وترجل الفارس الأخير.. أما رايته فتبقى عالية خفاقة
تاريخ النشر: 20/08/14 | 10:50رحل آخر شعراء المقاومة الفلسطينية، الفارس الذي تحدى الموت، وسخر من أشرس أنواع المرض، وحاوره متحديا، كما عرفناه منذ خاض في دخان البراكين وواجه الحكم العسكري بأوامر الاقامة الجبرية وزنازين الموت التي ما كسرته مع رفاقه الذين استحقوا لقب شعراء المقاومة الفلسطينية بكل جدارتها، فحاربوا بسلاح القصيدة، كما حاربت المقاومة بالبندقية.
سميح القاسم لا يموت وان غيبه الموت.. فرحيله ليس الا ترجلا عن صهوة جواده.. اما رايته فتبقى عالية خفاقة، في كل كلمة، وفي كل قصيدة، وفي كل قصة ورواية ومسرحية ومقالة خطها أحد أقلامه التي أبى إلا الاحتفاظ بها كذاكرة تشهد على كل حرف.
لقد عرفته منذ سنوات بعيدة، يوم كان يزأر بقصائده كالأسد على منابر المهرجانات الشعبية، وعرفته الانسان الحكيم والعين الثاقبة، عندما عملت في “الاتحاد” و”الغد” والجديد” وكنت التقيه، فنتحدث ونتحاور، واتعلم منه الكثير الكثير مما ورثته في عالم الكتابة.
اتذكر الآن تحديدا، يوم التقيته لاعداد لقاء معه لمجلة “الغد”، وكان ذلك بعد أيام من هجوم الحكومة الصينية بالدبابات على المتظاهرين الشباب، فوجدته، كما عهدته، على جرأته في تحدي “سياسة الصمت” ورفضه لموقف حزبه الشيوعي، آنذاك، الصامت ازاء المذبحة بحق الشباب الصيني. واذكر انه بعد نشر تلك المقابلة هاجت الأرض وماجت، وعوقب القاسم حزبيا، لكنه مضى على مقولته: منتصب القامة، مرفوع الهامة، لا تحركه إلا انسانيته.
لسنوات طويلة افتقدت صوت سميح القاسم.. وكنت اتابعه عبر ما ينشره من قصائد ومقالات هنا وهناك، لكننا حين كان يجمعنا لقاء، كانت تغيب سنوات الفراق في لحظات، ليحتل فيها شخص سميح القاسم ومكانته، وحديثه كل المساحات.
كانت آخر مرة التقيته، عندما منحته مدينتي مواطنة الشرف، قبل سنوات.. وكان قد بدأ يعاني من تسلط المرض الرهيب على جسده، لكنه بقي الانسان المؤمن بالحياة وبالقضاء والقدر، وبحقيقة الموت، الذي لم يخف منه وقارعه في قصيدة. يومها، وبعد انتهاء الحفل، صعد من صعد الى المنصة لالتقاط الصور معه، وبقيت جالسا في مقعدي في انتظار انتهاء مهرجان الصور، كي اسلم عليه واطمئن على صحته. لكنه بإنسانيته وزمالة الدرب الطويل، التي لا تعرف الحدود، انتبه الى وجودي، وصاح: ألا تريد التقاط صورة معي يا وليد.. ولم يكن أمامي الى الانضمام اليه ومجموعة اخرى من المتواجدين، فكانت الصورة الأخيرة في الألبوم.. البوم سميح القاسم الذي اعرفه.. ألبوم شعراء المقاومة الذين ترجلوا تباعا عن صهوات الجياد.. وتركوها ترحل في الصحاري من دون فارس يستحق اعتلاء صهوتها.
قبل أيام، وحين تحدثوا عن اشتداد المرض عليه ونقله الى قسم العناية المكثفة، ادركت ان الساعة التي لا بد منها ستأتي.. تحدثوا عن تحسن حالته واسترداد وعيه، فقلت في نفسي: انها يقظة الفارس الأخيرة، كي يطمئن على شعبه، ويرسم آخر ابتسامة في الحضور الفلسطيني الباكي جراح غزة.
في احدى تجلياته متحديا الموت قال:
أنا لا أحبّك يا موتُ.. لكنّني لا أخافُك
وأدرك أن سريرك جسمي.. وروحي لحافُكَ
وأدركُ أنّي تضيقُ عليّ ضفافُك
أنا.. لا أحبكّ يا موتُ
لكنّني لا أخافُك!
يا أبا وطن محمد.. لم نخف من الموت، لأننا نعرف مثلك أنه قدرنا.. لكننا نخاف في غيابك أن تبقى صهوة الشعر الفلسطيني يتيمة.. لا يمتطيها من يكملون دربك..
وداعاً.. وإلى لقاء يا رفيقي.. حيث لا يفرقنا إلا الموت… في احضان ميراثك..
وليد ياسين