أيّامَ كنّا ننامُ بأمان!
تاريخ النشر: 21/03/12 | 4:42(من سيرتي الذاتيّة)
يحدّثنا الرواة حكاية جميلة لها دلالات عميقة وجديرة بالتأمّل والاقتداء:
يُروى أن رسولا لكسرى توجّه للمدينة المنوّرة لمقابلة الخليفة عمر بن الخطّاب، فلما سأل عن قصر الخليفة قيل له: ليس للخليفة قصر!
عاد وسأل كيف يمكن أن ألتقي به، قيل له: ربما يجد عمر في المسجد. لكن لم يكن عمر آنذاك في المسجد.
استمر رسول كسرى يبحث عن عمر ، وكانت المفاجأة، – بالنسبة لرسول كسرى – أن وجد عمر مستغرقًا في النوم تحت شجرة ظليلة، بملابس بسيطة، ولا يحيط به الحرّاس، فاندهش رسول كسرى من هذا المنظر، وخاطب الخليفةَ عمر بعبارة موجزة خلّدها لنا التاريخ:
“حكمتَ فعدلتَ فأمنتَ فنمتَ!”
وقد تطرق حافظ إبراهيم – شاعر النيل – لتلك الحادثة المؤثّرة في قصيدته العمريّة حيث قال فيها مُشيدًا بعدلِ عمر:
أمنتَ لما أقمتَ العدلَ بينهم — فنمتَ نوم قرير العين هانيها
هذه الحكاية الرائعة تعيدني – بذاكرتي – إلى أيّامٍ خلت، إلى سنوات الطفولة وبداية تفتّح الشباب، يوم كان الناس في بلدتي الوادعة كفر قرع – وحتّى في جميع بلداتنا العربيّة المتبقية في وطننا الحبيب – يعيشون حياة آمنة هانئة في توادد وتعاضد وتكافل رغم الظروف الصعبة التي عرفوها بعد النكبة عام 1948!
وقد تسنّى أن وصفتُ تلك الحياة الهانئة السعيدة بمقطوعة محبّبة إلى نفسي بعنوان:
“آه يا زمان”
قلتُ فيها:
أيّتُها الطفولةُ الحالمةُ الواعدة – كم نفتقدُك؟
لم نعشْ في أحضانِ التلفزيونِ ولا المذياع،
وما أبحرْنا في عالمِ الشبكةِ العنكبوتيّة،
بل كانت لنا حكاياتُ الأهلِ وليالي السمر!
لم نعرفْ مدنَ الملاهي ولا الألعابَ العصريّة!
بل كانتْ هناك ألعابُ الطفولةِ البريئة!
كمْ كنّا نجري ونمرحُ في أحضانِ الطبيعة!
وكم لهوْنا على ضفافِ الوادي والغدران
وكم جمعْنا الأزهارَ وشقائقَ النعمان
وكم راودنا العصافيرَ وطيورَ الحجل!
بيوتُنا ما عرفتِ الكهرباءَ ولا المكيّفات
وفي الليلِ كانت تضاءُ بالقناديلِ وبالسُّرج
وكم مرّة هبتِ الريحُ فعمّ الظلام!
وفي الشتاءِ نتحلّقُ حولَ كانونِ النار
فتشعُّ العيونُ ببريقِِ الدفءِ والحبور!
أعراسُنا كانت قليلةً وساحرة
يشاركُ فيها الصغارُ قبلَ الكبار!
تضاءُ الساحاتُ بالمشاعلِ أو النيران
والحداءُ و”السحجة” كم أطربتِ القلوب،
أما وليمةُ العرسِ فكانت فرصةً لا تُعاد!
وعندما كانت تحدثُ وفاةٌ تُفجعُ القريةُ كلُّها،
الحدادُ والحزنُ يعمُّ الجميعَ بلا استثناء
فلا أفراحَ ولا أعراسَ لأسابيعَ طوال!
والكلُّ يشاطرُ أهلَ الفقيدِ مُصابَهم الجلل!
………..
حقًّا، كان الناسُ يشاركون بعضهم البعض في السرّاء والضرّاء، وكانت قيمُ الشهامة والنخوة والإيثار والصدق والتسامح تتربّع على سلّم أوليّاتنا، فلا تعصّب، ولا حسد، ولا كراهية، ولا سرقة، ولا عنف، ولا سطو على البيوت أو الممتلكات!
أذكر كيف كيف كنّا ننام على بيادر الغلال ، أو كنّا ننام في البساتين أو “المقاثي” أو في ساحات الدار – بأمان!
كانت بيوتُنا مفتوحةً للأهل وللضيوف وللجيران، لم نكنْ نغلقُها بالمفاتيح أو الأقفال!
كانت القلوبُ صافيةً عامرةً بالمحبّة والعدلِ والإيمان!
هكذا كان الفاروق عمر العادل، هكذا كنّا أيّام زمان ننام في أمان!
وصدق أجدادُنا عندما قالوا في أمثالهم الشعبيّة المحمودة:
“صفّي النيّة ونام في البريّة”!
وأختتمُ حديثي بما كتبتُه في نهاية تلك المقطوعة:
اليومَ… تبدّلتِ الأحوالُ وتغيّر السكان!
وتخلخلتْ أواصرُ القربى وعمتِ البغضاء
فكم من أخٍ يخاصمُ أخاه في جفاء!
وكم من جارٍ يقاطعُ جارَه بازدراء!
وكم من عُرسٍ يجاورُ بيتَ عزاء!
القلوبُ أمست قاسيةً صمّاء!
الناسُ لا تعرفُ التكافلَ ولا الوفاء!
المشاعرُ تبلّدت..
والآمالُ تقزّمت..
البراءةُ رحلت..
والمودّةُ شحّت..
أيكونُ هذا كابوسًا في المنام؟!
أمْ هو الواقعُ الذي شتّتَ الأنام؟
أتعودُ المحبّةُ والبراءةُ كأيّامِ زمان؟
أم أنَّ هذا صار من المُحال؟
اقرا ايضاً في هذا السياق:”من سيرتي الذاتيّة” الدكتور محمود أبو فنه
محطّة بارزة وحاسمة “من سيرتي الذاتيّة”
شكرا يا استاذ الله يزيدك عطاء وصحة وعافية يا رب
كلام جميل ورائع تحياتي لك استاذ محمود
تحيتي لك استاذنا العزيز محمود ابو فنه على هذه الكلمات الرائعة والوصف الدقيق لحياتنا وحياة اهلنا في الماضي وأنا أيضا أقول آه يا زمن ! وقد أعجبني قولك : “كانت القلوبُ صافيةً عامرةً بالمحبّة والعدلِ والإيمان!” فهذا للاسف الشديد ما ينقصنا اليوم . شكرا لك ونحن بانتظار المزيد من انتاجك الادبي .
يا ريت تعود ايام زمان ياريت يادكتور محمود تبقى تذكرن من حين لحين ايام زمان راحت واصبحت ذكرى وين كيس رمضان وين الكعدة حول الكانون وين اكلات زمان وين حب الاخ لاخوه اخ اخخخخخخخخخخخخخخخخ على قسوة القلوب والبعد اللي صار الله يستر من اللي جاي
قال احد الحكماء…حين لا يطمئن البشر الى المستقبل فانهم يرتدون الى الماضي
وتتجسد امامهم خيالات الماضي واطياف الاسلاف…
اخي واستاذي الغالي ابا سامي احييك على عطائك المتواصل..بوركت وحفظك الله
ورعاك..
الحياة شعلة خير سلمت لنا ..وعلينا ان نسلمها شعلة خيرات للاجيال القادمة..
جدير بنا ان نتالق باداء ادوارنا بمسرح الحياة لنخلق حياة فاضلة لنا وللاجيال
القادمة..تعم بها الرفاهية ومكارم الاخلاق والايجابيات..
ناخذ من الماضي الدروس والعبر..نعيش الحاضر بتفاؤل واصرار على خلق
حياة كريمة للاجيال اليانعة..لا مجال للاحباط والياس رغم ما نواجه من ظواهر
سلبية في حياتنا اليومية..
نحن نعيش حاضر استهلاكيا ..حملنا ثقيل..لكن منسوب الرفاهية بارتفاع في
جميع مجالات الحياة..
اخي الكريم..اردد دائما المقولة..اشعال شمعة خير من ان نلعن الظلام الف مرة..
هذه الحكمة كبيرة بكلمات قليلة..
لك مني خالص الحب والتقدير..انت الكبير وحبك في قلبي كبير..
د. محمود ابو فنة
جميل وصادق ما كتبت ، دام قلمك معطاءً وتحياتي لك .
رووعه
الله عليك على هيك كلام معبريا ريت ترجع ايام زمان الراحه والامان والمحبه انا بشتاق للمحبه انا كنت مبسوطه على البساطه اما اليوم خايفه على ولادي من هيك تطور بتعب البال
تحيّة عطرة للأستاذ محمود أبو فنّة المحترم !
قرأت ما سطّر يراعك من حروف مضيئة تعود بنا إلى الماضي الجميل ..إن كان ذلك ماضي الآباء أوالماضي البعيد لهذه الأمّة العريقة ..وكلّنا نتوق لتلك الأيّام الخوالي مع أنّني- وللأسف -أرى سطرك الأخير أقرب من كلّ الأمنيات.
ذكّرتني أخي الفاضل بأبناء أمّتي الّذين حفظوا العهود وتبنَّوا القيم الراقية ..يوم كانت البلدة يدًّا واحدة في أفراحها وأتراحها ..يوم كان الجار يسهر على راحة جاره ..والأخ يساند أخاه ويعاضده ويقف معه عند الشّدائد..ولكنّ هذه الأحوال لم تبق على سابق عهدها نظرًا للظروف الّتي نعيشها ..حيث تعقّدت الحياة …وظهر التنافس والتناحر بين النّاس حتّى وصل مثل هذا التناحر بين الإخوة أنفسهم..ولم يعد لحياة البساطة مكانًا ولا معنى في ظلّ هذه الظّروف ..فتفكّكت العائلة الواحدة ..وطغت الماديّة البغيضة على مفاهيمنا فاضطرّت الفضيلة أن تجرجر أذيالها ..وبكت المروءة نفسها ..وكما قال الشّاعر في ذلك :
مررت عن المروءة وهي تبكي …فقلت :علام تنتحب الفتاة ؟؟
فقالت :كيف لا أبكي وأهلي …..جميعًا دون خلق الله ماتوا
أستميحكم عذرًا فقد أطلت عليكم … ولكنّني اندفعت دون توقّف نظرًا لما أشعر به من مرارة ممّا وصلنا إليه من تردّي أحوال ..فلم نعد نملك المستقبل ….وأصبحت حياتنا مشاعًا للرذيلة والعنف وما يجرّه من ويلات ….وأخيرًا أتقدّم لك أيّها الأخ الكريم بجزيل الشكر على ما تأتي به من مقالات وخواطر تعيدنا إلى أيّام مشرقة ..ربّما نستمدّ منها بصيصًا من نور نسير على هداه لنخرج من نفقنا المظلم …كما وأشكرك على أسلوبك الممتع .. وجمال تعبيرك.. وتسلسل أفكارك وانسيابها الهادئ . ولك تحيّاتي
اهدي الدكتور محمود اغنية مرسيل خليفة بمناسبة عيد الام احن الي خبز امي \ اكتب هذه الكلمان وانا فعلا اشم رائحة خبز الطابون بين الحارات والزقاق هذا الحوار يسعدني اكثر من المسرحيات والصور التي اراها في الحوارنة شكرا لك والي الامام نحن نفهم ماتقوله وتكتبة
استاذنا الكبير د.محمود، لك منا كل الاحترام والتقدير والاعجاب بكتاباتك القيمة، الجميلة، المعبرة والتي تثير فينا الحنين الى الماضي الجميل، اسلوبك ساحر ، وكلماتك تصيبنا بالصميم، سيرتك الذاتية مشرفة ويحق لك ان تنشر منها المزيد والمزيد.
جميل جدا
“هنا كنا نعّمر اكثر لولا بنادق انكلترا والنبيذ الفرنسي والانفلونزا”! صرخها ذاك الهندي الاحمر يوما في وجه الرجل الابيض في خطبته السرمديه الناريه المدويه التي استوحاها من درويش الهاما واقتدارا. لا اعرف لماذا تملكني وراودني هذا الايحاء وانا اقرأ سطور استاذنا الالمعي اعلاه رغم اختلاف السياق بين الحالتين: الاول سياق سياسي وتاريخي ملتهب والثاني سياق اجتماعي.
وما زال السؤال حاضرا في وجداننا وفقداننا: هل التغييرات القيميه الاجتماعيه في وطننا البائس كانت نتيجه حتميه لهذا الزمن الردئ وافرازاته؟ هل لمجتمعنا العربي في الداخل خصوصيه ما تميزه عن سائرالمجتمعات العربيه في العالم العربي؟ ام اننا سواء؟
اسئله تتكدس على عتبة علماء الاجتماع وتتطلب شحذ الادوات …
باعتقادي ان المسأله ليست قضية حنين الى الماضي او الى ايام خلت, فكل منا يحن الى الماضي برؤيه عامه وشموليه… القضيه الحارقه ان العشريه الاخيره اعتراها تبدل وتحول في القيم والمعايير السائده بوتيره سريعه عسيره على الاستيعاب…لم يعد, كما عهد من قبل, انسجاما بين المحتوى والاطار بين المضامين والنظم. نعيب زماننا والعيب فينا.
ابدعت اخي وسيم، فصاحة وبلاغة في تعليقك اعلاه، دمت فخرا
[…] محطّة بارزة وحاسمة “من سيرتي الذاتيّة” العناية الإلهيّة تحرسك! كيف تغلغل حبّ الكلمة إلى قلبي! منكما رضعتُ المبادئ والقيم! أيّامَ كنّا ننامُ بأمان! […]