فناجين السعادة

تاريخ النشر: 05/04/12 | 7:18

لا تزال ذاكرتي تختزن مشهداً من أيام الشباب. صديق لي يمسك قطعة من الشوكولاتة، ويقول: هل تذوقت هذا النوع من قبل؟ فأجيبه نافياً، ليقول: لقد فاتك نصف عمرك، ثم نضحك سوياً، وبعدها يسألني مجدداً: وهل تذوقت ذاك النوع الآخر؟ فأجيبه نافياً أيضاً، لينفجر ضاحكاً وهو يقول: إذاً فاتك النصف الثاني من عمرك كذلك!

طبعاً، لا زلت أذكر تماماً تلك الشوكولاتة، فلم أكن لأنساها وهي التي فاتني كل عمري لأني لم أتذوقها على حد زعم صديقي العزيز، ولكنني لن أكشفها هنا حتى لا أتهم بالترويج لها، وسأقص عليكم عوضا عن ذلك قصة إدارية معروفة، وإن كان بصياغتي الخاصة، وسأربطها بالموضوع لاحقا.

وقف بروفيسور أمام طلبته في الجامعة، وهو يحمل بيده قارورة زجاجية كبيرة فارغة. ثم أخذ يضع فيها كرات جولف حتى حافتها، ثم سأل طلبته: هل امتلأت؟ فأجابوه بنعم، فقام وأخذ كيسا من البلى الزجاجية الصغيرة وراح يضيفها للقارورة التي كانت قد امتلأت مسبقا بكرات الجولف، فأخذت البلى الزجاجية تتخلل المسافات وتدخل ما بين كرات الجولف، إلى أن بلغت أعلى القارورة. فالتفت للطلبة وسألهم: هل امتلأت؟ فأجابوه بنعم مرة ثانية.

فقام مرة أخرى بأخذ كيس مليء بالتراب وصار يضيفه للقارورة، فأخذ ينساب في الشقوق الصغيرة حتى وصل إلى أعلى القارورة، والتفت إلى طلبته مرة أخرى وسألهم، هل امتلأت الآن؟ فأجابوه نعم، فقام وأخذ كوبا من القهوة كان إلى جانبه، وصبه فوق الخليط في ذات القارورة!

وهنا التفت إلى طلبته قائلا: هذه القارورة تمثل حياة كل واحد منا، وكرات الجولف هي الأشياء الكبيرة والمهمة في حياة الإنسان، مثل دينه وأخلاقياته وعائلته وصحته وأصدقائه واهتماماته الكبرى، أي تلك الأشياء التي لو فقد كل شيء عداها، ستظل حياته مليئة.

وأما البلى الزجاجية الصغيرة، فهي تلك الأشياء الروتينية والممتلكات المادية في حياة الإنسان، مثل مشاغله النمطية وهيئة وحجم ومقادير الماديات التي يمتلكها وغير ذلك مما شابه، وهي الأمور التي لن تتعطل حياته ولن تهتز أساساتها لو هو تخلى عن شيء منها أو استبدله بغيره لسبب من الأسباب، وأما الرمل فهو بقية الأشياء الصغيرة والهامشية في حياة كل إنسان.

ثم أضاف، لو كنت ملأت القارورة بالتراب أولاً، ما كان سيبقى مكان لأي شيء آخر، وهذا ما يجري تماما في الحياة إن نحن ملأناها بالانشغال بالأشياء الصغيرة والهامشية والتافهة، فحينها لن يبقى هناك مكان للأشياء الكبيرة المهمة، وهي الأجدر بالرعاية والاهتمام حتماً.

ولهذا فعلى الإنسان أن يرتب أولويات حياته على هذا الأساس، من الأهم نزولاً للمهم وانتهاء بالأقل أهمية، وعندما تتزاحم الأمور عليه في حياته، فعليه أن يتذكر هذا دائماً، ويراجع نفسه ويعيد ترتيب الأولويات، حتى لا تهتز بوصلته فيفقد المسير في الاتجاه الصحيح، ولربما توقف تماماً.

وهنا رفع أحد الطلبة يده سائلًا، وما المقصود من إضافتك لكوب القهوة، فضحك البروفيسور وهو يجيب: أنا سعيد لأنك سألت. المقصود هو أنه مهما كانت حياة الإنسان تبدو مزدحمة ومليئة بالأشياء كبيرها وصغيرها، فعليه أن يتذكر أن هناك دائماً متسعاً من الوقت والمساحة للتمتع بفنجان طيب من القهوة!

قصة معبرة وبها الكثير من الرسائل ولا شك، ولكن فنجان قهوة البروفيسور وقطعة شوكولاتة صديقي، في بداية المقال، هما مرادي هذه المرة، وأعني بذلك تلك الأشياء الجميلة الصغيرة في حياة الإنسان. تلك المتع الصغيرة التي تحيط بنا، والتي في الحقيقة لا تكلفنا الكثير، وغالباً ما نسهو عنها ونؤجلها ونحن في جرينا المتواصل للحصول على تلك الأشياء والنجاحات التي نرى أنها ستحقق لنا السعادة الكبرى والاستقرار الأعمق.

هذه الأشياء الصغيرة والمتع البسيطة هي بمثابة الاستراحات وجرعات الطاقة السريعة التي يحتاجها كل واحد منا، حتى يستطيع مواصلة المسير في زخم حياته، نحو تحقيق أهدافه الكبيرة، وهي التي دونها ستصبح الحياة جامدة وثقيلة ومملة.

منذ سنوات، وذات مساء، كنت ألقي محاضرة وما خرجت منها إلا متأخرا جدا، وعند باب سيارتي، وقد كان الإنهاك قد نال مني ما ناله ليلتها، انتبهت لمجموعة من الشباب، ومن هم أكبر منهم، وقد تجمعوا على مقربة في إحدى الساحات، وكانوا يتسابقون بتلك السيارات الصغيرة التي يحركونها «بالريموت كونترول». أذكر ليلتها أني سخرت في قرارة نفسي منهم، وهم يضيعون وقتهم في «ما لا نفع من وراءه»، في حين أن «غيرهم» ينشغل بالأشياء المهمة من «محاضرات» وما شابه.

لكنني بعدها بزمن، وبعدما تعلمت أكثر، عرفت كم كنت مخطئاً، وفهمت أنهم، لم يكونوا يضيعون وقتهم في الحقيقة، وأن تلك الهواية التي كانوا يمارسونها بكل ذلك الشغف والاستمتاع، قد تكون هي استراحتهم من مشاغل الدنيا وهموم الحياة، وهي اللحظات التي يعيدون من خلالها شحن بطارياتهم لمواجهة الأعباء مجددا.

ومنذ ذلك اليوم أدركت وبعمق أهمية أن يكون للإنسان في حياته هواية مسلية، ولن أقول نافعة فالنفع أمر نسبي يترك لكل شخص ليقرره بنفسه، وإنما هواية يقضي فيها وقتا سعيدا ليستعيد نشاطه ويجدد حيويته.

نصيحتي في الختام يا سادتي، هي ألا تنسوا أبدا هذه الأشياء الصغيرة وألا تفرطوا بهذه المتع البسيطة غير المكلفة لأنها النسائم الجميلة التي ستمكنكم من الاستمرار، ولكن إياكم والإفراط، فالكثير من القهوة سيملأ القارورة، ولن يكون هناك متسع لشيء آخر.

ساجد بن متعب العبدلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة