فليعبدوا رب هذا البيت
تاريخ النشر: 11/08/14 | 9:30إن لكل عبادة في الإسلام ما يميزها عن غيرها من العبادات، وهذه الميزات الشعائرية لها آثار عظيمة في تحقيق المقصد الكلي لتشريع العبادات.
فالملحوظ في الصلاة مثلا توافر معاني الخضوع والتذلل المتمثلة في الركوع والسجود والقيام والجلوس…، وما يتخلل ذلك من التكبير والتسبيح والتحميد إلخ…، مما يعين المصلي على ذكر الله تعالى والقنوت له، قال تعالى وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- ((وقوله:{لِذِكْرِي} اللام للتعليل أي: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي، لأن ذكره تعالى أجل المقاصد، وهو عبودية القلب)).
ومثل الصلاة في ذلك الصوم، وهو تلك العبادة التي تتمحور حول معاني الإمساك والامتناع والتجرد، حيث يدع المسلم طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله تعالى، ولا يطلع على حقيقتها إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى، قال تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ((الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)).
وكذلك الزكاة وهي شعيرة اجتماعية وآلية شرعية للاقتسام الطوعي للثروة بين أبناء الأمة الإسلامية، أو كما في التعبير النبوي الجامع المانع: ((صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)).
وتأتي شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام و هي الركن الخامس من أركان الإسلام مشتملة على هذه اللطيفة الشرعية، وهي اشتمالها على ميزات وخصائص تميزها عن غيرها من الشعائر، واجتماع تلك الميزات والخصائص لتحقيق المقصد الكلي لتشريع الحج.
إذا تأملنا في مناسك الحج وجدنا كلها أو جلها مشاعر رمزية ملموسة، تتمثل في لباس خاص يلبسه الحاج (الإحرام)، و بيت ذي أربعة جدران يطوف حوله (الكعبة المشرفة)، وجبلين يتردد بينهما سعيا وركضا (الصفا والمروة)، و بقاع من الأرض ينحبس فيها الحاج مددا معلومة لا يتجاوز حدودها، ونحر و رمي وحلق وتقصير وهلم جرا…
يا ترى هل هذه الأعمال مقصودة في حد ذاتها، حيث يكون يجب أن يتوجه الحاج بنيته وقصده إلى تلك الأماكن وتلك الأعمال فقط، أم أن من ورائها مقصد أسنى وغاية أعلى؟
إن من يدرك حقيقة الدين الإسلامي ويعرف رسالته في الحياة، وفضله على جميع الأديان والملل ليعرف تماما أن هذه الأعمال التي يقوم بها الحاج ليست مقصودة في حد ذاتها، وإنما هي شعائر وأمارات تدل على تعظيم المسلم الحاج لبيت الله تعالى لربه عز وجل ومحبته وامتثاله لأوامره سبحانه وتعالى، وهذا ما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وحال السلف الصالح من أئمة الإسلام رحمهم الله ورضي عنهم.
أما من القرآن الكريم فمنه:
قوله تعالى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ((قال ابن زيد، في قوله: {ومن يعظم شعائر الله} قال: الشعائر: الجمار، والصفا والمروة من شعائر الله، والمشعر الحرام والمزدلفة , قال: والشعائر تدخل في الحرم، هي شعائر، وهي حرم))، وقال بن جرير رحمه الله ((إن الله تعالى ذكره أخبر أن تعظيم شعائره، وهي ما جعله أعلاما لخلقه فيما تعبدهم به من مناسك حجهم، من الأماكن التي أمرهم بأداء ما افترض عليهم منها عندها , والأعمال التي ألزمهم عملها في حجهم: من تقوى قلوبهم , لم يخصص من ذلك شيئا، فتعظيم كل ذلك من تقوى القلوب، كما قال جل ثناؤه , وحق على عباده المؤمنين به تعظيم جميع ذلك)).
قوله تعالى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}، قال الشيخ الطاهر بن عاشور – رحمه الله – ((والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نصح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمروة، قال الحسن: كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قربانا لله تعالى: يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج، وفي قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} إيماء إلى أن إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا ينفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنحر أو الذبح، وأن المقصد من شرعها انتفاع الناس المهدين وغيرهم)).
وقوله تعالى {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}، فالعبادة تكون لرب البيت سبحانه وتعالى، وليس للبيت، وهو أعظم شعائر الله المتعلقة بالحج، ولا تكون العبادة أيضا لغير البيت من الشعائر الأخرى.
ومن السنة النبوية المطهرة:
عن عائشة قالت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله))، قال الشيخ بن جبرين رحمه الله ((أي أنها كلها تذكّر بالله، وتبعث على ذكر الله سبحانه وتعالى، فالذين يطوفون في حالة طوافهم يذكرون الله، والذين يسعون في حالة سعيهم يذكرون الله، ولا يذكرون غيره، ولا يبغون سواه، ولا يضَّرَّعون إلى غيره، ولا شك أن ذلك كله يؤكد أن هذه المشاعر أو هذه المناسك شرعت لإقامة ذكر الله، ولتجديد عبادة الله سبحانه وتعالى، ولترسيخ أصل العبادة في القلب)).
و ((عن جابر: قال أفاض رسول الله صلى الله عليه و سلم وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة، وأوضع في وادي محسر وأمرهم أن يرموا الجمار مثل حصى الخذف، وقال خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا))، فكل ما يفعله الحاج اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أمر الله به ورضيه وشرعه لعباده، وليس فيه شيء من العبادة لغير الله تعالى أو بالتعلق بالمخلوقين من حجر أو شجر أو بشر.
ومن حال السلف الصالح:
كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح رضي الله عنهم يدركون تمام الإدراك معاني العبودية التي في الحج، وكان قلوبهم مليئة بالإيمان العميق بالله تعالى، سليمة من كل أرجاس الوثنية والإلحاد، وقد دل على ذلك حالهم وهديهم في أداء نسك الحج والعمرة وتعاملهم مع المشاعر، ف ((عن الأعمش، عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر، رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)).
و ((عن أبي الطفيل قال: حج بن عباس ومعاوية فجعل بن عباس يستلم الأركان كلها فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه و سلم هذين الركنين اليمانيين فقال بن عباس ليس من أركانه مهجور)).
ولذلك فالحج عبادة لله تعالى، ومعلم للتوحيد، وحرب على الشرك والخرافة بكل ألوانها، وعلى كل مسلم يقصد بيت الله الحرام بحج أو عمرة أن يستحضر هذه المعاني، ويراعي روح الشريعة ومقاصدها في هذه العبادة الجليلة، ويجرد قصده عن كل ما سوى الله مع أول إهلاله (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).