايم..والله برادة”….

ورأيت ملامح وجهه تتغير ، ولولا أن لي بعض الدالة عليه لتغير كل شيء ولحدث ما لا تحمد عقباه ، وأردت أن “أرقع” ما قلته ، فقلت مستعينا بأغلظ الإيمان “هذا مزاح” أنت عارف الوضع… وأنا بحاجة ماسة إليك ، وأنت أعرف الناس بالحالة عندنا ، المهر على الأقل خمسة آلاف ، قديش أعلى مهر من هلي خلصتهن؟

فقال وقد صفا جوه نوعا ما:

“إذا كنت جادا فسأفضي إليك أما إذا كنت مازحا فدعني وشأني وعندما أقتنع بجدية حديثي أجاب:

“من الألفين لحد الألفين وخمسمائة خالصة مخلصة مش مسؤول عن شيء” فابتسمت وقلت:

والله عال أ أحسن من هون ، في تحت ايدك وحدة ؟

“وحدات” أجاب ، وجذبني من كتفي وانتحينا زاوية في الساحة العامة بعيدين عن أعين الناس ، وأخرج من جيبه محفظة بالية ، أخرج منها دستة من الصور الفوتوغرافية ، متطلعا ذات اليمين وذات الشمال ، لئلا يرانا أحد وقال:

“شوف هذه من الحارة س” … وهذه من دار “ص” ، هذه من عائلة “ع” وهذه سمراء وهذه بيضاء ، وهذه متعلمة شعرها أشقر طويل متعلمة ثانوي…بتلبقلك” ، وتابع عرض الصور ، وأنا أتفرج على كل واحدة بتمعن ، وعندما انتهيت من التفرج على جميعها ، اخترت صورتين ، صورة الشقراء وأخرى “اخضرانية” على حد قوله ، وطلبت منه أن يبقيهما معي لأريهما للأهل والأصحاب ، ولكنه رفض قائلا: “تعال معي يوم الاثنين ، وأنا آخذك الى بيتيهما وستراهما”…

“ولماذا يوم الاثنين؟ ألا يمكن استبداله بيوم آخر” سألت:

“يوم الاثنين بدي آخذ معي أبو محمد جاركم من شان يبيع حصانه ، وهيك بنصيب عصفورين بحجر”

“طيب بيصير خير إنشاء الله” ومددت يدي لأودعه… وودعني قائلا:

“مبروك سلف يا أستاذ” ورجعت الى أصحابي وقلت لهم:

” اتفقنا على السفر لننقد من قريب”

وسأل أحدهم: “أي يوم؟”

“يوم الاثنين اللي جاي ان شاء الله”

ولكنه يوم مدرسي… عقّب أحدهم

وهل جننت حتى أسافر معه قلتها وأردفت قائلا: أمام هذا الوضع

أنا من دعاة: ” من طين بلادك حط عخدادك”!

أأدركتم معنى هذا المثل؟ الله كريم وبعباده رحيم…..

(باقة الغربية)

‫2 تعليقات

  1. كالعادة، الأستاذ حسني يُبحر في بحر الماضي البعيد/القريب ويستخرج
    منه درر الحكايات والقصص والأمثال، فتنتشي نفوسنا فنتساءل:
    ألا يزال أبو إياد، بعد مرور حوالي نصف قرن، يوافق على المثل:
    ” من طين بلادك حط عخدادك”!
    لك مودّتي الخالصة
    أبو سامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة