الحرب الإعلامية

تاريخ النشر: 13/08/14 | 12:33

تتخندق كثير من الجهات والدول والمؤسسات خلف شعارات باتت محفوظة عن ظهر قلب فلا تكاد تتجاوزها، وتتفاعل بعض القيادات المجتمعية مع الواقع كما لو أنها تتعامل مع مسألة حسابية بسيطة في عهد الخمسينيات من القرن المنصرم، في حين أن حياة الفرد أصعب من ذلك، فكيف إذا قارنّاها بحياة المجموع.

تحاول كل جهة في هذا الكون أن تجد لنفسها عوامل القوة، وتجمع أكبر مجموعة ممكنة من خيارات الحضور الفاعل، البعض يتخذ الاقتصاد عنواناً كما هو الحال في اليابان مثلاً، والبعض الآخر يتخذ من القوة العسكرية الواضحة وسياسة العضلات الظاهرة منهجية لبسط سلطانه، وجهة ثالثة تعتمد القوة الناعمة ولغة الحوار والتفاوض للوصول لأهدافها المنشودة.

ما بين هذه الخيارات لا يوجد جيد وسيء، ولا سيء وأسوأ، كل هذه السياسات هي فطرة بشرية علينا أن نفهمها ونتعامل معها كما هي، فلسفة تعلمناها من ديننا قبل أن نتعلمها من الاحتلال الغاشم للعالم العربي والإسلامي برمته، فلو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أتمنى أن يكون له واد آخر، وهكذا هي حال الدول وصناع القرار في العالم.

إذا كانت فرنسا تستطيع أن تقيم قاعدتين عسكريتين في آسيا فلماذا تكتفي بواحدة ؟ وإذا كانت أمريكا تستطيع تغيير ذوق القارة الإفريقية التي تعتمد على دقيق الذرة لتصبح سوقاً مفتوحة لها في مجال استهلاك دقيق القمح فلما تحصر نفسها في آسيا وأوروبا..

اليوم، ومع تقدم التكنولوجيا، وتقنيات الاتصال والتواصل، ووجود النظريات الاجتماعية والدراسات التي تقدم تشريحاً دقيقاً لحال الشعوب وميولها واتجاهاتها، بات القرار أكثر قرباً من الصواب والجدية والجدوى، وبات تطبيق القرارات العالمية أسهل من ذي قبل، ويجد العديد من الوسائل لينفذ إلى العقول، لا سيما من خلال وسائل الإعلام العصرية.

بدءاً بالتلفاز، مروراً بالفضائيات والإذاعات والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف مسمياتها وتطبيقاتها، ووصولاً للهواتف الذكية التي تنتشر انتشار النار في الهشيم، باتت حياتنا الفردية مستباحة بشكل كامل، ويمكن رصدها بشكل كامل، ويمكن التواصل مع أطراف الدنيا دون كلفة ودون سفر ودون تذاكر.

اليوم، نحن في عالم الحرب الإعلامية ( media war ) الشاملة والماسحة والكاسحة.

نعم، نحن اليوم في زمن سطوة الإعلام وجبروته، حتى ولو لم ننتبه لخطره الفعلي ومستويات تأثيره، فهو يتسلل لنا بألف لون ووجه، ويخاطب أطفالنا بلغاتهم ومستويات فهمهم، ويخاطب نساءنا بما يرغبنه وبالمستويات التي تلبي رغباتهن المعرفية في شتى المجالات، ويخاطب الشباب بلسان الشباب ووسائل الشباب دون استئذان من أحد.

هذه هي المعادلة، أنت كأب تكد وتتعب لتجد قوت يومك وقوت عيالك، وتظن أنك عندما تقول لابنك أو ابنتك هذا صحيح وهذا خاطئ أنك سَلِمت وأنهم سلموا، في حين أنك لو تابعت مع أطفالك برامج قنوات ( مان غاز ) الفرنسية التي تترجم للعربية وتبث في القنوات العربية لما وسعك البكاء وما اسعفك النواح ولا العويل.

علينا أن نفهم اليوم أن طلب الطفل منّا حقيبة مدرسية عليها رسومات ميكي ماوس، أو رسومات سبانج بوب، أو سبايدرمان أو نحوها، هو خسارة قاتلة منّا لصالح الغرب الذي يستعدينا جهاراً، ونصر لثقافته وفلسفته.

وعلينا أن نفهم أن جلوس الشباب والفتيات وربات البيوت أمام شاشات التلفزة لحضور المسلسلات والأفلام المدبلجة ( حتى التي لا تحوي مشاهد فاضحة بالمطلق) هو خسارة في مستويات الترابط الأسري وحالة الإنتاجية العامة، وتمس البنية الشاملة للمجتمع وسلامته ومفاهيمه واقتصاده بشكل قوي ومباشر.

المعركة هنا قوية وشرسة جداً حتى ولو ننتبه لها، حتى إنك كوالد لو قلت لطفلك دعك من هذه الرسوم، أو دعك من هذه الحقيبة التي رسمت عليها صور لأبطال الديجيتال مثلاً، فسينطبع في ذهن طفلك عنك على الفور أنك متخلف عن عالمه بعيد كل البعد عن فهمه، وهو ما يعني ضياع قيمة الأبوة وضياع قيمة القدوة تباعاً.

هذا على مستوى حقيبة طفل ومسلسل!! كيف بنا ونحن نتحدث عن القوة الناعمة لوالت ديزني التي يعمل فيها قرابة مائة ألف شخص يصل راتب بعضهم شهرياً أكثر من مائة ألف دولار ؟ !!

هل هوليوود أو والت ديزني أو عمالقة الإعلام الكبار ( Giants Players ) جهلة لينفقوا مليارات الدولارات على رسوم أطفال وعمل فيلم !! ؟؟

إنها منظومة الحرب الإعلامية، تستهدف فيها والت ديزني ونظيراتها الأوروبية واليابانية عقول أطفالنا، والماكينة الإعلامية القوية لهوليوود التي استطاعت أن تستغفل دولاً عربية كثيرة لفتح قنوات مختصة بالأفلام لهوليوود وبوليوود ونوليوود وغيرها من محاضن الأفلام والمسلسلات العالمية، لتشغل وقت ملايين شباب العالم العربي لساعات طويلة بما محصلته: صفر كبير !!!

أما الشباب والرجال، فقطاع البرامج المنوعة والملائمة لكل الأعمار بات قطاعاً واسعاً، قنوات شبابية ترفيهية، قنوات جنسية، قنوات إخبارية، قنوات أفلام الحركة والأكشن كما تسمى، القنوات الرياضية، ونحوها، تقول كلها بلسان صامت: سأسرق منك وقت شبابك رغماً عنك، حتى إذا كبرت سناً لن تستطيع إرجاع زهرة شبابك التي ضاعت وأنت تتلقف الأخبار أو تتابع الأفلام أو تتفاعل مع برامجك الرياضية دون حتى أن تلعب الرياضة وتقوي بدنك وعقلك !!

صور متعددة من الحرب الإعلامية لا يمكن حصرها بمقالة، ولكن ينبغي لنا أن نعرف الآتي اختصاراً على أقل تقدير:

– إبراز بعض الناس وتغييب بعض الناس عن الإعلام جزء من الحرب.

– التركيز على قتل أوقات الطفل بالبرامج المخصصة له قتل للمستقبل.

– التطبيقات الإلكترونية على الهواتف الذكية لها إيجابياتها ولكنها وسائل تجسس كبرى للحصول على ملفات كبرى من البيانات الشخصية لكل فرد ولأصدقائه وميولهم واتجاهاتهم وتفاعلاتهم الذهنية وما يحبون وما يكرهون ضمن منظومة ( Media war )، وبالتالي كشف كامل لكل ما نملكه، ومنح مجاني لمقومات قوتنا وأسرار أفراد مجتمعاتنا مجاناً للدول التي تملك ( سيرفر ) الوسائل التواصلية، أو الأجهزة التشغيلية لها، فمن يملك هذه الأجهزة يحصل على كل شيء، ونحصل نحن على ( لايك ) و ( هاشتاغ ).

– هناك دراسات وإحصاءات يومية لبيان التوجهات والميول المجتمعية ( The trends of The society ) يتم تفريغها لقراءة عوامل القوة والضعف في المجتمعات من خلال المسلسلات مثلاً، ولكي أبسّط الصورة، فالمجتمع الذي يتابع بكثرة مسلسلات الحب والغرام وتكون نسبة المشاهدة المرصودة ( الرايتنغ) لها عالية، هو مجتمع يفتقر إلى المحبة بين الزوجين، وهذه ظواهر تقاس من خلال عدة عوامل وتندرج في سياق قراءات الرأي العام ( public opinion ) وبالتالي يمكن ضرب هذه المجتمعات من خلال التركيز في الإعلام الموجه على عنصر الضعف فيها، ألا وهو بيان قسوة الرجال وظلمهم وأن المجتمعات الغربية راقية ومتقدمة ومتحضرة جداً في هذا المجال، وتشكل جنة الأحلام لهذا المجتمع العربي الساذج، حتى إذا جاءت لاحتلاله لم تجد في عقول النساء رفضاً لفكرة الاحتلال، بل تشوقاً للتعرف على ثقافته بصورة أوضح وأقرب، وهذا يتكرر في الاختيارات السياحية والمجال الاقتصادي أيضاً.

– الدقيقة في القنوات الفضائية تباع للشركات بمئات الملايين من الدولارات، هل سألنا أنفسنا لماذا تحضر هذه القنوات فتاة غبية لتقدم برنامج مسابقات تافه يقدم جوائز عالية مادياً؟ من سيدفع مقابل تكلفة البرنامج وإعداده وبثه؟ ولماذا؟

إنه مفهوم الاستهداف التخصصي لشريحة تحب هذا النمط من الإعلام المفرغ من مضامينه، فيتم إنشاء قناة خاصة بمواصفات خاصة تلبي طموحات هذه الشريحة فقط وليست موجهة لغيرهم أصلاً، ولا تعبأ بالانتقادات الموجهة لها، فهي قناة تستهدف شريحة مختصة بما يدخل في إطار المفهوم الغربي: ( Targeting theideas )، صنعت لفكرهم ومستواهم فقط، ولتعبئتهم تدريجياً بقيم سلبية تقضي على عوامل نجاحهم الفردي.

وفي ظل الغنى العربي المادي والإفلاس الفكري على المستوى الرسمي، بات لزاماً علينا أن نتحرك من خلال المجتمع المدني، والتيارات الفكرية، وأن نؤسس لمفهوم الحركات الاجتماعية للضغط باتجاه تأمين مجتمعاتنا من خلال الحماية الإلكترونية، وإنشاء حاجز الصد الإعلامي، والبدء بطرح الإعلام العصري والنوعي القيمي الذي يغطي على الإعلام المضاد، وإلا فنحن خسرنا كل شيء قبل بداية أي حرب مستقبلية، والحرب قادمة لا محالة !!

بقلم المستشار د. نزار نبيل أبو منشار “الحرباوي”

nezarnbeel

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة