مساحات من البراءة
تاريخ النشر: 11/04/12 | 14:01قراءة في ديوان: أنت وجه الملاك . . . للشاعر رافع حلبي دالية الكرمل – بلد النور
في زمن تشوّه فيه كل شيء . . حتى مفاهيم الأدب . . يبقى الصوت النقي المعبر بعمق، ينزل على أسماعنا، يهز فينا صدى المعاني الطيبة، لتولد، ونصحو على صداها القادم بعبق من المعاني المغيبة عن وعينا منذ زمن . . فبعض المعاني تحتاج إلى وعينا لتتجسد حقيقة ناصعة، وإلا اعتلاها الغموض،وغرّبها ازدحام الذاكرة بكل غريب خاطئ دخيل.
الرومانسية من المعاني التي غيّبها ازدحام الذاكرة بمشوه الأفكار . . فباتت تعني للكثيرين معاني الغرام والغزل المشبع بالإباحة . . وهذا هو التشويه بعينه. لأن الرومانسية أصلا تعني عشق الطبيعة . . تعني العاطفة البكر التي تستمد طهرها من توحدها بطهر الطبيعة الأم . . الرومانسية تعني أن يحج القلب والروح إلى الأم الطبيعة؛ في رحلة التأمل والتبتل في محراب الطبيعة العاشقة المعشوقة .
يطل علينا الشاعر رافع حلبي بديوانه الصغير الأنيق ” أنت وجه ملاك . . .” ، ليجدد معاني الرومانسية الحقيقية . . حيث تكتسب الحبيبة وتتقمص روح الطبيعة والوطن والطفولة والشمس والقمر . . في الوطن الحبيب المتربع على عشق القلوب. في رحلة طهر المشاعر والعواطف، ليهمس:
” ما أجمل الإنسان الطاهر
أنت هو الإنسان ” / ص 7
معنى من معاني الرومانسية يتجلى بأحلى صورة : التوحد مع الطبيعة. يقدِّم له الشاعر ببرقية موجزة بقوله:
“في زمن تطاول فيه البؤس وعزّ الفرح
أنت الطيب كله ” / ص3
وكأني بشاعرنا لم يطق صبراً . . . فأسرع بالبوح والكشف عن سره ، سر حبه العظيم ، الذي علمه التوحد مع الطبيعة ، راضعاً ثدي طهرها ، ليشعر بأنه مختلف:
“يجعلني رجلا آخر
تكتنفه اللباقة
تعانقه الرّقة . .
المنسابة إلى داخل الروح
كحب الأوطان ” / ص12
فالرومانسية تجل لأعظم المشاعر الإنسانية ، في تجسيد الارتباط إلى درجة التوحد بالطبيعة الأم عامة . . وبالطبيعة الوطن خاصة . . ولكي يوضح الفكرة ، وبدون أدنى لبس ، يضيف:
” حبيبتي وجه الملاك
من حب الأوطان . .
تزهو كالبلّور
أطال الله بقاءك يا وطني
فأنت بلدي دالية الكرمل
حبي الأبدي ” / ص15
أما وقد كشف الرمز ، وأبان عن حقيقة ما يصبو إليه قلبه ، وتتشوّق روحه . . فأصبح لزاماً عليه أن يكمل الصورة . . صورة الرومانسي الحقيقية . . حيث التوحد مع طهر الطبيعة البكر ، والتغني به وبكل معاني العشق الطهري ، حيث تتحول الكلمات إلى صور . . إلى لغة عالمية ؛ حروفها مشاهد الطبيعة . . ومعانيها أشواق الأرواح المتوحدة وجدا معها وبها.
” في عينيك كلمات كل لغات أهل الأرض
ويرقص القمر على دموعك الأخيرة . .
العالقة على رموشكِ
التي تذكر بعيون الملائكة
بالربيع الزاهي المخضرّ في كرملي
والبحار الثائرة
كثوران حبي لكِ ” / ص21
وليس لأحد أن يناقشه في ما يقصد ، أو يعبر . . أو يريد ، بل على القارئ أن يعيش المعاني ؛ كلوحة توحدت فيها الألوان ؛ في تمازج يحاكي طبيعة النفوس ، تتأمل الطبيعة في لحظة توحد جمالي ، تغيب معها كل الصور . . ولا يبقى في الذاكرة سوى لوحة الطبيعة المرسومة في الوجدان كنموذج للطهر والصفاء والنقاء . . التي لا يملك معها الإنسان إلا التعبير عن عشقه لكل ما يتداخل مع هذه الصورة . . والوطن هو مرآة هذه الصورة . . أنه الطبيعة حين تحتل القلوب بطهرها وصفائها . . والعشق حين يتجسد مرآة لنبل وصدق العاطفة وسموها. وما أروع ما عبر به شاعرنا عن هذا التجلي بقوله:
” كيف أنسى فضلك حبيبتي
وأنسى الفداء . .
وأنتِ متوحّدة بداخلي
متقمصة أنفاسي من دون داء ” / ص24
وإمعانا بالتوضيح . . بل إمعانا في قراءة لغة الطبيعة والعشق المتولد من توحد الروح في بوتقة الطبيعة الأم والوطن يضيف الشاعر:
“ربيع دائم أنت
تجمعين بين الماضي والحاضر
فتكتبين الحضارات وتوثقين التاريخ
تبرهنين لكل أهل الأرض
صدق القول ، وحسن النوايا ” / ص28
ولتكتمل الصورة . . ولتكتسب قدسية . . وطهراً علوياً لا يضاهيه طهر . . تتحد معالم الصورة مع ملامح الفكرة ، في بوتقة الإيمان الواعي المستنير بنور المحبة والقداسة اليقينية. وبلوغا إلى مرحلة الهدف النبيل السامي . . المستظل في جنان الروحانية العلوية ، يضيف شاعرنا:
” وتزرعين بذور المحبة
فتنبت وتزهر وتثمر . .
أطفالا أبرياء . .
يحبهم المعتلي ذروة الأزل ” /ص40
هكذا اكتملت الصورة. . الطبيعة ، سر الجمال والطهر الإلهي . . تتجلى فيها روح العشق الروحاني الطاهر الصافي النقي . . ويتجسد فيها حب الوطن ؛ بما يمثل من معاني العطاء والخير والتضحية والعشق . . المتسامي عن عوالق المادة والغاية. لتكون جميعها مَنبتاً للطـُّهر . . وما الطهر إلا الطفولة . . زهراً وندى . . وإنساناً بريئاً كبراءةِ الطبيعةِ . .
“أنت أحلام الطفولة . .
ومزارع الطريق
وابتسامة الأطفال ، ” / ص65
أحلام الطفولة: مروج من طهر ونقاء . . ومزارع الطريق : عطاء غير مملوك من أحد . . ولا مشروط بشرط . . إنه عطاء لكل من يحتاج العطاء زادا له على الطريق . . وابتسامة الأطفال : تبقى نور الطريق . . وهدف الرحلة وغاية السائرين على طريق المحبة . . حيث يرتسم في صفحة الكون وجه الملاك ، بصورة طفل الوطن ، والوطن الطفل.
ونحن إذ نحيي شاعرنا الذي أعاد إلينا صور الجمال بكل براءتها . . نتمنى له مزيداً من القدرة على البذل والعطاء .
بقلم : صالح احمد عرابه – الجليل