اللغة في الخطاب الروائي- يحيى يخلف نموذجا
تاريخ النشر: 11/08/14 | 9:21مقدمة
تعد سيرة حياة الروائي والقاص يحيى يخلف نموذجا لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين شُردوا إبان النكبة سنة 1948. فقد كانت ولادته في قرية سمخ جنوب بحيرة طبريا سنة 1944، ولما هُجّر منها بدأ مشوار الترحال من قـُطر لقطر، ومن مدينة لأخرى. كان الأردن محطته الأولى، إذ استقر به المقام في مدينة إربد، وهناك أتم دراسته الابتدائية فالثانوية سنة 1963. ثم التحق بدار المعلمين، بمدينة رام الله، وتخرج منها سنة 1967. أما هجرته الثانية فكانت سنة 1967 حيث ترك فلسطين إلى المنافي، وتمكن من دخول جامعة بيروت العربية سنة 1968 لينهي دراسته هناك حاملا شهادة الليسانس في الأدب العربي سنة 1971. أما هجرته الثالثة فكانت سنة 1982، إذ اضطر نتيجة حصار بيروت أن يتنقل مع زوجته وأولاده ما بين بيروت، دمشق، الجزائر وتونس. ثم كانت العودة إلى فلسطين سنة 1994 حيث استقر في مدينة رام الله وشغل منصب وزير الثقافة ما بين الأعوام 2003-2006. ويشغل اليوم منصب رئيس المجلس الأعلى للتربية والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية.
استهل يخلف حياته الأدبية ككاتب قصة قصيرة في مجلة الأفق الجديد المقدسية حيث نشر عشرات القصص. أصدر مجموعتين قصصيتين وهما: المهرة (1974)، ونورما ورجل الثلج (1977)، وله قصة بعنوان تلك المرأة الوردة (1980)، وساق القصب (1980) وهي قصة للأطفال.
عمل يخلف بالسياسة منذ سن مبكرة، متأثرا بالجو العام الذي تمر به القضية الفلسطينية وبما يعصف بالعالم العربي من أحداث. وقد تسنى له أن يتنقل ما بين عدد كبير من الأقطار العربية وبعض الدول الأجنبية، وكان لذلك انعكاسه في إبداعه منذ روايته الأولى نجران تحت الصفر (1975) التي استوحى أحداثها من الحرب الأهلية في اليمن التي شهد جزءا منها أثناء مكوثه هناك. ثم توالت إصداراته الروائية فنشر تفاح المجانين(1982)، نشيد الحياة (1985)، بحيرة وراء الريح (1991)، تلك الليلة الطويلة (1992) وهي رواية تسجيلية، ثم نهر يستحم في البحيرة (1997)، ماء السماء (2008) وجنة ونار (2011) التي لاقت أصداء طيبة منذ إصدارها.كما أصدر كتاب يوميات الاجتياح والصمود (2002) الذي لا يعتبره صاحبه رواية، “بل شهادة ميدانية، […] لكن يوجد بداخلها مجموعة من القصص والسرد والحكايا الإنسانية”.
إن معظم إبداع يحيى يخلف يدور في فلك القضية الفلسطينية منذ النكبة، مرورا بهزيمة حزيران، فحرب لبنان وحصار بيروت حتى الانتفاضة الأخيرة. وهو أحد الكتاب الفلسطينيين الذي تمكن من استقطاب عدد لا بأس به من النقاد والدارسين، فضلا عن مشاركته الفعالة في الندوات واللقاءات الأدبية في العديد من مدن وقرى فلسطين والعالم العربي ككل.
*تمهيد*
تتناول هذه الدراسة لغة يحيى يخلف الروائية من خلال معاينة روايتيه نجران تحت الصفر، وبحيرة وراء الريح. لم يكن اختيارنا عفويا فاللغة عامل هام في بناء الرواية، ولم ينل، عندنا، من الدراسة حتى الآن ما يكفي، ثم قصدت أن أقيم مقارنة بين هاتين الروايتين لنرى مدى تجاوب اللغة مع اختلاف الزمان والمكان والشخصيات. قمت بتقسيم الدراسة إلى جزئين رئيسيين، يتناول الأول عنصر اللغة من وجهة نظر المنظِّرين والدارسين، أما الثاني فيتناول لغة يخلف الروائية في مستوياتها المتعددة.
تتوالى في الآونة الأخيرة الدراسات العربية التي تتناول الفضاء الروائي والمكان الروائي، وهي دراسات مباركة لأنا، أخيرا، بتنا نعي الجانب التقني الذي يخص الرواية وفنيتها، بعد أن تمحورت الدراسات في الفحوى والمضمون، بمعزل عن المركبات والعناصر الروائية والشاعرية. ومع ذلك، ما زلنا في أمس الحاجة للمتابعة في إصدار الدراسات التي تتناول الجوانب الشاعرية والعناصر الروائية مجتمعة، أو منفردة. فاللغة هي الآلة التي تخلق النص الأدبي وبدونها فلا وجود له. ولهذا فإنا نحاول أن نسد ثغرة بسيطة في هذا الجانب، من خلال هذه الدراسة.
*دور اللغة في الخطاب الأدبي*
يعتبر الباحثون المنظِّر السويسري فرديناند دي سوسير (1857-1913) مؤسسا لعلم اللغة الحديث، منذ أن وضع الحدود بين اللسان واللغة والكلام. ثم جاء عديدون من بعده وطوروا هذا العلم ليصبح مجموعة من العلوم والنظريات. المهم في هذه الأبحاث أنها أعطت أهمية كبيرة لدور اللغة في مجال المنطوق والمكتوب، وفي مجال التنظير الأدبي.ولقد كان لتطور الرواية الحديثة في الغرب الدور الفاعل في تطور دراسة المستويات اللغوية في الرواية الحديثة.
إن المتتبع لأهم دارسي الرواية الانجليزية الحديثة ونقادها، منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، مثل بيرسيلوبوك (1865-1965)، ا.م فورستر (1879-1970) وادوين موير (1887-1959) يلاحظ أنهم لم يفردوا بابا خاصا باللغة في مؤلفاتهم التنظيرية، لكن أوستن وارن ورينيه ويليك في كتابهما المعروف نظرية الرواية(1916) فقد تطرقا في الفصل الذي يتناول “طبيعة الأدب” إلى إشكالية اللغة وخصوصيتها الأدبية وميزا بين لغة الأدب ولغة العلم، ووجدا أن لغة الأدب بعيدة عن التقريرية، وأنها تحمل نبرة المتحدث بها، ولقد انتبها إلى قضية ذات أهمية قصوى في حينه، وهي أن لغة الأدب ذات رسالة تهدف إلى التأثير في القارئ وتغيير موقفه.
إن اللغة هي الحامل لأفكار الروائي ومضامين كتابته، وهي أشبه بالريشة التي يستعملها الرسام، وبالنوتة التي يستعملها الموسيقي. وهي، في الرواية، الوعاء الذي يحمل جميع العناصر الروائية كالمكان والزمان والشخصيات والسرد والحوار والوصف. ولقد ألمحنا أعلاه إلى أن دراسة اللغة قد تم إغفالها في الوقت الذي انصبت جهود الباحثين والدارسين في العناصر الروائية الأخرى، بل لقد تم التعامل معها، في فترة معينة، بالمعايير نفسها التي تنطبق على الشعر كدراسة المحسِّنات اللفظية والمعنوية والبلاغية والصور الشعرية وغيرها.
إن الاهتمام باللغة ينبع، كما ألمحنا أعلاه، من كونها الأداة التي يعبر بها الكاتب عن أفكاره كوسيلة تميز الأدب عن بقية الفنون، إذ عليه أن يوظفها أجمل توظيف ليبتكر من خلالها عوالم جديدة. فمهمة الكاتب أن يحرفها عن مسارها التقليدي ليخلق منها عالما لغويا مغايرا عن لغة الحياة اليومية وعن لغة المعاجم. فللشعر لغته وللرواية لغتها، مما يعني أن هناك اعترافا بخصوصية الأجناس الأدبية، كما يرى الباحث فيصل دراج.
لقد دعا الباحث الفرنسي رولان بارت (1915-1980) إلى “وحدة الهوية بين اللغة والأدب […] ذلك، لأنه لم يعد من الممكن تصور الأدب فنا يهمل العلاقة باللغة من كل جهة، خاصة بعد أن يكون قد استخدمها استخدام الأدوات في التعبير عن الفكرة، والانفعال أو الجمال”. فالأدب، في رأي الباحث ساسون سوميخ، “فن لغوي، وإعراض النقاد عن معالجة لغة النص الأدبي يعني إهمال المادة الأولية التي يقوم عليها هذا الفن، وبالتالي فإن تفهم الأثر الأدبي، معنى ومبنى، يظل جزئيا وناقصا”. فقد تكون اللغة أهم ما تنهض عليها الرواية، كما يرى عبد الملك مرتاض، فالشخصية تستعمل اللغة، أو توصف بها، أو تصف هي بها، مثلها مثل المكان والزمان والحدث، فلا وجود لهذه العناصر بدونها.
لقد توصل الباحثون إلى موضوع هام جدا يتعلق ببحث المستويات اللغوية داخل العمل السردي، ووجد البعض أنه يتوجب على الكاتب أن يراعي في رواياته جميع مستويات شخصياته الروائية الثقافية، الاجتماعية والفكرية. ويذهب ميخائيل باختين (1895-1975) إلى ما هو أبعد فيرى أن”الرواية، ككل، ظاهرة متعددة الأسلوب واللسان والصوت، ويعثر المحلل فيها على بعض الوحدات الأسلوبية اللامتجانسة التي توجد، أحيانا، على مستويات لسانية مختلفة”.
*الرواية الحديثة واختراق المألوف*
لقد كان من الطبيعي أن تثار مسألة لغة الأدب إبان عصر النهضة العربية، فكانت المسيرة مضنية وشاقة في شتى الأنواع الأدبية. فقد عانى بعض الشعراء المجددين مما لاقوه من تعنُّت وتزمُّت إزاء “الانفلات”من قيود “عمود الشعر” ليس في مجال الوزن فحسب، بل في مجال اللغة أيضا، وكان من الطبيعي أن تثار هذه القضية في مجال المسرح، وبالذات حول لغة الحوار المسرحي منذ عقود، وما زالت تطرح حتى اليوم بين الفينة والأخرى.
ولما بدأت الرواية الحديثة تشق طريقها نحو اللغة العربية، بدءا من مرحلة الترجمة والتمصير والتعريب والتقليد، أثيرت مسألة اللغة، أيضا، من جميع النواحي، وكان على الروائيين أن يتحدَّوا ما كان مألوفا منذ مئات السنين. فقد نظر البعض إلى اللغة الفصحى الكلاسيكية بنوع من التقديس بحيث لا يجوز لأحد المس بها. فضلا عن ذلك فقد تصدى البعض لهذا الجانرالأدبي “الدخيل” موجهين هجومهم الكاسح نحو “أخلاقيات” الرواية التي تطرح مواضيع غير مألوفة في المجتمع العربي، برأي هؤلاء. وكلنا يعلم قضية “تخفي” مؤلف رواية زينب (1913) الدكتور محمد حسين هيكل (1988-1956) وراء “مصري فلاح”، وعنونتها “مناظر وأخلاق ريفية”، وذلك لأسباب عدة منها مسألة اللغة التي اعتمدها المؤلف في روايته.
لقد نادى البعض، في حينه، إلى ضرورة التمسك باللغة العربية الكلاسيكية، وربما كان هذا هو الباعث وراء كتابة حديث عيسى بن هشام (1907) لمؤلفه محمد إبراهيم المويلحي (1958-1930)، على منوال بديع الزمان الهمذاني. ثم قام آخرون معبرين عن رأي آخر مناقض تماما، وذلك في مسألة مستويات اللغة الأدبية سواء كانت في السرد أو في الحوار. واعتبر هؤلاء أنه من الصعوبة بمكان الالتزام باللغة التراثية القديمة وأساليب الكتابة القديمة لأن من شأنها، برأيهم، أن تمس بالمستوى الفكري والاجتماعي للشخصيات، كما سنرى لاحقا.
ولقد جاء التغيير أخيرا على يد الروائيين العرب أنفسهم بعد أن خاضوا عملية الكتابة الروائية الفعلية في القرن العشرين، وبعد تكثيف الإنتاج، بدايةً في مصر وفي بلاد الشام، ومن ثم في شتى أقطار الوطن العربي، وتمكنوا من “اختراق” وتعدي ما كان مألوفا منذ قرون. عمد هؤلاء إلى اللغة العربية الفصحى الحديثة، أو اللغة القريبة من العامة لأن رواياتهم تستمد أحداثها من واقع الحياة، لا من التاريخ فقط، كما كان عليه الأمر عند نشأة الرواية العربية الحديثة. وتوصل الروائيون إلى أن اللغة الفصحى، في مستوياتها المختلفة، هي لغة القص ولغة الوصف، وهي اللغة التي يفهمها كل مواطن عربي حيثما تواجد.
إن أسلوب الرواية، حسب باختين، “هو تجميع لأساليب. ولغة الرواية هي نسق من اللغات، […] وهي التنوع الاجتماعي للغات، وأحيانا للغات والأصوات الفردية، تنوعا منظما أدبيا. وتقضي المسلَّمات الضرورية بأن تنقسم اللغة القومية إلى لهجات اجتماعية، وتلفظ متصنع عند جماعة ما، ورطانات مهنية، ولغات للأجناس التعبيرية، وطرائق كلام بحسب الأجيال والأعمار، والمدارس والسلطات، والنوادي والموضات العابرة، وإلى لغات للأيام (بل للساعات) الاجتماعية والسياسية (كل يوم له شعاره، وقاموسه ونبراته)”. ويرى جان موكاروفسكي أحد ممثلي البنيوية التشيكوسلوفاكية، أنه من الممكن تقسيم لغة مجتمع معين في لحظة تاريخية معينة إلى لغات جماعية وإقليمية متعددة.
حين نقرأ تنظيرات باختين في مجال تعدد اللغات واللهجات يخيل إلينا وكأنه يتحدث عن خصوصيات اللغة العربية، وعن فوارق اللهجات بين قُطر وقُطر، وبين مدينة عربية وأخرى، بل بين حارة وأخرى داخل المدينة أو القرية الواحدة، وعن الفرق الشاسع بين اللغة المكتوبة وبين المحكية في العالم العربي.من هنا يجدر بنا أن نتساءل: هل كُتاب الرواية العربية يدركون هذه الإشكاليات وهذا التنوع الأسلوبي والكلامي؟ وهل يقومون بتطبيق ذلك أثناء الكتابة والتأليف؟
يرى الباحث شكري عزيز الماضي “أنه لا بد للروائي من دراسة اللغة وطاقات الألفاظ والجمل والصور وقدرات الخيال على الابتكار وإيجاد العلاقات الجديدة بين مفردات الواقع التي توجد بينها هذه العلاقات من قبل أن يوجدها الفنان […] ولهذا تتصف لغة الرواية رغم بساطتها الظاهرية – كما ترى – بقدرتها على أن تصف وتصور وتحدد وتوحي وتومئ وتؤثر وتقنع، فهي لغة تصويرية بالدرجة الأولى”. أما محمد برادة فيرى أن ليس لدى جميع الروائيين العرب معرفة ووعي بمسألة التعدد اللغوي وامتداداتها الفنية، إلا أن ذلك لا ينفي إمكانية إنتاج نصوص متوفرة على التعدد اللغوي بطريقة أو بأخرى، وهي موجودة منذ بدايات القرن العشرين. ونحن نؤكد أن الروائي الذي لا يعي دور اللغة ولا يعمل على توظيفها بما يتلاءم مع الفضاء الروائي والشخصيات فسيظل مقصرا عن الوصول إلى القارئ، خاصة المتمرس، أو السوبر كما يسميه ريفاتير. شأنه شأن الرسام والنحات، والموسيقي، فلكل أدواته وعليه أن يجيد استعمالها، واللغة، كما قلنا، هي أداة الروائي.
بالرغم من “الهجوم” الكاسح الذي تعرضت له الرواية العربية الحديثة في بداية مشوارها إلا أننا نشهد كيف أن محمد حسين هيكل قد تجرأ على إقحام الحوار العامي في روايته زينب التي يعتبرها الدارسون والباحثون الرواية العربية الفنية الأولى. كما يستطيع الدارس أن يميز مستويات اللغة الاجتماعية التي تراعي المستوى الفكري لبعض شخصيات هذه الرواية.
إننا لا نأتي بجديد حين نقول إن اللغة كائن حي يتغير حسب الزمان والمكان، فاللغات الأوروبية، كما يرى الباحثون، قد تقلبت وتبدلت من عصر لعصر، فلغة شكسبير في أشعاره وفي مسرحياته ليست لغة القرن العشرين أو الواحد والعشرين. كذلك الأمر بالنسبة للغة العربية فقد مرت بما مرت به جميع اللغات الحية، فلغة الشعر الجاهلي ليست لغة العصر العباسي، ولغة العصر العباسي، في مفرداتها وأسلوبها، ليست لغة عصر النهضة.لقد شهدت اللغة العربية، هي الأخرى، كغيرها من اللغات، صراعات طويلة ومضنية، وربما أصعب بكثير من تلك التي خاضتها اللغات الأخرى، وخرجت من كل صراع، سواء في الشعر، أو في المسرح، أو في الرواية بصورة جديدة وبإنجاز حداثي يتناسب مع العصر ومع الجانر الأدبي.
وعليه يطرح السؤال هل وُفق الكاتب الفلسطيني يحيى يخلف في ترويض خطابه الروائي بحيث يتماشى مع شخوص رواياته ومع البيئة المحيطة بشخوص رواياته في السرد والحوار؟ وما هي الوسائل الفنية والتقنية التي وظفها؟ وما مدى نجاحه في ذلك؟
******
لغة خطاب يحيى يخلف الروائية
لم يقع اختيارنا على هاتين الروايتين اعتباطيا أو عفويا، فلقد اخترنا نجران تحت الصفر لأنها رواية يخلف الأولى التي كتبت سنة 1975، وهي، كما ذكرنا، تصور البيئة اليمنية إبان الثورة في سنوات الستين، وتتناول الحرب الأهلية التي نشبت بين مؤيدي الإمام ومؤيدي النظام الجمهوري حينذاك. كما اخترنا رواية بحيرة وراء الريح لأنها تصور بيئة فلسطينية مغايرة عن تلك التي تصورها رواية نجران تحت الصفر.إذ صدرت سنة 1991، وهي تصور الوضع الفلسطيني إبان النكبة وحيثياتها.
يتخذ يحيى يخلف، شأنه شأن جميع الروائيين العرب، اللغة العربية الفصحى “الحديثة” وسيلة لسرد الأحداث في مجمل رواياته، وهي لغة شديدة الصلة بالبيئة وبالمحيط الذي تدور فيه الأحداث. نعود ونؤكد أنه لا يجوز لنا الحديث عن اللغة بمعزل عن الإطار الزمكاني، وبمنأى عن شخصيات الرواية، لأن هذه العناصر كلها وثيقة الصلة ببعضها البعض. ولقد رأينا أن الكاتب قد وظف لغة السرد التصويرية القادرة على نقل البيئة النجرانية خاصة، واليمنية عامة، بحيث نتجرأ على القول: إن لغة الرواية في نجران تحت الصفرهي لغة “يمنية نجرانية” في معظمها، إن جاز لنا التعبير، وهي “لغة فلسطينية” في روايته بحيرة وراء الريح، بل في مجمل رواياته ذات البيئة الفلسطينية.
تمكن الكاتب يحيى يخلف، منذ الصفحة الأولى من رواية نجران تحت الصفر، أن يقنع المتلقي بصدق الوصف والتصوير، وكأن عملية إعدام أو ذبح اليامي في مطلع الرواية لا يجوز أن توصف وتصور إلا بهذه اللغة، وبهذا الأسلوب الدال والإيحائي. فهي لغة مطعَّمة بنكهة الأجواء اليمنية من شراب شعبي ونباتات وحبوب وتوابل و”قات”. وهي لغة ذات إيحاء دال على الأجواء المحتقنة، وما ستؤول إليه الأمور فيما بعد من انفلات وانقلاب وثورة وحرب أهلية، كما يتبين لنا من افتتاحية الرواية:
“أقبل المطوعون، وطلبة المعهد الديني، وأعضاء جمعية الأمر بالمعروف، وحرس الأمير، والخويان، وباعة المقلقل، وسيارات الونيت، وعدد من مرتزقة (بوطالب)، وواحد من الزيود. أقبل الغامدي شيخ مشايخ التجار، وسمية عبدة السديري سابقا وبائعة الفجل حاليا..
أقبل أحمد شاهي، الطبيب الباكستاني في سيارة الإسعاف، وأطلت من (الدريشة) غالية ابنة السميري قائد قوات الإمام.. ومن مطعم الحصري، خرج (أبو شنان) الذي أطلق سراحه حديثا لأنه أفطر عامدا متعمدا في رمضان.
ورفع مدير مكتب الإشراف هاتفه، واتصل بالمدرسة المتوسطة، فانطلق الصبية عبر شارع الزيود إلى الساحة الواسعة – التي تتحول أيام الاثنين إلى سوق من أسواق العصور الوسطى – وتقافز الصبية والطلبة فوق أكياس المستكة والبهار والحبهان والمحلب والمروحة والحناء.. ودفعة واحدة.. صمتت بيوت نجران.. تسلل السكون إلى أزقتها ومنعرجاتها، وملأ فجوات الأبواب، وشقوق النوافذ. أحاط الناس بالساحة الواسعة من جميع الجهات، وصعد الذين ضاقت الساحة عن استيعابهم إلى سطوح المنازل التي تبدو كقلاع تنتمي إلى عصر ما..”
يستطيع القارئ أن يلاحظ أجواء الترقب، لا من خلال الوصف فقط، بل من خلال التفصيل الدقيق للحشد، ومن خلال تكرار الفعل “أقبل”، وكأننا إزاء مقطع من مسرحية يغلب عليه عنصر المشاهدة بأم العين، ما يعني أن هناك مشاعر جياشة في النفوس تفور وتغلي وتتأهب.فكل مفردة لها دورها، وكل فعل له إيحاء، وإلا ما سر هاتف مدير الإشراف الذي اتصل بمدير المدرسة؟ وما سر انطلاق الصبية عبر الشارع؟
إن تصرف الصبية، بحد ذاته، أمر عفوي وواقعي، ولكنه ينم عن فكر إجرامي مدروس ومخطط له، قام به المسؤولون كي يشاهد الجيل الجديد عملية ذبح اليامي المعادي للإمام، فيكون عبرة لمن اعتبر، وخاصة لجيل المستقبل. أما صمت بيوت نجران فهو يوحي بالحزن والغضب، وبالترقب والتحفز. جاء كل ذلك على لسان السارد بضمير الغائب، وهو راوٍ مشرف كلي معلق.هذا الأسلوب السردي التقليدي الذي يعرف بالملحمي، لكن الروائي- الذي يتستر من وراء الراوي- تمكن من توظيف وسائل أسلوبية عدة جعلت السرد بعيدا عن التقريرية والمباشرة، ومنها، كما ذكرنا آنفا، المشهد المسرحي المتمثل في تصوير الحشد تمهيدا لتنفيذ الإعدام، ثم عملية التكرار الإيحائية، حتى وإن لم يذكر الفعل “أقبل” بعينه في مواقع معينة، لأن القارئ يدركه من السياق، ثم هناك اللغة الإيحائية الشاعرية في مثل “صمتت بيوت نجران.. ” وهي عملية إسقاط ((projection من شأنها أن تقتل عيب المباشرة والتقريرية.
أما الأجواء فهي أجواء نجرانية، في ظل زمان بعينه، ندركها من خلال الصورة الشاملة التي تعكس أجزاء من النسيج الاجتماعي أثناء الحرب الأهلية، وقد طعم السارد هذه الأجواء بتصرف الطلبة وهم يقفزون فوق أكياس البهارات والتوابل الشائعة في اليمن، وكي تكتمل الصورة فقد أورد لنا في الأسطر القليلة التي تلي الافتتاحية أعلاه صورة أحد الأشخاص وهو “يمضغ القات”، وكأن الأجواء اليمنية لا تكتمل ولا تكون واقعية دون ذكر القات الذي يدمن اليمنيون على مضغه منذ قرون. كما يلمح القارئ، من خلال اللغة الوصفية، تلك الأجواء النجرانية التي يصر الروائي على نقلها للمتلقي لتتم عملية “الإيهام بالواقع” وذلك من خلال التصوير الدقيق للبيئة تصل إلى حد ذكر الأغاني التي يستمع إليها أهل نجران مثل أغنية طلال مداح الشهيرة “يا سارية خبريني”، أو “يا دوب مرت علي” للمطرب أبو بكر سالم. وكي تكتمل الصورة وتتم عملية “الإيهام بالواقع” يمهد السارد لعملية القتل بلغة “يمنية”، كما نصر على تسميتها،: “….. (القات اختمر، ومن جديد عز النعاس الصعب، واختلط الحابل بالنابل، والعويل بحجر المسن، وصراخ (بو طالب) برضاب أصفهان، وصحن المقلقل بالعصيدة المرة)”.
ذكرنا أعلاه أن اللغة ترتبط بالفضاء الروائي ارتباطا عضويا وثيقا، وهو لا يتحدد من خلال وصف معالم الشكل الخارجي فحسب، بل من خلال مركبات عدة، منها العادات والتقاليد والشراب والمأكل والملبس، وطريقة التصرف. فالأوصاف البيئية كلها نجرانية. ولو قمنا بمتابعة القراءة فسنجد هذا الجانب بوضوح، إذ أن النص اللغوي أعلاه يعتمد على صور وتشبيهات تتداخل فيها الأطعمة لتعطي نكهة يمنية فيها “القات” و”المقلقل” و”العصيدة”.
كما نستطيع من خلال المعاينة الدقيقة أن نلمح المستويات المتعددة للغة الخطاب في تماهيها وتماثلها مع الشخصيات ومع البيئة العامة والمستوى الفكري والثقافي، لا في الحوار فحسب، إذ ان القارئ يستطيع، عادة، أن يميز بسهولة هذا التنوع في لغة الحوار أكثر مما هو في لغة السرد. وبما أننا إزاء افتتاحية الرواية التي تصور مشهد تنفيذ الإعدام فإننا نلاحظ سيطرة اللغة الحادة الخشنة، من خلال السرد والتصوير والحوار، فالأحداث تصور حربا أهلية فيها قتلى وفيها تدمير وتشريد، وفيها ظالم ومظلوم، وفيها فقر مدقع. إن هذه اللغة غالبة في النص، منذ الصفحات الأولى من هذه الرواية. من هذه الأمثلة مشهد إحضار اليامي إلى الساحة العامة لتنفيذ الإعدام:
“وتقدم رجلان وقفا عند بابها الخلفي، انحبست الأنفاس، وفجأة انفتح باب السيارة الخلفي عن اليامي.. وجه منحوت من الصخر، وعينان ثابتتان.. حول الرقبة قيد تتدلى منه سلاسل تتصل بقيود رسغيه وقدميه.. كان الصمت هائلا، ومثل حجر الطاحون ثقيلا..
ظل المستر يسلط عدسته على العينين.
تقدم الرجلان، وأمسكا بذراعي اليامي، انتتر فاصطدمت حلقات السلاسل ببعضها البعض، ودفعة واحدة أنزلاه إلى الأرض، فارتطمت قدماه بالتراب ذي الرائحة المحروقة.. جحظت عينا سمية، وبدا كما لو أنها فقدت النطق”.
المشهد المسرحي يسيطر على النص متيحا الفرصة للمتلقي أن يتخيله، وكأنه يراه بأم عينه، فيصبح جزءا مشاركا لشخوص الرواية في تحفزهم وتوتر مشاعرهم، والألفاظ خشنة مثل: “وجه منحوت بالصخر”، “انتتر”، “اصطدمت”، و”ارتطمت”. والجمل قصيرة مكثفة تكثر بينها الفواصل والنقاط لتنم عن توتر وترقب وألم وخوف. وبما أن المشهد مأساوي قريب من المسرحة فقد غلبت على اللغة عناصر الدرامية والمأساوية، وبالتالي فهي لغة موظفة للتأثير في القارئ، كما جاء على لسان بعض المنظِّرين في حديثهم عن لغة الرواية.
إن إيراد الكلمات والمفردات أعلاه، كأمثلة، غير كاف للتدليل على ما نصبو إلى إيصاله، بل علينا التأكيد على أن المفردات والتعابير والصور وتناغمها الكلي من ملفوظ ومضمون هو العامل الرئيسي في فهم دور اللغة. فحين تنتقل الأحداث للطرف الآخر حيث جماعة الإمام والجنود الأجانب فإن رائحة “المستر” و”غليونه”، والأغاني، وصورة المكان تتغير وتتبدل، فتتغير معها اللغة وتتبدل اللهجة والنبرات الصوتية، وللتدليل على ذلك نورد المثال التالي:
“عبرت السيارة الحاجز، وقطعت طريقا وسط الأشجار الشوكية الجافة، ثم انعطفت ودخلت المعسكر..
ثمة رجل يقف عاريا تحت دوش ماء، جسده أشقر، ويخلو من الشعر كأجساد النساء، وعلى اليمين صف من الكبائن، أمامها برك للسباحة، وكانت امرأة تلبس المايوه تتهيأ للقفز في الماء”.
إن الصورة المعروضة هنا لم ترد عفوا، بل هي صورة مناقضة للواقع الذي يعيشه أهل نجران الذين يقبعون في ظروف الفقر والجوع والفاقة، وكأن هذا المشهد يتم توظيفه لإثارة الطرف الآخر واستفزازه، دون التغاضي عن دور المتلقي الذي يعمل الراوي، بدافع خفي من الروائي، كي يجنده إلى صف الفقراء والمظلومين والثوار. هنا الأجساد تختلف في لونها عن تلك، وظروف حياة هؤلاء فيها من الترف ما يتيح للجندي أن يستحم في برك للسباحة، وهناك في مكان آخر في نجران مياه ملوثة ونساء بلون الأرض لا يعرف الترف طريقه إليهن.
*****
إننا إزاء رواية واقعية، وقد تعمد كتاب الرواية الواقعية أن لا يتقيدوا باللغة الفصحى في الحوار، وأجازوا لأنفسهم استخدام العامية المحضة، أحيانا، والفصحى الممزوجة بالعامية، أو العامية المفصّحة، وهذا ما يقوم به كاتبنا يحيى يخلف، ولكنا نجزم أن الحوار في هذه الرواية، وفي كل الأحوال، هو حوار مبسَّط، قريب من المستوى الفكري والثقافي والاجتماعي للشخوص، حتى ولو ورد باللغة الفصحى. فهذه سمية المرأة اليمنية الحنون التي تنتمي لطبقات الشعب العادية يرد الحوار فصيحا على لسانها أحيانا: “رأيته في منامي.. كان يلبس ثوبا أبيض.. وكان في هيئة شيخ جليل ذي لحية بيضاء مسترسلة..” وفي أماكن أخرى يرد الحوار على لسانها بالعامية، وفي كل الأحوال يظل الحوار جزءا من شخصيتها ومن فكرها ورؤيتها للحياة المرتبطة بالبيئة وبالمحيط الذي تعيش فيه.
يكثر الحوار في رواية نجران تحت الصفر بكل الوسائل والأساليب التي أشرنا إليها سابقا، ونقع على حوارات بالفصحى، كما ذكرنا، لكن الراوي يبذل مجهودا كبيرا لتنطق كل شخصية بلغتها لا بلغة السارد أو الروائي، وهي حوارات تصويرية تساعد على إضفاء روح الواقعية التي تتلاءم مع الجو العام للرواية، ولنا على ذلك أمثلة عديدة منها:
– تضحك على غير العادة يا بو شنان.
قال رأفت، فأجابه بوشنان:
– ألم تشاهد كبير المطاوعة؟
هز رأسه: بلى شاهدته.
– ألم تسمع بما جرى لزوجته؟
نفى رأفت برأسه…
– كيف.. كل الناس يعرفون.. حتى باعة المقلقل.
مسح رأفت يده بقطعة قماش وبدأ يصغي بانتباه. استمر بو شنان يقول:
– قام بختانها فأصابها نزيف وقد شاهد الطبيب الباكستاني فرجها..”
إن الحوار أعلاه، كما نرى، يدور بين شخصين باللغة الفصحى، وهو يصور حالة من الشماتة التي تشعر بها شريحة من المجتمع تنظر بعين الكراهية تجاه “كبير المطاوعة” الذي تحكّم وتجبّر بالناس دون قيود، فتحقق لها جزء من مأربها، فعبرت عن ذلك بلغة تتلاءم مع عادات هذا المجتمع وتقاليده وأفكاره. مما يعني أن الروائي يبذل مجهودا في إنطاق شخوص رواياته بما يتناسب مع فكرهم وثقافتهم وموقعهم الاجتماعي، وزاوية رؤياهم، سواء دار ذلك الحوار بالفصحى أو بالعامية. وهذا ما نلمسه أيضا في السرد الفصيح كما نرى في النص التالي: “شعر كبير المطاوعة بالعري، أحس أن الناس تحدق بلحمه.. بعورته.. بقفاه..”
اللغة هنا تصور بيئة صعبة في ظل ظروف قاتمة فنصطدم بتعابير عامية (قفاه)، أو شبيهة بلغة العامة لأنها تتماثل وتتلاءم مع ما يمر به البلد من إسفاف وانحطاط. إننا نعني من خلال هذه المقارنة البسيطة أن الكاتب قد بذل جهدا للحفاظ، في السرد وفي الحوار، على إنطاق وتشخيص أبطال روايته بلغة تصور البيئة والمستوى الفكري الملائم لهم ولوضعياتهم النفسية.
وفي مواقع معينة نرى الحوار قصيرا مقتضبا وحادا إلى حد البتر حين يدور بين أشخاص لا يتماثلون بالرأي والرؤيا:
– “هات لنا بيبسي يا ولد.
ثم التفت ورمق بوشنان قائلا:
– يا بوشنان.. كنت في مكتب بو طالب.. إنه يبغي يشوفك.
كان عدد من النراجيل يقرقر وكان ثمة ذبابة كبيرة تئزّعند أذن الزيدي دون أن يعيرها التفاتا..
– إيش يبغي بو طالب.. هه ماذا يريد؟
أحضر الولد (ابن عناق) زجاجة كولا تناولها الزيدي وملأ فمه منها، فارتسم على ملامحه الامتعاض، ثم بصقها وشتم بصوت عال:
– هذه بيبسي أم بول حمير يا ابن الفاعلة؟..
طأطأ ابن عناق رأسه وهمس لنفسه: اللقمة صارت معجونة بالزفت… تفو على الحظ حقي.
– خذ.. هات لي شاهي.. وشيشة…
استدار منصرفا فقال بو شنان:
– يا زيدي حرام عليك.. هذا ولد غلبان”
إنه حوار بين المتجبر الذي يتلقى الدعم من السلطة، وقد تنازل عن كرامته، بعد الممارسة المتواصلة لدور “الكلب” الخسيس الذي ينقل الأوامر، فجاء كلامه مماثلا لدوره في البذاءة والخسة، وبين ضعيف لا حول له ولا قوة يرى نفسه مضطرا لتنفيذ الأوامر حفاظا على لقمة العيش، أو حفاظا على الرقبة من البتر، ومع آخر أكثر تمرسا في الحفاظ على ماء الوجه فيحاور محافظا على كياسته، لكن بتحفظ وحذر.
لقد ورد الحوار في المثال الأول باللغة العربية الفصحى. أما في المثال الثاني فهناك بعض الجمل الحوارية التي يمكننا أن نطلق عليها “اللغة الثالثة”، تلك اللغة التي تقرأ بالفصحى وبالعامية.كما نلاحظ جملا تتداخل فيها الفصحى بالعامية، لكن ما يجب التأكيد عليه أن الحوار يعكس مستوى الشخصيات والأجواء المحيطة بها، فنراها نابيَّة حين تنطلق من خسيس، ومتشفِّية حين ترد على لسان مظلوم، وحذرة حين تقتضي الحاجة. هل هذا يعني أن الكاتب قد أجاد في كل حواراته؟
يستطيع الدارس والباحث أن يقع على بعض الهنات هنا وهناك في مثل الجملة الحوارية أعلاه “إيش يبغي بو طالب.. هه ماذا يريد؟”، إذ كنا نتمنى ألا يرد التساؤل “ماذا يريد؟” بالفصحى فهو دخيل أشبه بالشحم الزائد أسلوبا ومضمونا.
د. رياض كامل