الطريق إلى باب الشام
تاريخ النشر: 18/03/12 | 11:24إن التميّز الحقيقي في المسرحية يكمن في أداء الممثليْن مكرم خوري وغسّان عبّاس. إن أداءهما سحر يصعب التخلص منه، وإن بحثنا عن السر وراء السحر نجده النضوج المسرحي بأبهى أشكاله.
“قمرٌ على باب الشام” مسرحيةٌ كاذبة في عنوانها، صادقةٌ فيما تعرض؛ فقمر الجولان، في الحقيقة، ليس إلا كشّافات أعدائنا الجنود الذين يحرسون حدودًا، أي ينفذون مهمّتهم بالاحتفاظ بالـ “هُنا”: يمارسون إبقاءهم على مساحة هزيمتنا- هزيمة يوسف (غسّان عبّاس) وإبراهيم (مكرم خوري)، وهما صديقان متصارعان يرسمان (معًا) الفرد الجولاني بتخبّطاته الخانقة.
تختبئ أحلام الصديقيْن عند التلة الأخرى- هناك… إنها التلة ذاتها التي يشير إليها الصديقان، لكن مفهومها يرتبط بطبيعة الطريق إليها، والطريق هي السؤال الذي ينجب الصراع بين يوسف وإبراهيم؛ هناك سؤال حول إمكانية فك الارتباط بين بلوغ الحلم والفعل السياسي المتمثل بقطع حقل الألغام، ما الطريق إذًا؟
إن سؤال الطريق الذي أُحسن تكريسه في تصميم الفضاء المسرحي أكثر حتى من تكريسه في النص، أساسيّ على الخشبة: رأيناه في الشاحنة المقلوبة المعطلة التي يحاول يوسف إصلاحها، والتي ترتبط بقصة الشاحنة التي سافرت بوالد يوسف وجدّه إلى الشام وانقلبت عندما غنّوا “يا شوفير دوس دوس…”
لكن الكاتب يترك أملاً في خيار ثالث تعرضه شخصية يوسف إذ يجد “المفتاح” معلقًا في صدره! (لا يمكن أن نذكر غسان عباس في شخصية يوسف من دون أن نذكر الشبه الهائل بينه وبين المناضل الجولاني المعروف والعزيز، هو العم سلمان فخر الدين) يوسف يرفض خيار “يا شوفير دوس دوس” ولكنه أيضًا لا يقبل خيار الهروب إلى الصين… إن خيار يوسف بإصلاح الشاحنة المعطوبة لمواصلة الطريق، وإن تجرأنا على تجاوز مساحة التأويل المعتادة، يمكن أن نقول ما يصعب على المشاهد أن يتوصل إليه: إن الشاحنة المقلوبة وسط المسرح ترتبط عند كل صاحب ذاكرة جولانية بالصورة الخالدة لسيارة الشرطة التي قلبها المتظاهرون في الجولان أثناء أحد الاشتباكات الشعبية مع الاسرائيليين منتصف سنوات الثمانين.
إن الطريق الثالث بين “يا شوفير دوس دوس” ووصول الشام عن طريق الصين يختبئ في السيارة المقلوبة تلك. في المشهد الأوّل يقول يوسف لإبراهيم الذي يقف فوق الشاحنة المقلوبة: “انت داعس على المفتاح…”
يتحدث إبراهيم عن الوجوه الجديدة التي يريد أن يراها يوميًا في الشام… إنها الهزيمة إذ ترتبط بشكلٍ تلقائي بضيق الحيّز وصندقة المجتمع، هذا بشكلٍ عام، فما بالك عندما نتحدث عن قرى صغيرة وجدت نفسها مهزومة مقطوعة عن امتدادها وفي الوقت ذاته ترفض الامتداد الآخر -التطبيع مع الاحتلال- رفضًا قاطعًا. والرفض الأخير هو صراع لم تتطرق إليه المسرحية، وهو الصراع الذي نادرًا ما يُخاض خارج هارمونيا الكليشيهات مع البكائيات المشؤومة.
لكننا نذكر هذا الصراع الذي لم تتطرق إليه المسرحية لنبيّن الفرق بينه، بحيث أنه صراع على ماهيّة الـ”هناك” الذي يريد الجولاني بلوغه، وبين الصراع حول الطريق إلى الـ”هناك” المتفق عليه… لكن مؤلف المسرحية الجولاني يتجاهل سؤالًا متحديًا، هل الـ”هُناك” مكان يُجمع عليه الجولانيون ولا تكون ماهيته محل تخبطات فردية وجماعية؟
تتطلب فكرة المسرحية أن تتحول الأساليب التي يحاول فيها يوسف منع إبراهيم من السفر إلى عقبات وحواجز دراميّة تبني الحبكة والتصاعد الدرامي في المسرحية، لكن الأمر للأسف ليس كذلك. لقد تفوّقت الرواية الشعرية التي قدمها المؤلف على أداء الدراماتورج الذي قدمه خليفة ناطور، فلم تتحول أساليب يوسف إلى صراع فعلي قدرما هي أفعال ومقولات شاعريّة. من أين ينبع تفوّق الشعر على الدراما؟ من طبيعة الوهم النفسي الذي يخلقه الجولانيون (الواقعون تحت الاحتلال إجمالًا، نحن أدرى)، فنرى يوسف يحاول أن يصوّر لإبراهيم بأنّ الطريق التي يقترحها قريبة: ضربة حجر!
إنّ قُرب التلة أو بعدها موضوع للاعتراف، حيث يرفض يوسف الاعتراف بأن هذه النقطة صارت “أبعد من المرّيخ” ولا زال يريد أن يوقع إبراهيم في الوهم الذي يؤسس عليه الجولانيون أحلامهم الخانقة العبثية؛ إن قرب التلة موضوع يستهلكه تراث التجييش النضالي.. في أغنية سميح شقير مثلاً “بيني وبين أهلي وناسي رمية حجر”، ومع كلّ الحب لسميح شقير، نحمد الله على أنّ المسرح لم يبقَ وفيًا.
إنه تراجع الدرامي لصالح الشعرية، وهو يعبر عن انعدام حيز التبريرات الماديّة لموقف يوسف- إصلاح الشاحنة النضالية للوصول إلى الشام. انه النضال المأزوم غير القادر على الارتقاء من مستوى الفكر إلى مستوى الفعل… الجميل في المسرحية هو أن كبواتها تعبر عن الواقع تمامًا كما تعبّر عنه نجاحاتها.
إن التميّز الحقيقي في المسرحية يكمن في أداء الممثليْن مكرم خوري وغسّان عبّاس. إن أداءهما سحر يصعب التخلص منه، وإن بحثنا عن السر وراء السحر نجده النضوج المسرحي بأبهى أشكاله، خاصةً حين يتمكنا من التفاعل مع إنجاز المؤلف بخلق شخصياتٍ استثنائيّة بقصتها وطبعها، وهذا الأداء يغفر بضع زلات يتورطان والمخرج بها، بعضها يكمن في سطحية التعرف على المجتمع الجولاني، نذكر منها عدم تمكّن الممثلين من اللهجة المحكية في الجولان (أمر مركزي جدًا)، ما يبرز خاصةً في أحد المشاهد الذي يبتذل فيه غسّان عباس اللهجة الشامية- ستايل باب الحارة.
تدخل أيضًا في الإخراج والديكور والموسيقى عواملُ جديدة تحمل إمكانيات واسعة على مختلف الأصعدة، نعطي مثلاً على ذلك في الجانب التقني حيث يُمكّن استخدام التقنيات من إطلاق المؤثرات الصوتية من أماكن مختلفة تحيط بالمشاهدين. أما المثل الأهم فهو برأيي فتح الحدّ الأقصى من فضاء الخشبة، الأمر الذي قلما نشاهده، وأعتقد أن هناك مساحةً كبيرة لتأويل المقولة من وراء هذا.
نهايةً، هناك أمور كثيرة تتعقد قراءتها في السياق الزمني للثورة السورية. فجملة “لا تغني للشوفير…” تُقرأ في سياق آخر، على سبيل المثال لا الحصر، حين تُعرض المسرحية وفي القاعة المجاورة مهرجان تأييد لنظام البعث الفاشي، وهذا يستحق وقفةً مركبة.
في ظلّ الثورات العربية، تتحول مقولة بسيطة وطفولية مثل “بدي آكل بوظة بكداش” إلى طرح سياسي يمكن أن نربطه، عبثًا، بتواطؤ الحزب الشيوعي السوري (آل بكداش م.ض) مع نظام القتلة البعثيّ.
بقلم مجد كيال
أخي مجد: تحيتي على كتابتك المخلصة، ولكن يا أخي: ألا تلاحظ التفكك في المبنى، ألا تلاحظ أنه كان يمكن التركز على نقطة تحبك وتخرج بدراما مجدية؟ ألا تلاحظ أننا ضعنا بين الزنزانة والصين وسورية وهنا وهناك؟ ما هذا؟؟؟!!!
أوافقك قطعًا بأن الذي أنقذ النص الإشكالي رغم اعتماديه على جمل شعرية هما الممثلان القديران، ولولا الفكاهات التلقائية وحركية الممثلين لأضعنا وقتنا يا خليفة!