من ذاكرة رحلة
تاريخ النشر: 17/03/12 | 15:18اعتدت في السنوات الآخيرة التردُّدَ على برلين العاصمة الألمانية، صيفا، لقضاء الإستراحة الصيفية بصحبة أبنائي الثلاثة، هاني، فراس وبلال وبصحبة أحباء كثيرين في المدينة.
أشعر أنَّ لبرلين نكهة خاصة في ذاكرتي الحياتية، يربطني بها حسُّ عشق، كبر فيَّ من سنين، نكهة هي أقرب إلى العبق الحياتي الذي لا يعرف أثره المنعش أيَّ انمحاء وتبخُّر ٍ. وأشعر من سنوات أنّ هذا الحب في تنامٍ، كلما تذكرت الصحب:
زكريا، توفيق، أحمد، مفيد، صلاح، عصام، صبري، يحيى، حطيط، غسان، الشاويشان، حسن، مصطفي، خليل، نبيل، جون، حامد، أمير، بهاء وغيرهم، لا تحضر ذاكرتي أسماءهم وشخوصهم الودودة
وكلَّما تذكرت حفيدتيَّ الصغيرتين لينا وأمينة.
وإن كنتُ لا يغيب عن إدراكي الواعي واقعها المليء بالتناقضات في أبرز تجلياتها وانعكاساتها، البشعة الفظيعة، من جهة، والجميلة – ثقافة وإنسانية – من جهة أخرى، إلاّ أنني أحس حتى آخِر نبضة من أحاسيسي أنَّها وفرت لي أجمل لحظات العمر الشبابي، ففيها عرفت الحب الواعي لأول مرة أثناء الدراسة الجامعية وعرفت جمالات وخيبات ذلك الحب وما فيه من تضحية ومتعة.
أذكر، كنا طلبة يومها طلبة مجتهدين، نحب الحياة والدرس، نرى في العمل الإنساني النافع، غير الطفيلي، أساس المعرفة وسر نشأة الحياة ومصدر قيمها المتجددة طالما كانت هناك حياة.
وعرفت في برلين دفء الزمالة، زمالة الفكر والحلم، وعمق معنى الصداقة الإنسانية. وقد عمقت المدينة الخضراء، الغنية بالمياه والشجر والوجه الحسن، وعمَّق مناخها الثقافي الواسع وعيي بالحياة والعالم الرحب، فلم أعد من حينها أنظر إليه من كوة صغيرة تتحكم بأفق نظري فتحده، وفيها عايشت تجربة البحث عن شريكة الحياة – زوجتي، التي كانت لي في لحظات الشدة ولحظات الفرج، خير مؤازر وخير عون.
برلين باتت جزءا من وطني الأكبر – إنسانيتي. وبعد كل رحلة بتُّ أشعر أن حبي لها ازداد كثيرا، فكانت كل رحلة فرصة قيمة، فتحت أمامي إمكانية زيادة معارفي. أحس بفرح وزهو أن من باتوا أحبة لي كثروا كثيرا، كما ونوعا. وقد غمروني، في كل مرة، بحبٍّ إنسانيٍّ صادق، هو أكثر ما يحتاجه الإنسان في كل مرحلة من العمر، خاصة في جيل الشيخوخة. وما أبهجني بشكل خاص أنَّ الرحلة ما قبل الأخيرة في صيف 2008 كانت حافلة بالنقاشات والحوارات حول الأدب، الثقافة عامة، وحول هموم الإنسان في الوطن العربي والعالم، همومه السياسية – الإجتماعية، المعاشية وطموحات هذا الإنسان في سلم ٍ وأمن اجتماعي، شخصي، غذائي وبيئي حقيقين.
وكم أفرحني في تلك الرحلة، حين شعرتُ أنني تعلمت الكثير واكتسبت الكثير من سمات بعض صحبي ومعارفي، فبفضلهم درّبت نفسي وهذبتها أكثر وما أمكن على حسن الإصغاء والحوار. فكنت أبادل المحاورين الآخرين شعور الإحترام مع الحرص الهادىء والودود على تبيان رأيي.
وقد اعتدنا ، صَحْبٌ لي وأنا، في هذه الرحلة، أن نلتقي كحلقة ضيقة في مطعم قريب من مكان سكناي، عند ولدي فراس، حلقة ضيِّقة حقا تلتقي مرة كل اسبوع، صحبي السمر من عشقوا سِحْرَ الكلمة وسِرَّ غِوايَةِ الحياة، كما أسميتهم في قصيدة لي، نتبادل حكايا الأدب القديم والحديث، هموم الساعة والحياة الشخصية، حكايا التاريخ الإنساني، الطب ونتبادل النكات مرفهين عن الذات المشحونة بحزن داخليٍّ لا يبين.
نشأت فكرة اللقاء بصورة عفوية وقد لقيت في أنفسنا جميعا راحة واستحسانا.
وإن كنت أنسى، فلا يمكن ولا يعقل أن أنسى أمسيات وندوات أدبية وثقافية عامة كانت في بيت الشام ومنتدى إتحاد المثقفين العرب.
أشعر اليوم كم نحن في أمس الحاجة لمثل هذه اللقاءات، لقاءات تحثُّ واحدنا على التفكير العميق، تدريب الذات على مناقشة الآخر والتعلم من كل ما هو جديد ونافع إنسانيا، حب الحياة، اكتشاف جمالية الحلم الإنساني، تهذيب النفس، تنقيتها – محاولة تنقيتها – و تنمية بؤر صداقة في مجتمعنا الصغير والكبير.
أخي وصديقي المبدع إبراهيم مالك
قرأتُ باستمتاع هذا البوح الصادق الموحي الذي جاد به يراعُك السيّال، وأرجو
أن تجود علينا بالمزيد من هذه النصوص التي تسرد فيها سيرتك وتجربتك الثريّة.
نعم، إن السفر لبلاد جميلة ساحرة ومختلفة، والالتقاء بأناس آخرين، وتبادل الآراء والتجارب، كلّ ذلك يوسّع الآفاق، ويصقل الشخصيّة، ويهذّب عالم الروح، وكم نحن بحاجة إلى مثل هذه الرحلات!
بخصوص فكرة تنظيم لقاءات وأمسيات ثقافيّة وأدبيّة، فأنا من المتحمسين لمثل هذه الفكرة، وما أحوج مجتمعنا لمثل هذه المبادرات البنّاءة!
لك خالص تقديري واحترامي
د محمود أبو فنه