نتف من الذاكرة "التحوّل المديني"

كلّما تأمّلت حياة أبي ،أدركت هشاشة التحولات المدينية التي عاشها وخبرها . وأعني بذلك الانتقال من حياة فلاّحية – بدوية إلى الحياة في مدينة ، مع ما يترتّب عن ذلك من تغيّرات جذريّة في نمط المعيشة ،العادات والتقا ليد ، القيم الاجتماعيّة وحتّى طراز اللباس . وأزداد ادراكا أنّ هذه التحولات قطعت ، ولا تزال في مهدها ، شوّهت ، فأحدثت خللا في العقلية الاجتماعية وفي السلوكيات.

كانت ولادة والدي في العقد الأخير من القرن التاسع عشر ، في قرية صغيرة ( دوّار ) ، تقع في شرق الجزائر قريبا من الحدود التونسية وفي منطقة شبه معزولة ، تكثر فيها الجبال العالية والوديان العميقة ، وسط غابات حرجيّة كثيفة ، تقطنها الوحوش المفترسة ، وفي بيئة اجتماعية ، تعتمد في معيشتها على الزراعة الموسمية البدائية ورعاية المواشي . فامتازت حياة ناسها بشظف العيش وقساوته وبخشونة الطباع .

فكانت ولادته في مجتمع فلاّحي – بدوي متخلف ، شبه مغلق على ذاته ، محافظ وعصبوي ( حمائليا – قبليا ودينيا ) يقع في شرق الجزائر وقريبا من الحدود التونسية .

بلور هذاالمجتمع مفاهيم ، قيم الحياة وتقاليدها منذ الطفولة . وفي مثل هذا المجتمع من الطبيعي أن تتأصل قيم وتنغرز هذه عميقا في نفسيّة الطفل- الفتى. وفي السنوات الأخيرة من العقد الأوّل للقرن العشرين ، القرن الماضي ، أي قبل تسعين عاما تقريبا ، شهد والدي أوّل تحوّل مجتمعي ، تحول عنيف نسبيا ، في حياته . كان آنذاك في الخامسة عشر من عمره ، حين انتقل بصحبة أبيه وعائلته الى العيش في الشام ، مهاجرا . كانت الشام – دمشق ، يومها ، مدينة ادارية هامة وتاريخية عريقة . فوجد نفسه ، بفعل الهجرة ، في مجتمع جديد كليا ، مجتمع مديني ، وإن كان لا يزال عالقا فيه الكثير من العقليات شبه الفلاحية .

أحدثت الشام ، المدينة ، حالة من الانبهار في نفسية الفتى ، الذي لمّا تكتمل شخصيته الاجتماعية ، فكانت لا تزال في مرحلة التطوّر الاجتماعي . فالفتى عاش انتقالا مفاجئا من بيئة فلاحية- بدوية ومحافظة الى بيئة مدينية شبه متحررة اجتماعيا . وما إن بدأ الفتى يتأقلم مع هذا التحوّل الجديد المفاجىء وراح يكتسب قيما مدينية ، انتقل والده للعيش في قرية خربة الشياب ، أولا ، ومن ثمَّ في قرية حرستا الشام القريبتين من العاصمة وتعتمدان في معيشتمها على الزراعة البدائية ، وعلى العمل المضني في الزراعة . عاد الى السير اليومي في طرقا ت متربة ، صيفا ، وموحلة شتاءً . وعاد الى الانحباس في مجتمع قرويّ ومغلق .

كانت تلك أول نكسة اجتماعية خبرها . فعملية التحول المد يني ، التي عاش بداياتها في الشام توقّفت فجأة واضطر الى العيش مجدّدا في بيئة اجتماعية ، لا تختلف كثيرا عن البيئة التي ولد فيها .

وقدظهر ذلك جليا فيما حدّ ثني ، قا ل :

” حين نزلنا العفولة القرية العربية الصغيرة في مرج ابن عامر كنت ضيّق الحظيرة والعقلية ، شديد المحافظة الاجتماعية . لاحظتُ أنّ أهل القرية ، رجالا ونساء ، يسترقون النظر ، بتطفّل فلاّحي قروي ، الى حيث كنا نقيم : أبي وزوجته ، شقيقتاي العزباوتان ، زوجتي وأنا . أضحك الآن ، لحظة أتذكّر ذلك . ضايقني الأمر كثيرا في حينه فاقترحت على والدي أن نبني سورا حول البيت ، فلا يستطيع أحد رؤية ما فيه . وهوما كان ، أذكر ( قال ) أننا حوّلنا البيت الى شبه حظيرة لا يدخلها أحد غيرنا ، أبي وأنا . وكنا نتكفّل بشراء الحاجيّات ، ما يلزم البيت والعائلة ، وجلب الماء من النبعة ، طيلة ثلاث سنين ، عشناها في العفولة ، فلم ير نساءنا ، زوجة أبي ، زوجتي وشقيقتي ، لم يرهن أحدٌ طيلة هذه المدّة ” .

وفي العفولة ومن ثمّ في جسر المجامع تأصلت في أبي عادات ومفاهيم وقيم الحياة القروية والتي لم يبدأ التخلص منها إلاّ حين انتقل للعيش في مدينة حيفا في النصق الأول للعقد الثالث من القرن الماضي . لكن الرحيل القسري منها كان النكسة الأكبر في تحوله المجتمعي ، فعاد الى القرية وما فيها من عادات وقيم حتّى مات في القرية، كفرياسيف ، في صيف1976 وواريناه فيها التراب.وكم أحزنني موته، عاش قرابة سبعين عاما، بعيدا عن مدارج الطفولة والصبا ، في الدوار الصغير والجبلي في شرق الجزائر ، القريب من سوقهراس . ولا أزال أذكر لمعان دموع الفرح والألم في عينيه المتعبتين ، بفعل الشيخوخة والرحيل الدائم ، كلّماكان يتحدّث عن طفولته في ذلك الدوار وعن الأحراج المرتفعة ، شديدة الخضرة وكثيرة الثلوج في الشتاء ، وكلّما خاطبته ، مداعبا ، أيها الأوراسي . عاش وحلمه الحياتي موزّع الأحاسيس ، بين الرغبة القوية في العودة الى سمخ و بين الحلم ، الذي ظلّ حلما في العودة إلى وطنه الأول – الجزائر .