مُعَلِّمي نظير جريس طاب ذكره

تاريخ النشر: 21/03/12 | 17:24

“من الذكرة”

نظير جريس ( أبو ميشو ) من كفرياسيف ، طاب ذكره ، كان واحدا من مُعَلِّمِيَّ الذين أسهموا في تنمية بذور الحس الجمالي والوعي المعرفي ، البذور الأولى ، وهي البذور التي أسَّست لحسي ووعيي لاحقا .

فأنا لا يمكن أن أنساه أو أنسى مُعَلِّمِيَّ من المدرسة الإبتدائية وغيرهم ممن علموني في المدرسة وفي الحياة .

وفي السنين الأخيرة كان معلمي نظير جريس أحد الوجوه القليلة ، التي تزدحم بها ذاكرتي ، يطل عليَّ بوجهه البشوش وأنا عاكف أتأمل مسار حياتي ، الخطأ والصواب ، السلب والإيجاب منه ، ألخِّصُ بعض تجربتي ، فنتحادث في بعض ما كان ، حديث التلميذ ومعلمه .

أذكر ، أنه علمني في المدرسة الإبتدائية ، وحين كبرت وعدت من دراستي الجامعية في ألمانيا ولاحقا من عملي في براغ ، نشأ بيننا ودٌّ قائم على احترام التلميذ لمعلمه وحب المعلم لتلميذه الذي رآه يكبر وينضج سِنّا ً ومعرفة ً.

في تلك الأيام بدأت تتبلور في داخلي بدايات تحول في فهمي الأشياء والحكم على سلوكيات الناس وراحت تكبر فيَّ أسئلة ، أبعدتني وإن يكن متأخرا قليلا عن الحراك السياسي . لا أنكر أهمية وحيوية هذا الحراك ، لكنني وجدتني ، بمرور الزمن وتراكم التجربة الحياتية الشخصية ، أكثر ارتياحا وانطلاقا ، كلما ابتعدت أو تمكنت من الابتعاد عن التنظيمات ذات الطابع الفئوي المنغلقة على ذاتها ، ووجدتني أوسع نظرا وأعمق فهما لما يحيط بي . وقد بدأت أرفض ، يومها ، أن تتحكم في الموقف من كثير من الأشياء المحيطة ، أن تتحكم بي خلافت سياسية أو فئوية سابقة . فلم أعد أقبل أن تتحكم هذه الخلافات في علاقاتي مع الكثيرين من الناس ، ولم أعد أحكم على أيٍّ كان انطلاقا ًمن ذلك .

ما كان يعنيني وهذا ما كنت ولا ازال أبحث عنه في الإنسان ، أيا كان ، هُوَ جوانب إنسانية فيه ومدى إسهامه في نهضة المجتمع الحقيقية ، لا الشكلية .

هذا الفهم هو ما حكم كثيرا من سلوكي اللاحق .

حين أتأمل جوهر مسار حياة معلمي نظير جريس ، يزداد احترامه في عينيَّ .

للحقيقة علمني معلمي نظير جريس مواضيع لم أعرها التقدير الكافي في بدايات نموي وتقدمي المدرسي . فكنت واحدا من مجتمع لايعرف ، حقَّ المعرفة حتى ولا أبسطها ، ما لتلك المواضيع من قيمة تربوية ، جمالية ومعرفية.

كان مجتمعنا عامة يعيش ظروفا معيشية صعبة ، فليس لديه متسع زمني وسعة ذهنية وحاجة ملحة لهذا الترف الذهني . وكان ولا يزال مكتفيا بأشكال من الطرب والمتعة الضحلة البسيطة والبدئية ، التي لا تتطلب جهدا فلا تتعب عقله بالتفكير والتأمل ، ومن شأنه (أي ذاك الطرب الضحل) صرفه عن همومه الحياتية الحقيقية ، ككثير من طرب الأعراس وغيره من مناسبات الفرح الصادقة أو المفتعلة .

كان يعلمنا الرسم ، الموسيقى والأشغال اليدوية . وهي لا شك ، هذا ما خبرته لاحقا ، من الفنون الجميلة ، التي تكشف عن مدى تطور المجتمع الثقافي ونمو حسه الجمالي ، سعة معرفته العملية واستعداده للنهوض المجتمعي .

لكن الإنطباع السائد ، آنذاك ، في النصف الأول للعقد السادس من القرن الماضي ، كان ينتقص من قيمة وضرورة هذه الموضوعات ولا يعيرها في مجالي التربية أو المعرفة أية أهمية .

كنا ، لسذاجتنا وقلة وعينا ، نعتبر دروس الأستاذ نظير جريس مضيعة للوقت .

تقدَّمَ بي العمر ، لكن بقيت أنظر إلى شهاداتي من مرحلة الدراسة الإبتداية ببعض الغرور الصبياني الفرح ، فشهاداتي المدرسية ، يومها ، كانت تترك في نفسي طعم فرح ورضى. فنتائج امتحاناتي المدرسية في حينه كانت مُرضية ولكن ، لدهشتي ، كانت علاماتي في المواضيع المذكورة متدنية بشكل ملحوظ .

أذكر أنني مثل تلاميذ كثيرين لم أبذل مجهودا يذكر لتعلم تلك المواضيع ، ولو الحد الأدنى المطلوب للنجاح المدرسي.

أناقش نفسي كثيرا في هذه المسألة ، لمَ حصل ذلك ؟

فقد اكتشفت ، مع تقدم العمر وخاصة بعد الدراسة الجامعية في ألمانيا والعيش في براغ ، المدينة الغنية بناسها ، حياتها الثقافية وعمرانها ، أن كثيراً من قصائدي أشبه بلوحات ، أو أنها محاولة للرسم بالكلمات ، كما كتب شاعرنا الدمشقي الجميل نزار . إزداد وعيي ومعرفتي بالصلة القوية بين الرسام والشاعر وبين الشعر والموسيقى . لست رساما أو موسيقيا ، لكن التربية بروح فهم الرسم وحسن تقييمه ، التمتع الذهني والحسي بالموسيقى وحب العمل المهني المتنوع ، كلها وغيرها تسهم أو من شأنها أن تسهم قي تنشئة جيل يتقن ، بصورة أفضل ، تهذيب النفس الإنسانية ،سلوكياتها ومواجهة تحديات الحياة .

وازددت إدراكا بقوة الصلة بين الفنون الجميلة المختلفة وبين الشعر.

ومع زيادة هذا الإدراك والقناعة الواعية بما للموسيقى من أثرتربوي وتهذيبي ، أدركت في أعماق نفسي كم كانت خسارتي وخسارة الكثيرين من أبناء جيلي كبيرة وأحياناً لا تعوَّض . وعزائي الوحيد أنني حاولت لاحقا ، بمدى ما سمحت به الظروف الحياتية ، حاولت أن أشعِرَ معلمي نظير بما له من مكانة محترمة في نفسي تفوق كونه أحد مُعَلِّمِيَّ في الصبا . ولا أكتمكم سرا أنني حين أكتب ، إنما أكتب في محاولة لإبقاء مثل أولئك المعلمين وغيرهم نبراسا يضيء الذاكرة الجمعية .

ما أجدرنا ، نحن التلاميذ وإن تقدم بنا العمر قليلا و لم نعد تلاميذ بهذا الْمَعْنى ، أن نحتفظ بالذاكرة ، ذاكرتنا وذاكرة أبنائنا وأحفادنا ما بقي فينا رمق حياة ، أن نحتفظ بقليل من الحب والعرفان لكل أولئك الذين أسهموا بغرس بذرة طيبة في نفوسنا ومجتمعنا .

أشعر أنني أنحني احتراما لكل أولئك ولكل من أسهم ولو بالقليل في تربيتي وتهذيبي .

كم أنا سعيد ومحظوظ ، لأنني كنت يوما تلميذهم ولا أزال .

تعليق واحد

  1. احييك استاذي الفاضل على تواضعك النبيل اتجاه معلميك..

    لك جزيل الشكر والثناء على عطائك الكريم المتواصل..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة