لُزوم انتِهاج رُؤية جمالية مُؤَنسَنة
تاريخ النشر: 03/04/12 | 7:03( إن شعرنا العربي بحاجة دائمة لتنقية نفسه .. بل هو بحاجة لأن يُصنَّف جمالياً .. أي أن يُصارَ إلى إعادة تصنيفه وتبويبه على أساس جمالي محض’.
الكلام للشاعر العراقي خزعل الماجدي، وهو أحد الشعراء الذين يجمعون بين النظر والممارسة الشعريين. ما يذهبُ إليه، هو ما كنتُ أكَّدْتُه في أكثر من عملٍ لي، بما فيها كتابي القادم ‘حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر’، وكنتُ ناديتُ بـضرورة ‘مراجعة الأصول’، ليس في ما هو معاصر، فقط، بل وفي ما مضى من شعر، باعتباره الأساس الذي منه تَسَرّبت كثير من ‘العادات’ الشعرية إلى النص الشعري المعاصر، وصارت، بالتالي، عائقاً في حدوث انفراجات في هذا الشِّعر، أو في وضع الشَّعر في سياقه الجمالي ) . من مقالة للأديب المَغرِبِي صلاح أبو سريف ، ظهرت في القدس العربي ونُشِرَت ، هذا الأسبوع ، نقلا عن القدس العربي في موقع ” ميس ” للثقافة العقلانية .
أشرت في أكثر من مرّة الى لزوم انتهاج فهم جمالي جديد عند الحكم على الموروث الأدبي العربي ، خاصة الشعر منه والأمثال . وأكدت وجوب الخروج على ما تعلّمناه في المدرسة أو الجامعة من فهم بلاغي ّ أو أدوات نقدية للمدارس الأدبيّة المختلفة ، التي أساءت كثيرا للأبداع الأدبي ، كما أظن . وقد ازدادت هذه القناعة في الآونة الأخيرة ، وأنا أحاول فهم أسباب العنف ، الذي نعيشه هنا ويعيشه أكثر من بلد عربي . فهذاالموروث ، الذي لم نضعه تحت مجهر نقدي مؤنسن ، أسهم كثيرا في الحفاظ ( على ) وتكريس عقلية” بدويّة ” فينا ، موروثة تجيز ما لا يجوز.
وقد عدتُ الى دروس البلاغة الأدبية ، التي كان يفترض بها أن تنمي فينا حِسّا ًجماليا ، يعيننا على كشف ما هو جميل في أدبنا ، القديم والحديث منه ، تذوّق ِما نقرأهُ والشعور بالمتعة الذهنية ، التي يفترض أن يثيرها النص المذكورفينا . فكان أكثرُ ما حَرِصَتْ عليه هذه الدروس هو ما أسميه أدوات نقدية ، كالاستعارة ، التورية ، الطباق ، الجناس ، التنافر ، الإستهلالات والمطالع ( إن كان النص شعرا ) وغير ذلك . لا أنكر ما لهذه الأدوات النقدية من أهميّة وضرورة ، لكن لا يجوز الوقوف عندها عند امتلاك أو انتهاج رؤية جمالية ناقدة ، مقارنة إن أمكن ومدقّقة . فهذه وغيرها تمثّل في نظري صورة عاكسة لتقنية الكتابة ولا تتناول فنية النص ذاته ولا تتناول جمالياته القِبَمِيَّة ( من قيمة ) ، ويفترض بهذه الجماليات ألاّ تتعارض والقيم الانسانية . وهو ، أي النص ، الأهم في نظري عند التقييم الأدبي . فيجب الاهتمام في كيف نكتب ، لكن الأهم هو ما نكتب .
وكم يُحسِنُ واحدنا، حين يتقن الجمع بينهما .
سأحاول أن أوضح ما أرى من خلال قصيدتين من موروثنا الأدبي للشاعر المعروف،أبي الطيِّب المتنبي ، أتطرّق اليهما تلميحا لتوضيح ما أعني ، ولمثل متداول في حياتنااليومية. لكن قبل ذلك أودُّ أن أشيرفي هذه المقالة القصيرة الى قصيدة أبي تمّام ” فتح عمورية ” . درستها ضمن المنهج الأدبي استعدادا لامتحان إجتياز الثانوية وعدت مرارا الى قراءتها وقد تقدم بي العمر والإدراك ، كما أظن . لا أخفي ، حين نضجت قليلا في الحقل المعرفي وخصوصا الأدبي ، أنني لم أستطع رؤية أيّة جمالية في القصيدة . يحقّ لكل شاعر أن يستوحي نصوصه ، صوره الشعرية،استعاراته وكلَّ ما يمليه خياله الشعري وتفاعلاته الحسّية ، من حيث وكيفما يرى ، لكنني لاأرى أنّ أيّا ممّا ذكرت ، النصوص – الصور والمضامين – الاستعارات والتشابيه ، لا أرى أنَّ أيا منها وحدها يمكن أن تثير في القارىء المدرك والواعي إمتاعا ذهنيا .
وما أرى ضرورة التنويه به هو أن الخيال الشعري ، مهما حلّق الانسان به ، لا يمكن أن يستمِدَّ وحيه ( ألنصّ وتجلّياته وما يعكسه من أحاسيس ) من مدينة تحترق ، أيّا كان ساكنوها ، ورؤية جمالية مفترضة في حريق آخذ بأجساد الناس ، بيوتهم وشوارعهم ، وامتداح العمل – الحرق – والفاعل الذي يختفي وراءه ، أيا كان .
فحين أقرأ بعض التشابيه المضمّنة في تلك القصيدة والمقارنة بين ” الربع الخرب والخدّ الترب “، لا ارى في تلك التشابيه ما يثير فيّ حسا جماليا ، فلا أرى في مدينة تحترق ، بغضّ النظر أين ، متى وأيّا كان اسمها ؟ لا أرى فيها أمرا موحيا ومغنيا للحسِّ ومؤشرا على الجمال الأدبي .
لا أجافي الحقيقة ، حين أقول ان” فتح عمورية “أملتها ” عقلية بدويّة ” ما زالت متأصلة فينا . وهذه العقلية ترى أن “السيف أصدق انباء من الكتب ” !
استوقفتني قصائد كثيرة مماثلة للمتنبّي ، أوحتها “العقليّة البدويّة ” ذاتها، لكنني سأكتفي بالاشارة الى أبيات شعرية في اثنتين منها .
تتشكّل القصيدة الأولى ، المضمّنة في ديوانه ، من بيتين ، كتبهما في صباه ، ويعكسان عقليّة لا نزال نعاني منها ، يقولان :
” لا تحسن الوفرة حتّى ترى منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة يعلّها من كل وافي السّبال “
الوفرة،كما جاء في التوضيح ، هي الشعرالمجتمع على الرأس والسّبال هي الشوارب ، شوارب الانسان .
ما عناه المتنبّي وما كان يراه منذ صباه ، أنّ شعر الرأس الجميل لا يظهر الاّ حين يذهب الفتى للقتال ويغسله ( يعلّه ، أي يسقيه ) بماء الشوارب – دمائها.
أمّا القصيدة الثا نية فقالها في مدح ” أبو العشائر ” ، أملا في الارتزاق ضمن اسباب اخرى ، وكان أبوالعشائر انطلق من دمشق الشام لمحاربة خصومه وانتصر عليهم . توقّفت كثيرا عند بيتين فيها :
” كأنَّ على الجماجم منه نارا وأيدي القوم أجنحة الفراش
كأنَّ جَوارِيَ المُهْجاتِ ماءٌ يعاودها المهنّد من عطاش “
فأية جماليّة يمكن أن نستوحيها من هذا الوصف والخيال ، الذي يتمثل القوة لا في أجنحة الفراش ، بل في النارالآخذة بالجماجم ويرى في دم الانسان ماءا يعاوده السيف – المهنّد – من عطش فيه ، عطش للدم .
صورة مهولة ومخيفة حقا .
أدرك ما عند المتنبي وأبي تمام من شعر قويٍّ وجميل ، لكن هذا لا يحول دون أن نعرض بعض شعرهما وشعر غيرهما للمناقشة والمراجعة ، للتقييم الجريء ، سلبا وإيجابا .
أمّا المثل ، فسأشير بايجازالى واحد متداول في حياتنا ، يقول :
” أنا وأخوي على ابن عمّي ، وكلانا وابن عمّي على الغريب “
خطورة هذا المثل تكمن في أنه ، من حيث نقصد أولا نقصد ، يحصر دائرتي الانسانية في حيّز، هو غاية في الضّيق، علاقتي فقط بأخي . وحين يتسع هذا الحيّز ، فلا يشمل الاّ ابن عمّي ، الذي تربطني به ،مصادفة مفروضة ، قرابة دم محدَّدة ، لا القرابة الانسانية الأعم والأوسع ، وأمّا ما عداه فهو الغريب . فالآخر هو الغريب ، الذي ننظر اليه بحذر وريبة وخوف وكثيرا ما ننزع عنه الصفة الانسانية ، فنحسبه شيطانا ، كما يقول مثل شعبي آخر متداول أيضا:
” ما من غريب غير الشيطان ” .
لا أدعو الى التنكّر لهذا الموروث الأدبي ، أواحداث قطيعة معه ، بل الى عرضه لمجهر النقد الانساني الحقيقي ، فما أتوخاه هو غربلة هذا الموروث وأنسنة النقد والتركيز على النص ، تناوله بجرأة أدبيّة والكشف ، بلا هوادة ، عمّا هو جميل فيه وما هو ليس بالجميل ، أي احداث قطيعة فعلية ، ثقافية وتربوية ، مع ” عقليّة ” تسكن هذا النص وبالتالي تسكننا وتنعكس فيه وفي سلوكياتنا.
عزيزي الاديب ابراهيم مالك المحترم..حياك الباري وجمل ايامك بالسعادة والعطاء
الكريم..لك جزيل الشكر والثناء على عطائك المتواصل في موقع بقجة..جزاك الله
كل التبريكات والخيرات..
العنف موجود بمجتمعنا بكل مكان..اسبابه كثيرة ومتعددة ..الادب والشعر المذكور
في المقالة..نظم قبل قرون عديدة..ووصفت به عادات وتقاليد خيمت على المجتمع..
لقد حاولت مجتهدا ان اتعمق باسباب العنف..درست واطلعت على مواد كثيرة..
وتوصلت الى نتيجة ان معظم المشاكل العنفية سببها التخلف الثقافي..قلة المطالعة
العامة ..وجدير بنا ان نحدث في هذا المجال نهضة عامة..نغرس حب الثقافة في
النفوس ونجعلها جزء من حياتنا اليومية..
قال احد الحكماء..اشعال شمعة خير من ان نلعن الظلام الف مرة..
استاذي الفاضل..عطائك المتواصل حزمة كبيرة من الشموع..
لك مني خالص الحب والتقدير..بوركت..حفظك الله ورعاك..
أستاذي الكريم المحامي جمال ، أتفق معك في كلِّ ما كتبته بهذا الخصوص . يؤلمني حقيقة أن أغلب ناسنا لا يقرأون ، مع أن أولَ ما نزل من وحيٍ على الرسول الكريم كان حثاً واضحا على القراءة : إقرأ … والقراءة في نظري شرط تطوير الكتابة وشرط المعرفة وشرط الرقي والتقدم وما أجملنا لو أننا نقرأ لنعرف ونحسن التفكير والحوار ، لا للتسلية . ما أردتُ قوله هو ما سبق وأشار إليه بجُرْأة شقيقك – شقيقي الدكتور محمود أبو فنة إلى خطورة بعض الأمثال في تربية وسلوكيات الكثيرين من ناسنا وهذه التربية البيتية والمدرسية والمجتمعية هي السبب في انتشار العنف أو الحدِّ من انتشاره . وشكرا لك ابراهيم مالك .