تأمّلات في البحث عن الليلة
تاريخ النشر: 25/07/14 | 18:22اذا تأمّلنا في الغموض الذي يُحيط بليلة القدر من حيث زمانها، فإننا نخرج بحكم ودروس يجدر بنا أن نستحضرها. انها ليلة ثمينة وهي تتواجد في زماننا كل عام، ولكننا لا نملك أن نُحدّدها بسهولة. وبالطبع لا يمكننا تحديدها مُسبقا، على خلاف من يفترضون وقوعها في ليلة السابع والعشرين من رمضان. انها مجرّد فرضية تحتاج الى اثبات! هذه الليلة التي يقول فيها الحقّ تعالى: “لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ” (القدر، 3-5). انها خير من ألف شهر! أي هي خير من 29000 يوم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه”، وقال عليه الصلاة والسلام: “إنَّ هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرمها، فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا مَحروم”. ان فضلها كبير وأكبر من أن يُوصف، وأجرها عظيم وأعظم من يُتصوّر، وهي غنيمة لا تُقدّر بثمن!
ولكن لماذا أُخفيت عنا؟! لماذا لم تكن واضحة كالشمس خصوصا وأنها فريدة من نوعها؟! يقول صلى الله عليه وسلم: “خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”، ويقول أيضا: “أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنُسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر”. ان احتمال تواجدها في العشر الأواخر من رمضان هو كبير جدا، ولكن هذا لا يمنع تواجدها في غير ليلة من لياليه. الحافظ ابن حجر أورد أكثر من أربعين قولا فيها، منها أنَّها أول ليلة من رمضان، ومنها أنها ليلة النصف. ان اخفائها يدفع الى البحث عنها، فلو كانت مُحدّدة لما بزغت حاجة البحث. والبحث هو رسالة من رسائل اخفائها، اذ أن الأهداف لا تأتي الينا على طبق من ذهب، الاكتشافات لا تكتشف نفسها بنفسها. انها بحاجة الى الانسان الذي يملك مَلَكة العقل ليُشّغل قدراته في البحث، السعي، الاجتهاد والاكتشاف. وكل ذلك يصبّ في مصلحته، اذ أن الاكتشافات الدنيوية، ستساهم في تيسير المعيشة، والاكتشافات المُتعلّقة بالعالم الآخر (كإصابة ليلة القدر)، ستساعد هذا المخلوق المحدود عمره بمضاعفة أجره.
ان اخفاء هذه الليلة يتّسق مع روح شريعة الإسلام، اذ أن المسائل القطعية محدودة ومعدودة، في حين أن المسائل التي يبرز فيها الاجتهاد أكثر من أن تُعدّ وتُحصى. انه لم يُرَد لنا أن نتناول كل تفاصيل حياتنا مكتوبة جاهزة، لأن ذلك لا يُنشئ انسانا فاعلا في بناء الحضارة. انه لو كانت كل التفاصيل مكتوبة فستكون حياة الناس آلية، ستفقد روحها وربما معناها! انها رسالة للناس لئلا يبقوا يُردّدوا: “المكتوب ما منه مهروب”، ولكن ليأخذوا بالأسباب، ليعقِلوا وليفهموا أن الحياة تحتاج الى جدّ واجتهاد! انها رسالة للبحث عن الخالق، عن آياته، عن الحضارة، عن الثقافة وعن الحكمة! انها الرسالة التي تسعى الى تحفيز الانسان! انها تُعيد للإنسان ايمانه بقدراته، فخالقه يتوقّع منه نجاحا في التحدّي!
أما الرسالة الأخرى لإخفاء الليلة فتتلخّص في محدودية علم الانسان. انه رغم التقدّم العلمي ورغم التطوّر الحضاري، الا أن الانسان ما زال يقف عاجزا أمام آيات الله الكونية، كالزلازل والبراكين (هل يملك الانسان أن يمنعهما؟!)، وحتى الظواهر الايجابية كالشمس والرياح (هل يملك الانسان أن يُخفي ضوء الشمس أم هل يمكنه أن يُسكن الرياح؟!). كذلك الحال مع ليلة القدر وغيرها من الأمور التي لا تزال غير واضحة، فلا جهاز سحري يمكنه أن يُحدّد هذه الليلة الثمينة ولا مجموع العبقرية البشرية يستطيع فعل ذلك. انه في هذه الحالات يبرز العجز الانساني ومحدودية العلم. واذا جمعنا هذه الرسالة مع الرسالة السابقة، وجدنا أنهما يعكسان تركيبة هذا الانسان، فمن جهة هو قادر بإذن خالقه على بناء حضارة واختراع واكتشاف الكثير من الخبايا. ومن جهة أخرى، يبرز عجزه وقلة حيلته في حالات أخرى، ليعلم أن الله هو القادر وهو الفاعل الحقيقي ولئلا يغترّ بعلمه.
محمود صابر زيد