عود على بدء: "اعمل مليح وارميه في البحر" رقم 2
تاريخ النشر: 22/03/12 | 3:59ومليح اليوم: كلمة طيّبة… والكلمة صدقة، ومردودها جاء بعد قرابة نصف قرن… ولنبدأ الحكاية:
كان “نضال” طالبا في الصف السادس الابتدائي وذلك في منتصف الستينيات من القرن الماضي، كان لامعا وعلى خلق كبير، أحبه كل من عرفه وخاصة معلميه، كان مثالا للطالب: المؤدب، النجيب، الأنيق، كلامه حلو “مثل العسل” حاضر البديهة، سريع الخاطر، وكان لي شرف تربية صفه، أعجبت بذكائه واهتمامه بمدرسته ودروسه وحبه للعلم ورأيت فيه مستقبل شعبي لما توسمت فيه من قدرة وعطاء…
كان نضال يتيما وحيد أمه بين عدة أخوات وكان ترتيبه في الأسرة “تالي العنقود” كما نقول، وضع الأسرة الاقتصادي صعب كباقي الأسر في البلدة، قامت الأم على إعالة هذه الأسرة مباركة العدد، ورغم تقدم الأم النسبي في العمر إلا أنها كانت تتمتع بصحة جيّدة وعافية مكناها من العمل لاعالة هذه الأسرة المباركة أجيرة لدى المزارعين وفي الأيام التي لا تعمل بها بالأجرة كانت تقطف نباتات التوابل والنباتات الطبية ونباتات الأكل البرية: كالزعتر، والزعتر الفارسي ودقة البلاط والميرمية والعلت والخبيزة واللسّينة واللوف والجعدة وما شابهها، كانت تقطفها في مواسمها وتبيعها… رضيت هذه الأسرة بقدرها وعاشت حياتها وعلى قدر فراشها مدّت أرجلها وحمدت الله الذي مّن عليها بمثل هذا الابن البار “نضال” النجيب والمطيع لوالدته….
ومع نهاية الفصل المدرسي الثاني وفي الأيام الأخيرة منه حيث الامتحانات الفصلية لطلاب المدارس وحلول شهر الربيع وما يرافقه من اعتدال في المناخ ووفرة في المحاصيل النباتية البرية قرّر طالبنا هذا الانقطاع عن الدراسة والمدرسة… ولم نعرف كنة هذا الانقطاع المفاجىء ولماذا وفي هذا الموسم بالذات!! أهو بسبب لقمة العيش وجني النباتات البرية؟! أم لمرض طارىء لا سمح الله!!
دفعني واجبي التربوي ولانعدام وسائل الاتصال الهاتفية آنذاك إلى زيارة طالبي في بيته والاستفسار عن سبب غيابه وانقطاعه عن الدراسة وفي هذه الفترة بالذات، فترة الامتحانات الفصلية…
وفوجئت كما فوجىء أفراد أسرته عندما كشف لنا نضال عن سبب انقطاعه، لم يكن ذلك بسبب الإهمال أو التقصير أو سوء معاملة الطلاب والمعلمين له ولا لسبب الفاقة والعوز والتي عانى منها غالبية شعبنا آنذاك…
وسيبقى السؤال المحيّر، إذن ما السبب؟!! ويأتي الجواب من نضال وعلى شكل سؤال يوجهّه لي ليقول: ألم تقل لنا أن “كلم اللسان أنكى من كليم السنان” قلت: بلى… ولكن ما العلاقة بين هذا والذي نحن بصدده؟ّ وبدون انتظار قال: “ولماذا أذلّني وحقرّني مدير مدرستي وأمام طلاب صفّي؟! ألأنتي فقير ويتيم؟ّ قلت: حاشى لله، ليس الفقر عيبا، وكلّنا فقراء.. ولكن ما العلاقة؟ّ قال وقد انهمرت الدموع من عينيه وأخذ بمسحها بكفتّي يديه الناعمتين: “أهذا مدير.. أي مدير هذا الذي يطلب مني أن أوصل طلبه لأمي بأن تقطف له خمسة كيلو غرامات من الزعتر البري الأخضر… والذي أغاظني أنه كرّر الطلب وأعاده عليّ مردّدا: لا تنس.. إياك أن تنس وسأدفع ثمنها حال استلامي لها، قالها بصوت عال وكأنه توخىّ إذلالي واهانتي وأمام طلاب صفي… ساعتها وددت لو أن الأرض انشقّت وبلعتني، شعرت بالأهانة، وفي هذه اللحظة بالذات قررّت أن اترك مدرستي التي عوضا عن رعايتي والعطف علي أهانتني وأذلتني ممثلة في رأسها مديرها الذي كان الأولى أن يكون الأب الحنون لي ولبقية زملائي… لن أعود للمدرسة…
وأعادها ثانية وثالثة، وعندما لاحظت إصراره على ترك المدرسة حاولت جاهدا ثنيه عن قراره هذا ذاكرا له أن الكثيرين قد مرّوا بمواقف حرجة كهذه ولكنهم تحدوها وتجاوزوها ، وأنت يابني وأنا اعرف مدى شخصّيتك القوية وذكاءك وثقتك بنفسك كلها كفيلة أن تتحدّى مثل هذا الموقف المؤسف وتستمر في دراستك وأنا أتوسم فيك الخير كل الخير والمستقبل الرائع لك ولمجتمعك، ارجع إلى مدرستي والى أترابك يا بنيّ وتوكل على الله… يا بنيّ: مجتمعنا بحاجة إلى أمثالك وعليك أن تكمل مشوارك الدراسي: الإعدادي، الثانوي وحتى الجامعي فأنت أهل لذلك وأسمح لي أن أعرض عليك عرضا أخويا، أملي أن تقبله وأنت بمثابة أخي الصغير، وواجب الأخوة يملي أن اعرض عليك مساعدتي ومساهمتي المادية والمعنوية في دراستك حاضرا ومستقبلا… ماذا تقول؟ّ صمت… وقد بدا عليه الخجل وقال: شكرا…لا .. لا أريد أن أكمل الدراسة… وستبدي لك الأيام يا معلمي العزيز أنني سأكون ذا شأن في المستقبل وبمشيئة الله… ودارت الأيام ومرّت أربعة عقود ونيّف غاب فيها نضال هذا عن خاطري ليظهر على الساحة المحلية كرجل أعمال ناجح، بل ناجح جدا من خلال التصدير والاستيراد وصاحب ثلاثة مشاريع متنوعة الإنتاج تدّر عليه الإرباح الطائلة وتتيح العمل لعشرات العمال والعائلات من البلدة وخارجها… ذاع صيته وانتشر اسمه بين أهل بلده ولقّب بالمحسن لكرمه وسخائه وتبرعه للمشاريع الخيرية والمساجد، للمؤسسات التعليمية وطالبي العلم وللفقراء والمحتاجين… وكان له ما أراد وعندها تذكرت جملته التي قالها لي: “ستبدي لك الأيام”
ولإتمام الحكاية فلا بد من إكمالها وسرد تفاصيل ما حدث بيني وبين نضال إنصافا للحق والحقيقة، إنها حادثة يتجلّى فيها رد الجميل بأبدع صوره وبأحسن منه، قصدته طالبا تبرعا ماديا، عينيا، لدعم مشروع تربوي علمي، فقال بعد أن رحب بي أجمل ترحيب وتقديمه واجبات الضيافة: كم جمعتم أستاذي لهذا المشروع الجليل حتى الآن؟ّ
ذكرت له عددا صغيرا وأمامه ثلاثة أصفار… صمت برهة قصيرة وقال: اضرب هذا الرقم بعشرة وليكن هذا المبلغ تحت تصرّف مشروعكم الخيري… ولكن هذا كثير يا بنّي بل كثير جدا… فضحك ضحكة طاهرة وبريئة وجاء الرد حادا وسريعا: ولكنني انتظرت منك مثل هذه المناسبة… هذه الفرصة الذهبية التي سنحت لي لأرد لك جميلك، فقد كنت البادىء يا أستاذي والبادىء أكرم وأعظمّ وأي جميل الذي تتحدث عنه؟ سألته مستغربا.. أجاب: ألا تذكر أستاذي العزيز عرضك علي عندما زرتنا في منزلنا بعد انقطاعي عن المدرسة والدراسة وعرضت علي مشكورا المساعدة لإكمال تعليمي!! أتذكر أستاذي العزيز… ستبقى لي ولنا جميعا نبراسا… طوبى لك وأكثر الله من أمثالك… هذا هو ابن بائعة الزعتر.. ابن الأرض الكريمة الطيّبة المعطاءة.
بقلم: الأستاذ حسني بيادسه
(باقة الغربية)
كتب في هذا السياق:“اعمل مليح وارميه في البحر” رقم 1