وقفات وإشارات مع العشر المباركات
تاريخ النشر: 24/07/14 | 9:50نحن في شهر عظيم، ينعم الله به على عباده، ويكرمهم بفضائل ومزايا تجعلهم من الله أقرب، فالأجور مضاعفة والعبادات متنوعة، وقد خصّ هذا الشهر العظيم بمزية ليست لغيره من الشهور، وهي أيام عشرة مباركة هُنَّ العشر الأواخر، وإليكم مع هذه العشر المباركات هذه الوقفات
الوقفة الأولى: هذه العشر من أفضل ليالي العام إن لم تكن أفضلها على الإطلاق، وقد كان لرسولنا عناية خاصة بها، فإنه كان يحرص على العبادة والطاعة في العشرين الأولى من شهر رمضان إلا أنه يزداد عبادة وتقربًا إلى ربه في هذه العشر الأواخر خاصة، وهو لنا الأسوة والقدوة، تجد ذلك الأمر حين تخبر زوجه عائشة -رضي الله تعالى عنها- فتقول: “كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”. وكانت تقول رضي الله عنها: “كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره”.
الوقفة الثانية: هذه العشر -أيها المبارك- مجال رحب وواسع للتزود من هذا الخير المتمثل بتنوع العبادات والطاعات المتاحة للمسلم:
فمنها الصلوات المفروضات، والمسنونات، والصيام، ومنها قيام الليل والذكر، ومنها قراءة القرآن، ومنها -بل مما اختص بفضلها في هذه الأيام- الاعتكاف؛ ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة “كان رسول الله يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين”. وإنما كان يعتكف النبي في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر؛ قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتخليًا لمناجاة ربه وذكره، والتقرب إليه ودعائه.
فإن لم يستطع المسلم أن يعتكف العشر كاملة فليحرص على الأوتار منها، أو ليغلبَنَّ في أن يلبث شيئًا من الوقت في المسجد، فقد عَدَّ ذلك بعض أهل العلم من الاعتكاف، وفضل الله واسع، وخيره كثير.
فليحرص أحدنا على الفرائض وعلى النوافل وليبشر، فالبشرى جاءت من الحبيب المصطفى حينما أخبر في الحديث القدسي عن ربه أنه قال: “وما تقرب عبدي إليَّ بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه”
الوقفة الثالثة: اجتهد -يا رعاك الله- في تحري ليلة القدر والاستعداد لها في هذه العشر، فقد قال الله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) “القدر: 3”. وألف شهر مقدارها بالسنين ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر. قال النخعي رحمه الله: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر.
ثم إن النبي قال: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر ما تقدم من ذنبه”. وهذه الليلة المباركة في العشر الأواخر، كما قال النبي : “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان”.
وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع؛ لقول النبي: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان”.
وهي في السبع الأواخر أقرب؛ لقوله: “التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلبَنَّ على السبع البواقي”.
وهذه الليلة لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام، بل تنتقل في الليالي تبعًا لمشيئة الله وحكمته. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عقب حكايته الأقوال في ليلة القدر: “وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تنتقل”. وللإمام النووي كلام في هذا المعنى.
“قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها, بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها”. وعليه فاجتهد في قيام هذه العشر جميعًا، وأكثرْ من الأعمال الصالحة فيها، وستظفر بها يقينًا بإذن الله .
ومن هذا المنطلق فلا يلتفت إلى ما يشاع كل عام أن فلان أو فلان رآها في المنام في ليلة يحددها، فإن هذا المتحدث كأنه يقول للناس: لا تقوموا إلا هذه الليلة، ولا تعبدوا الله إلا في هذه الليلة، وهذا تخرُّص واضح، وادّعاء ليس عليه دليل.
وإذا كانت أخفيت عن النبي ، فمن باب أولى أن تخفى عن غيره؛ أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: “اعتكف رسول الله العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له، فلما انقضين أمر بالبناء فقُوِّض. ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر، فأمر بالبناء فأُعيد. ثم خرج على الناس فقال: يا أيها الناس، إنها كانت أُبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتَقَّان معهما الشيطان، فنُسِّيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”.
قال أحد رواة الحديث: قلت: يا أبا سعيد، إنكم أعلم بالعدد منا. قال: أجل، نحن أحق بذلك منكم. قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرين فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة.
الوقفة الرابعة: إن من المتأكدات استحبابًا في هذه الأيام ما كان النبي يفعله؛ فقد كان النبي كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، قال سفيان الثوري رحمه الله: “أحب إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إنْ أطاقوا ذلك”.
إن هذه العناية بأمر الزوجة والأهل والأولاد تجعل من البيت المسلم يعيش في روحانية رمضان هذا الشهر الكريم، عندما يقبل الأب والأم والبنين والبنات على الصلاة والعبادة والذكر وقراءة القرآن، ولنحفّزهم على ذلك الخير؛ فمن دعا إلى هدى كان له من الخير والأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.