حوارية سميح القاسم…
تاريخ النشر: 20/08/14 | 18:24هذا اللقاء الذي أذاب حبر الإفصاح المتجمد على الورق .. وأنطق لسان المبضع الحواري ليكشف للقارئ العربي ثقافة شاعر كبير.. هو سميح القاسم .. لكنها أية ثقافة .. هل هي ثقافة حدد المصير مسارها واتجاهها فقعد سميح يعد قصائده ليمهرها بتوقيعه ويقدمها للقارئ مستريحاً مبتهجاً مدللاً على اسم وإطار في عوالم الأدب والشعر .. لا .. وألف لا .. بل إنها الثقافة الموسوعية الهائلة التي يتمتع بها سميح القاسم .. والتي تظهر عميقة الأغوار في كل جملة يقولها . وحين يحدثك سميح عن الأرض والدم والتضحيات والفداء ، تلمح شريطا شائكا من الأسلاك الدامية على جبينه .. وهيهات للجبين الشاعر أن يتحمل كل هذه الجراح أما جبين سميح فمختلف عن أي جبين …!! هو جبين وطن محمد ابنه الأكبر .. انظروا .. إنه الإصرار والصمود .. الإنغراس في أرض هي وطن محمد .. مسرى محمد ومهد المسيح ! لهذا يجدر تعميم حديث سميح القاسم على صفحات كتاب خاص اسميه حوارية سميح القاسم ، فأنا أعرف كم من الجهد بذلت لأرنّم حوارية سميح القاسم على لحن أسئلتي .. وكم من الوقت الطويل سهرت استمع لأشرطة الكاسيت أفرغ حديثه الكنز وأكتبه لمحبيه .. عساهم يتعرفون على أدق الأفكار وأصغرها في رأس سميح القاسم ويتعرفون على مواقفه السياسية القوية التي تخلق المجابهة والعنفوان سواء عن طريق الشعر أم العمل الاعتيادي في وطنه .
في أحاديث سميح الحس الذي يغور في أعماق النفس الإنسانية والعاصفة التي تتحدى لصوص الأرض ، في صراخة المزلزل تيارات الرياح الغاضبة ضد الهزال والخنوع والهروب عن المواجهة .. وفي مبادئه السياسية استثنائية المحنك القدير المناضل بوعي ، لمجموعة الأسئلة الموجهة لسميح خصائص المعاصرة للمرحلة .. لذا وقف على رأسها سميح وامتلك ناصية المطل والمنصهر . وحتى لو عدت به إلى تاريخ وحقب سآلفة غابرة لبثَّ فيها الحياة وطوفها بيديه وعدها على أصابعه امتلاكا لأنه الشاعر المثقف الواعي لتاريخه الفلسطيني العربي وحاضره .. والمستشرق لمستقبل وطنه وأهله .
في كتاب حوارية القاسم . وخلال مهاتفتي لأحاديثه المسموعة لم يسعني سوى الارتحال مع سيمفونية سميح السياسية الشاعرية المتقنة وتقديمها بكل صدق ووفاء .. فسميح يستحق الوفاء .. سميح أحد أوفيائنا الصامدين .. سميح شخصية غير اعتيادية . ولهذا أقول ـ ليس من اليسير تقديم لقاء عابر وقصير على صفحة أو صفحتين مع سميح .. وليس من اليسير إقناع القارئ وإشباعه بفكر سميح وتعريفه على شخصية سميح الودود المناضل الخلوق الكريم . وأعرف أن هذه الحوارية ستكون فاتحة درب لحوارية أشمل مع رمز يحتاج للدراسة والوصف تماماً كما الطبيعة الشاملة !!! وجههُ طاقة الشمس للخلاص . فيا كل محبي سميح القاسم … تعالوا نجسد شخصية سميح ونردد مقطع الأمل العظيم من إحدى قصائده لنصل معه على جسر النضال والعمل إلى الأمل ..
غاصَ في الّلْيل ..
وجْهُهُ طاقَة الشمس والخلاصْ ..
عندما غاصَ في صدْره الرَّصاصْ ..
لا تقولوا لأمّه ..
غاصَ في صدْره الرصاصْ ..
لا تقولوا لأخْته ..
غاصَ في صدْره الرصاصْ..
آه يا رايةَ الخلاصْ ..
أنتَ جسْري إلى الأملْ ..
قالت الريح :
من تكون ..؟
ردَّ في وجهه السكون ..
أنتَ جسْري إلى الأمَلْ ..
* * * * *
الحلقـة الأولى
سميح القاسم وعائشة الرازم
التقيته واقفاً في بهو الفنْدق ويتبادلُ الحديث مع الشاعر الصديق بلند الحيْدَري والشْاعر الصّديق ممْدوح عدْوان .. ويقفُ بجانبة شامخٌ أشيْب تنوء على كتفْيه هموم الدنْيا فلا ينوء بها .. الروائي إميل حبيبي .. شَعَرْتُ بسعادة مزركشة بفجوات من الحرقة ..!! أسًرَعْتُ بخطاي المتعبة ومدَدْتُ يدي نحو يد سميح هتفت أهلاً محمود ..!! لا أدري لماذا أصدرتُ صرختي ملونة باسم محمْود .. فرَّد عليّ أهْلاً يا فدْوى .. فتردَّد الصَّدى الواجم على لسان الشِّعر ليضحك بلنْد الحيْدري قائلاً : لا فرْق بين حناجر الشِّعْر المقاتل .. يا رفاقْ . ولقد تسنىَّ لي زمانٌ أشهد الشّعراءَ من أرض انتفاضتنا يفيضون اشتياقْ .. واللَّه أشْهد أن من دمكم قصائدَ أشعلَتْ المحيط .. فكسَّرتْ صخر الفراقْ ..!!
وما كاد الشاعر بلند الحيدَري يعقب أبياته المرْتجلة بضحكة مغموسة بتنهيدة معبّرة عمَّا قال حتىَّ احتضنه سميح القاسم قائلاً : ـ إنَّك الشِّعْر المعِّبر يا صديق . وهنا أوْشكت وقفتنا على أنْ تغدو مناظرة شعْريَّة وروَّاد فندق شيراتون هيليو بوليس ينظرون بدهشة نحونا .. فانتحينا ركناً صاخباً يضجُّ بالقهَّوة والكركدية الساخنة وأصْواتُ صهيل الرياح والمطر تتلاطم بزجاج مداخل الفندق الضخمْ .. فتضفي على ضجيج القاعة مشاعرَ كطبول الشعر المقاتل .
جَلَس إميل مبْهوراً بلقاء لم يحدّد له موعد .. وجلس بلند الحْيدري بجانبي على اليمين فشاهدْنا الدكتور عبد الواحد لؤلؤة يحتلُّ فسحة معنَا ويجلس بدعابته ومرحة المعهْود لنضحي ستة يجمعنا شوقنا لسميح القاسم الوجْه العابر القاهرة من خضمِّ المجابهة الفلسْطينية السَّاخنة .. الوجْه القادم من تلافيف ثْورة الحجارة المتوج بقصائد الدَّم والشرايين العربيَّة الصَّامدة ..
مدَدْتُ يدي أتناول مسبحة سميح القاسم من يده لونُها أحمر بلون دم الدَّحنون .. فناولني إياها بهدوء لنستمرّ بالاسْتماع لحديث د. عبد الواحد لؤلؤة عن الأمطار التي غَمَرت القاهرة .. وكيف أنّه شاهد السيَّارات تطفو على وجه السُّيول فوق الجسور .. وكان يشْرَح بانفعالٍ كوميدي اسْتطاعَ اجْتذابَ ضحكاتنا المهْزوزة بالوجع ..
شربْنا القهوة واسْتعْجلْنا الفراقَ كلٌّ إلى مهمَّتهِ على أملِ اللِّقاء في صباح اليوْم التَّالي وقد أعَدْتُ مسْبحةَ سميح القاسم وممْدوح عدْوان يحْتجُّ قائلاً : ـ إنَّها ” عربون ” لقاء عائشة الرَّازم وسميح القاسم .. خذيها . اسْمعي من أختكِ المخْلص ممْدوح عدْوان ..!!! لكنَّ المسْبحة أبَتْ إلاّ العوْدة لسميح في اللقاء الأوَّل لنا .. وقلت : ـ عيني عليها ولكن ليْس اليوْم آخذها بقصيدة وأعْطية مقابلها قصيدةً .. فصافحني أخي سميح القاسم وهو يقول : وعد شَرَف ..؟ فافترقْنا وابتسامة الرُّوائي الفلسْطيني إميل حبيبي تتوهَّجُ بضياء الفَرح القادم .. فمن يسْتمع لإميل حبيبي وهو يتحدَّثُ عن بطولات أهْل الأرْض المحتَّلة وخططهم السِّياسَّية يُخيَّلُ له أنَّه يُشاهِدُ فيلْماً مصوَّراً متحرِّكاً ليْسَ له نهاية .. وقد غَمَرَنا إميل حبيبي خلال نصْف السَّاعة التي جلسْناها سوَّية .
بتباشير تملأ جُعْبته يرشُّ بها كلَّ من يقابله عن الوطن الفلسطيني المشْتعل .. من يستْهجنُ على أهْل الصُّمود تشرُّبَهم بالثّوْرةَ ؟؟ طبعاً إنَّها الثَّوْرة فعْلاً ومضموْناً وسياسة ووسيلة عيْشٍ وحكايات وأحاديث صحاب في كلِّ زاوية وهل للحديثِ طعْمٌ ونَكْهة في ظروفنا العربيَّة إنْ لم يكُنْ نابعاً من قلْب ثوْرة الشَّعْب في قلْب الأتُّون ..
هكذا رسمْت لحديث اليوْم التَّالي مع سميح القاسم .. وودَّعْتُ الأخوة وأنا أسْرعُ بأفْكاري ومشْيتي ..!!
* * * * *
في الصَّباح .. صباح يوْم الأحد الثامن والعشْرين .. دخَلْتُ قاعة الطعام لتناول طعام الإفْطار .. فشاهدتُ جميع الزملاء الشعراء والرُّوائيين والكتَّاب .. حشدٌ من المبدعين يشْرَبون قَهْوتَهُمْ الصَّباحيَّةَ ورائحة البنِّ والبهار تتماوَجُ في فضاء المطْعم .. بحثْتُ بعْينيَّ عن سميح القاسم فرأيْته جالساً مع الرُّوائي إميل حبيبي حوْل طاولةٍ صغيرة .. وحيدْين .. يَنْسجمان بالحوار الهامس .. رُبَّما هو الحوار السيِّاسي .. أكيد .. وإلاَّ فماذا يكون ..؟؟ لا يفترق هذا الشَّاب الشَّاعر الفلسطيني عن صديقه إميل حبيبي .. يتلازمان .. يتحدَّثان .. آه .. إنَّهما سيْفان لامعان صقلتْهما نارُ المعايشة اليوْميَّة للعذاب الفلسطيني .. إنَّهما الوجْهان الشَّاردان عن الغُربة المنغرسان بثبات في ترْبة المقاومة .
لمحْتُ من خلال شرودي ابتسامةَ سميح القاسم تدْعوني من بعيد ويدهُ تَشيرُ إليّ بنحنُ هنا .. فتوجّهْتُ لأجْلسَ مع العزيزيْن وحديثٌ غامر متشَعّبُ الآفاق يدور في وجداني ولكنّه ليسَ حديث الصّحافة ولا حوار السُّؤال والجواب إنّه هتافُ الشّعر والسياسة والقياديّة المسْؤولة .. إنّه قضيّة مطروحة رغماً عن محاولة الإلتفاف .. حتى إعجابي حين أضمرهُ وأعلنهُ لسميح القاسم أثيبُ نفسْي عليه .. فكلّ حوار سياسي أو ثوري أو حتى غزلي سيدور بيْننا هو من مفاتيح فرقتنا المحطّمة .. أنْ أكون في القاهرة ويكون سميح القاسم ويكون كلُّ الجمْع الممّيز من شعراء الوطن العربي دون التوطّيد بمصْداقيّة الشّعر .. فإنه الضحك على النّفس .. كل ما سيُقال ناصعاً طاهراً .. حتى لو ظهر جريئاً جديداً .. إنّها لحظات العُمْر المناسبة فلنلتقطها باللّغة .. اللّغة المؤجّجة المشكّلة لمفاصل العودة للحنين ..!! وجهُ سميح القاسم يشعُّ بالشّعر والشّيخوخة والشباب تضاريس جبينه تحتوي سطور الخمسين عاماً في ظلال الموْت والتصّدي والمجابهة وحمل الشهداء على جناحيّ بيتٍ من الشّعْر المقاوم .. وللحظات يبدو شاباً تنطق ملامحهُ بالبراءة ونبرة صوته ولهجته الفلسطينيّة بالبساطة فتحيطك بالفاكهة اليافاويّة والحيفاويّةِ .. ونكهة خبز دروز فلسطين السّاخن الطّالع من تنّور الحاكورة .. وللحظات تسمع شُحَّ العبارات المقتضية الرّصينة المثقلة بهموم العمل السياسي والخطط المدروسة المحكمة .. فتراهُ شيخاً يعصرُ عينيهِ ليرى مُحَدّثَهُ .. بخلع نظّارته وتنظيفها من جديد ..
رأيتُ في عينيّ سميح القاسم تلال القدس وهضاب نابلس الخضراء المغبّرة .. فكظمتُ ألمي .. قُلتُ وأنا ألتقط المسْبحة المرجانيّة من كف سميح .. لنْ أمانع لو أسمعتني شعراً فقط .. فلحديث البراكين الثَّائرة في عينيك أنين الصّغار الجرْحى على فراش مستشفيات الانتفاضة .. سأتنازل عن إرهاقك بحديثي السياسي .. ورحتُ أرقبُ ترانيم هزّة رأس إميل حبيبي .. حين همس مكْدوداً : ـ ما أسعدني وأنا استَمع لشاعرين مثلكما يتناظران .. هيّا .. أُحسُّ أنّكما ستقولان الآن شعراً ..
أحببتُ إثبات جدارَتي تجاه هذه الدعوة فتأهبّتُ لكتابة كلمات إهداءٍ على دواويني أقدّمها لسميح القاسم وإميل حبيبي .. وإذ بسميح يقول لي أسمعي يا عائشة : ـ
دعي لي أصابعك المفْرحة ..
وأقسم لنْ ألمس المسْبَحة ..
ليَ اللّه تذبحني راحتاك ..
فأرقص في زفّة المذْبحة ..
حينئذٍ هزّ إميل حبيبي رأسهُ وصرخَ مازحاً : ـ
لا تثريبَ على الشّعراء من شعرِ الذين يقولون ما لا يفعلون حتى شعر الغزل عندكما مضرّج بالمذابح ..؟
اعتدلتُ بجلستي وسألتُ سميح إذا كان هو الذي هاتفني في الصّباح الباكر وقال لي صباح الخير وأقفل السّماعة فقال : ـ نعم .. أحببتُ أن أمنحك تحيّة الصّباح لتستيقظي وتتناولي الإفطار معنا قبل خروجنا للمحاضرة في قاعة الندوات بمعْرض الكتاب .
فتوخَّز الشّعرُ في صباحي الجميل فكتبتُ قصيدة سريعة على ورقة : ـ
تُرى من دعانـي لصَحـوِ جميـلٍ
وشـاقَ الفؤادَ ومن صبّحَـه ؟
بحيـن التقيـتُ بثـورة أرضــي
سميحـاً أيا مقلتي اللاّمحـة ؟
لكم أبصـر القلـبُ محْمـود فيـكَ
فمن أعلن الشّوقَ من لوَّحـه ؟
سـواء ذُبِحنـا .. وصرنـا طيـوراً
ألم تكفنا اللحظة المانحـة ..؟
لنا اللّه يـا عُمْـرُ .. تبـدو قصيـراً
بطول التقاط عُرى المسبحة !!
غــداً تحتوينـا سويعـات حُــزنٍ
ويُضحي الفراقُ كما المذبحة..
وندمَـعُ .. نـرْنـو لشـوْكِ الحـدودِ
كغـادٍ رأى خفقـةً رائحـة ..
وأدري بــأنّ الكـؤوسَ استفاقــتْ
على فيض نكهتها المالحـة ..
كملـح حجــارة أرض الجـــدودِ
يضمـدُ نكبتنـا الجارحـة ..
* * * * *
التقط الوريقة سميحة القاسم وراح يكتُبُ شيئاً في الحين الذي راح إميل يتفحّصُ وجهي ويقول : ـ
حقاً إنك لشاعرة عجيبة .. سريعة الخاطر والبديهة وهذا الشعر الذي كتبته الآن شهادة ثقة كبيرة بشاعرة فلسطينيَّة قوية كإعصار ..
التفتُّ إلى سميح وإذْ به يكتبُ أبياتاً من الشّعر رداً على أبياتي فهمست لنفسي من خلال ابتسامتي التي غَمرت بها إميل حبيبي .. لا بُدّ أنَّ هذا النهار سيشهد حديثنا الواسع .. وشعرنا .. وكأني أسمعتُ همسي لإميل حبيبي .. فقال وهو يتأهب للمغادرة : ـ أترككما تكملان مناظرة الشّعر والحديث وأذهب إلى معرض الكتاب .. فلديَّ محاضرة هذا اليوم ..
بهرني تعلّقُ سميح القاسم بصديقه إميل فوقف بسرعة وقال : ـ لَنْ تذهبَ وحدك ونريد أن نستمع لمحاضرتك هذا الصباح … وأمسك بمعطفه وساعده بارتدائه كإبن حنون يأبى رؤية قطرة عرقٍ على جبين والده .. والحقيقة أن هذا الحب الذي يحمله سميح القاسم لإميل حبيبي عزَّزَ في وجْداني وتصوُّري ألفة أهل فلسطين ولحمتهم وتعاضدهم .. أكبرت في سميح حبَّه للشيخ الروائي إميل حبيبي .. فعلقْت يا سلام يا أُستاذ إميل .. أنت محظوظ بحب سميح القاسم فأجاب إميل حبيبي بخفة روحه الفلسطينية وبدعابة : ـ وها أنتِ حصلت في أول لقاء على نفس الحبِّ الذي حصلت عليه في خمسين سنة من سميح القاسم .. لا تحسديني عليه .. خذيه عنّي وأكملي حديثك معه .. خلصيني منه .. ولمحت سميحاً يربّتُ بكفّه على كتفي إميل حبيبي ويزيل بعض الشوائب العالقة بمعطفه تماماً كنسمةٍ تحْنو على زهرة .. اللّه .. يا سميح كم أنت مثال الرّفقة والمودّة والخلق الكريم ..!!
كل خطوة خطاها إميل حبيبي رافقتها خطوات سميح القاسم .. ساعده بالصعود إلي التاكسي أمسك بذراعه بحنان بالغ وقال يا رب ..
كلّ حركةٍ وكل سكنةٍ تابعتها بين الفلسطينيين العملاقينْ اخترقت قلبي وحفرت مكانها بعمق وحلّلتها وطنياً وسياسياً وإنسانياً .. فوصلتُ إلى قناعة تامة بأن أنموذج هذينْ الرّائعين يمثّل الانصْهار الحميم بين أبناء فلسطين ووحدة القلب القادرة على تفتيت كل عوامل التشتيت الصهيونيّة الممارسة ضد أهلنا في المحتل من وطننا .
وفي السّيارة المتوجّهة إلى معرض الكتاب في مدينة نصر حلّق الحديث عن فلسطين والانتفاضة .. حيث كان الدكتور الحبيب الجنحاني من تونس ود. عبد الواحد لؤلؤة وإميل حبيبي وسميح القاسم وأنا .. وكم تملكتني سعادة غامرة حين ناولني سميح ديوان شعرٍ جديداً له .. سُبْحَةٌ للسّجلاّت قال لي وهو يناولن الدّيوان كَتَبْتُ لك شعراً ففتحتُ الصفحةَ الأولى وقرأت النّهار الأبيض وشفافية الملحمة الثائرة : ـ
يسمّونها زخّةً من مَطَرْ
تبوح بها غيمةٌ طائشة
وتطلع في وردةٍ من حَجَرْ
يسمّونها أهْلُنا عائشة
لها لون عَصر انتفاضتنا
وصبحٌ تجلّى بوجه القَمَرْ
وعينان في الأفق الفلكي
كنجمين للكون شعّا صَوَرْ
يسمّونها حُجرةً من وطَنْ
لتسكُن بيْني وبين الهمومْ
وحين أغيب وراء الغيوْم
ستطلُعُ بيْني وبيْن النُّجومْ
* * * * *
قرأتُ المقطوعة الشّعريَّة ولم أستطعْ كبحَ جماحِ دموعي .. أعدْتُ قراءةَ المقطوعة عشرات المرّات والكلُّ يتحدثُ عن الانتفاضة وصمود الأهل .. وأنا أقيسُ كلَّ حرفٍ كتبهُ سميح بمسافةٍ وعمْرٍ طويل .. اختزله النّضال فضمّخ حروفنا .. كم كنت أنتظر يوماً كهذا .. يوماً واحداً فقط .. ننزفُ شعرنا الفطرىّ المتدفق في ديوانٍ سريع .. ديوان شاعريْن فلسطينيين يكتب بأسرع من لمحة بصر .. نختَصرُ فيه العُمْرُ وكلَّ صبرْ السّنين .. وسنوات الكفاح والصعّودُ إلى الحلم والأمل .. ومستقبل دوْلة فلسْطينية مستقلةّ نسْرح فيها ونغشى على وجوهنا ونحن نقولُ الشّعْر في عيون الماء ونبع الأرض المريضة .. التي أصبحت بصحّة جيّدة
أقفْلتُ صفحة الكتاب ورحتُ أتابعُ طريق القاهرة والشجر والعرَبات والنّاس وأنفاس جمال عبْد النّاصر تمْلأ الأمكنة ولا أرى غير مزيج من الجموع العربيّة المحتشدة حوْل قامة عبْد النّاصر في منتصف أريحا وحوْل الدوَّار الريحاوي الوحيد .. تهتف ناصر .. ناصر .. وحين أغيبُ وراءَ الغيوْم .. ستطلع بينيْ وبين النجومْ ..
هذه النبْرة المحترقة بوجع الغياب .. يا اللّه كَمْ من الغياب يظللُ سميح وكم من الألم يرْزح فيه ..؟ غياب الأهل عن فلسْطين .. والوحْدة النّائية تحت خيمة الإحتلال .. وحرْمان أهل فلسْطين ألـ 48 من تقْبيل يديّ ترْبة الوطن العَرَبي .. أذكرُ أنّ سميح أمسْ قال لي وهو يشْرَح مشاعره حينما دخل القاهرة للمّرة الأولى .. فجأة وجْدَتُ نفسْي أسير في شوارع القاهرة .. أرى النيّلَ الذي عاش في خيالي وأقرأ أسماء الشّوارع .. ميْدان التحرير .. ورمسيس .. وشارع 26 يوليو .. والزّمالك .. وسيدنا الحسين والسيدة زينب .. وقابلتُ الإنسان المصْري الحبيب الطّيب بشفافيته وعصاميته وصافحتُ الأسطى سائق التكسي .. قرأتُ أسماء الشّوارع عربيّة .. البنايات عربيّة .. السّكان عرب اللغة عربيّة وأبْكي يا عائشة .. لأول مرّة أتجولُ في بلد وأصيرُ ذكْرى عربي وأنصهر مع اللّهجة المصْرية الجميلة .. بيْن أهلي وأحبابي .. لأول مرّة يتمزّق الحاجز الشّوكي قبل رحيلي وغيابي ..
سميح دائما يفكّر بالغياب .. هاجسُه الرّحيل .. حتىّ أنّ شعْره مفْعم بالتوّحدّ بالتراب الفلسْطيني .. ربما يخاف سميح من موْت يأتيه وهو غريب خارج بيته .. أذكر له مقطعاً من قصيدة طويلة يقول فيها : ـ
وغداةَ يُنْقَشُ عُمري الأخْضَرْ
في الشّاهد المرمَرْ ..
قلبْي يقول .. فعفوكم .. في الشّاهد المرْمرْ ..
أيفوزُ بعْدي فارسٌ أقوىْ ..؟
فيصيرُ من تهوْى ..
وأصير ذكرى ..
ثم لا أذكر ..
أرضي التي بعظام أجْدادي قلبتها .. وجبلتُ أولادي أرضي التّي دللّتُ ترْبتها ..
ورعْيتُ طولَ العُمْر حنْطتها ..
أرْضي التيّ .. !!
أيصير من تهْوى ..؟
أصيرُ ذكرْى .. ثُمّ لا أذْكْر ..؟
يا بيتنا الباقي ..
يا بيتنا المعبْد ..
يا من على عتباته أسجدْ ..
وأشمّ طيب حذاء من شيّدْ ..
يا باب بيتْي .. مشرعا لتؤّمك الدّنيا ..
يا غرفتي العُليا ..
يا مهْدَ أوّل كلمة .. أنشدْ ..
أنتم شهودي في محبّتها ..
أنتُمْ .. غداة تغوصُ كفّاهُ بغلتّها ..
أنتُمْ .. فيا مينائي الأوحد ..
أيصيرُ من تهوى ..؟
وأصيرُ ذكرى .. ثمّ لا أذُكرْ ..!
من ركزّ الصخرات في السفح ..؟
من رافق النجّمة ..؟
من علّم النسمة ..؟
لمساتها السمّحات للدوّح ..؟
من غير جديّ .. الطًّيب السمح ..؟..
من عوَّد السَّهلة ..؟
أنْ تكثر الغلةَّ ..؟
من غيْر عميَّ الكهْل ، والولد ..؟
من جايلَ النصبات في الخلةَّ ..؟
من عايشَ الأعشاش في زيتوننا الخالد ..؟
من حزّ أسماء الأقارب .. واحداً .. واحد ..؟
في كلّ جذع من جذوع كرومنا ماردْ …؟
من غير هذا العاشق العابد ..؟
يا أجملَ النبّضات في قلبْي ..
يا من نعمتُ لديْك بالحبّ ..
أتراي أشقى فيك بالبغض ..؟
ردّي على ابنك ..
المفجوع يا أرْضي ..؟
* * * * *
توقّفت السّيارة أمام قاعة النّدوات في معرْض الكتاب وترجّل منْها خمْستنا وسميح القاسم يصْلح من حال إميل حبيبي ويمنحهُ ضحكة مغزاها إنك أصبحْت عجوزاً يا إميلْ .. ولنْ أبتعد عنْك أيّها الصَّديق ..!!!
سألني سميح : ـ أعجبك الشْعر ..؟
قُلتُ : ـ ويوجعني إحساسُك الدّائم بالغيابْ .. تحن هناك يا سميح .. معكم في كلّ شيء .. صحيح أننا بعيدون قليلا .. ولكنْ دماؤنا ونبضاتنا وصبرُنا وشعْرنا ومشاعرنا وشهداؤنا وشهداء الأرض يحتلون حالاً واحداً ..
فابتسم سميح باعتزاز وقال : ـ لهذا السبب كتبت لك : ـ
لتسكن بيني وبين الهموم
وحين أغيبُ وراء الغيومْ
ستطلع بينْي وبين النجوم ْ
* * * * *
فأنت بهذا المعنىْ والمضمون تحتلينّ مكاني .. وتضيئين .. وهذا يعْني أننيّ لن أغيبْ .. كلّ منًّا يشكلُ امتدادا للآخر وحياة جديدة .. فقلت : ـ نعم إنّ الجذور اسمها امتدادْ ..
دخلنا قاعة المحاضرات واستمعنا لندوة مائة عام من التنوْير في مصرْ.. وأصداء التنوير في العالم العربي .. حيث رئس الندْوة الدكتور عز الدين إسماعيل ..
وكان المحاضرون إميل حبيبي وجبرا ابراهيم جبرا والدكتور محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة العربي .. والدكتور محسن جاسم الموسوي والطّاهر لبيب والدكتور الحبيب الجنحاني .. والدكتور عبد الواحد لؤلؤة وعلوي الصَّافي والدكتور محمَّد جابر الأنصاري .. وكانت النَّدوة غنية بالمضمون المكثَّف .. والقاعة مكتظَّة بروَّاد الأدب .. فالندوة التي تبدأ في العاشرة صباحاً تجذب عشَّاقها من أقاليم مصرْ يحْضرون من بعيد وينتظرون على أحر من الجمر استقاء الثقافة .. وكانت ظاهرة احتشاد القاعة الشَّاسعة بالحضور منذ الصباح الباكر ملفتة للإنتباه ممَّا يؤكد مدى الالتصاق الإنساني بالوعي والثقافة في مصر .. وحين انتهت الندوة في الواحدة .. توجهْنا نحو السَّيارة للعْودة إلى الفندق .. وانضمَّتْ إلينا الشَّاعرة المغربيَّة الصَّديقة مليكة العاصمي .. ورحنا نرتجل الشّعر حتىَّ وصلنْا الفندق وتناولنا الغداء ..
* * * * *
الحلقـة الثانيـة
س ـ 1ـ يا سميح .. أيها التاريخ الفلسطيني الصامد المقاوم .. أمامنا حديث طويل .. ربما يكون مشروع كتاب خاص يكشف عن شخصية سميح القاسم .. بوضوح .. بتفصيل .. بصراحة .. كل شيء .. من تفاصيل نشأتك حتى الآن ..؟؟
ج ـ أولاً هل تريدين قهوة ” ثانية ” .؟ أم نغوص في حديثنا مع قهوتي المتجددة ؟ أعتقد أنك لن تشربي قهوة ثانية .. لأني أرى فنجان قهوتك طافحاً بفرط يأسه من السيطرة على شاعرة ..
س ـ 2ـ فعلاً أنا بعكسك تماماً .. لا أحب القهوة ولا المنبهات .. إني أراك تدخن كثيراً وتشرب القهوة كالماء .. ربما يعكس هذا شخصية شاعرة مسالمة هادئة .. لكنني لو شربت القهوة لارتفع ضغطي وأصابتني عصبية تمنعني من هذه الجلسة الرائعة .. أما أنت فربما تسهم القهوة والسيجارة بتهدئة أعصابك .. وللّه في خلقه شؤون ..!!
ج ـ لا تنسي أننا شاعران غرقت النكبة في بحر عينيهما واستقرت في العمق بلا حراك .. ماء عيوننا نار .. فلا القهوة ولا السجائر لها مفعول في جوانبنا الآن .. افحصي آلة التسجيل هل هي جاهزة ؟
س ـ 3ـ اسمك يستوقف المواطن والقارئ والمحب لسميح القاسم حدثني عن اسمك ..؟؟؟ وعن جوانب شخصيتك ؟
ج ـ اسمي سميح محمد القاسم من آل حسين في الرامة . ولدت في 11/5/1939 في مدينة الزرقاء الأردنية .. وكان والدي ضابطاً برتبة نقيب (رئيس ) .. ويعمل في قوة الحدود .. في حين كان الضباط يقيمون هناك مع عائلاتهم .. وحين كانت عائلتي عائدة إلى فلسطين في القطار إبان اشتعال الحرب العالمية الثانية كان سائداً نظام التعتيم .. بكيت بكاء مراً فأصيب ركاب القطار بالرعب من اهتداء الطائرات الألمانية إليهم ، لا تصدقين ما الذي حصل لقد بلغ بهم الذعر درجة تهديدي بالقتل إن لم أسكت ، مما دفع والدي لإشهار سلاحه في وجوههم لردعهم ، وحين أخبروني بالحكاية شعرت أن حفرة عميقة نخرت عظماً في مكان ما في صدري .. وقلت في نفسي : ” حسناً ” لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم كيف سأتكلم متى أشاء وفي أي وقت بأعلى صوت ولن يقوى أحد على إسكاتي ” .
س ـ 4ـ وها أنت تزلزل الأرض بصرخاتك فيعشقها كل عربي ويطلب المزيد .. أود أن أعرف إذا كان اسمك سميح القاسم هو اسم للشهرة ..؟
ج ـ الواقع أن والدي هو محمد بن الشيخ قاسم محمد الحسين إمام دروز الرامة .. والقاسم جاءت مشتقة من قاسم والحسين .. وناسبت اسمي أكثر .. وأمي هي هناء ابنة الشيخ شحادة محمد فياض ووالدها من أبرز فقهاء الطائفة العربية الدرزية في فلسطين .
س ـ 5ـ جميل اسم والدتك ..!!! أنت يا سميح ابن عائلة عدد أفرادها ما شاء اللّه كبير .. أتمنى لو حدثتني أيها العزيز ..؟
ج ـ أنا شقيق لأحد عشر فرداً وبسميح القاسم نكون اثني عشر .. الحمد للّه .. لا تندهشي فهذه وسيلة سلاح فعالة تدبرها أهل فلسطين ألـ 48 لملء الأرض بأصحابها .. ويتبعها عرب فلسطين الآن أكثر من ذي قبل حتى أنك تجدين عائلات يفوق عدد أفرادها السبعة عشر .. وأعود إليك بأسماء أخوتي وأخواتي .. فأخوتي خمسة ذكور .. قاسم ، سعيد ، سامي ، سهيل ، نديم . وأخواتي .. سامية ، فاطمة ، صديقة ، شفيقة ، سهيلة ، عفاف .
س ـ 6ـ طيب .. أتمنى أن تحدثني عن أولادك وعائلتك ؟ لأرى إذا كنت أيضاً من أصحاب نظرية التكاثر وتعبئة الأرض الفلسطينية بأهلها الشرعيين ..؟
ج ـ لن أكون يا شاعرتي أقل تطبيقاً لهذه النظرية ويبدو أن أهلنا خارج فلسطين لم يؤمنوا حتى الآن بتسلحنا بشتى الوسائل للتمسك بفلسطين وحمايتها من السحب من تحت أقدامنا .. نحن نطبق كل ما ندعو إليه بنظرياتنا النضالية .. على كل حال تزوجت قبل أحد عشر عاماً من نوال سلمان هزيمة حسين . أولادي كلهم ذكور .. الأول ” وطن محمد ” والثاني وضاح والثالث عمر .. والرابع ياسر والحبل على الجرار يا عزيزتي .
س ـ7ـ حماك اللّه يا سميح لهم ولنا وحماهم لك .. حدثني عن أصل عائلتك ..؟
ج ـ كما استمعت لرواة العائلة .. أن جدهم الأول خير محمد الحسين كان فارساً من أسياد القرامطة جاء من شبه الجزيرة العربية لمقاتلة الروم واستقر به المطاف على سفح جبل حيدر في فلسطين على مشارف موقع كان مستوطنة للروم .. وما زال الموقع الذي نزل فيه معروفاً إلى اليوم باسم خلة خير ، هو على سفح جبل حيدر الجنوبي ، وآل حسين معروفون بميلهم الشديد للثقافة وبرز من بينهم عدد كبير من الأسماء في مجالات الطب والقانون والهندسة والثقافة وفي مقدمتهم المرحوم علي حسين الأسعد رجل القانون والمربي الذي ألف وترجم وأعد القواميس المدرسية وكتب الشعر وتوزعت جهوده بين فلسطين وسورية ولبنان .
س ـ 8 ـ كل قارئ عربي يحب أن يتعرف على ملاحم خاصة في دراسة سميح القاسم وبداياته .. حتى أنا الشاعرة التي أشاركك نبرة الخطاب والشعر .. يتملكني هاجس الاستقصاء عن طفولة سميح ..؟؟
ج ـ لا شك أنني أحمل نفس الهاجس تجاهك ولو كنت أعلم أن لديك عدداً كافياً من الأشرطة لتبادلت معك الحوار … سؤال مني وسؤال منك ..!! وتطلع حصيلة ثرة من الحوار للقارئ العربي ..
س ـ 9ـ هي حصيلة ثرة .. وكنز بحد ذاته هذا الذي يسجل الآن .. وآمل أن لا تتعبك أحاديثي وأسئلتي .. قل لي يا سميح شيئاً عن طفولتك وبداياتك الشعرية ؟؟..
ج ـ يعني .. أستطيع أن أستعيد شريط طفولتي ويفاعتي وشبابي .. واعتقالي وتكبيلي بالأغلال والسلاح موجهاً إلى ظهري .. وأستطيع استعادة شريط عذاب الشاب الفلسطيني سميح القاسم كله .. على كل حال قضيت فترة دراستي الابتدائية في الرامة في مدرسة دير اللاتين وفي المدرسة الحكومية وأكملت دراستي الثانوية في كلية التراسنطة وفي مدرسة البلدية في الناصرة .. وبعد إكمالي دراستي الثانوية .. درست الفلسفة والاقتصاد السياسي في موسكو لسنة واحدة ..
وأركز هنا على بداية نشاطاتي الأدبية والسياسية فأنا لا أقدر على فصل اهتمامي الثقافي عن بذرة اهتمامي السياسي .. فلقد تشكلت البذرتان في آن واحد وثقي أنهما تفتّقتا في سن مبكرة أسهمت في نشاطات المدرسة الثقافية بالتمثيل في المسرحيات وفي تشكيل الندوات الأدبية وكتابة الشعر غزلاً في طالبة أو هجاء لمعلم حتى اتضحت معالم موهبتي ومفهوم هذا الاندفاع في تيار مجابهة السلطة الغاشمة العنصرية .. فبدأت أجمع ملامح انطلاقتي الأدبية .. وإذ بي أمام هم سياسي يتلمس جوانبه ويحللها سميح القاسم في داخلي .. وإذ بصرخاتي وضجيجي نابعة من صرخات شعب كامل .. شعب فلسطين والأمة العربية وشعوب الكرة الأرضية المقهورة وإذ بي فوهة تنطلق منها الكلمات كالرصاص وقد أسست منظمة الشباب الدروز الأحرار .. على غرار الضباط الأحرار في مصر .. وكان ذلك في أواخر الخمسينات حتى نقوى على مجابهة قانون التجنيد الإلزامي المفروض على أبناء الطائفة العربية الدرزية وعلى البدو والشركس وطبعاً كنا قد أدركنا أن هذه القوانين تهدف لتمزيق وحدة جماهير شعبنا الصامد على تراب فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي .. وبالطبع أثارت منظمة الشبان الأحرار الدروز حنق السلطات العسكرية الإسرائيلية .. وهنا بدأت سياط الأعداء تلهب الجسد الحجري ..
س ـ 10ـ استرجع الآن بعض أبياتك الشعرية من قصيدة أشربوا .. وأنت تتحدث تغتالني العبرات ولكن لست أنا من تفتح النار على الندى .. سأحاول استذكار هذه الأبيات المعبرة عن غيبة الفردية والذاتية فيك لدرجة التوحد مع اخوتك :
هذا أنا ، عرْيان إلاَّ من غـدٍ
أرْتاحُ فـي أفْيائـهِ أو أصلـبُ ..
ولأجْل عينيْه وأعين أخـوتي
أمشي وأعطي الدَّربَ ما يتطلَّبُ ..
هذا أنا أسرجْتُ كلَّ متاعبي ..
ودمي على كفيِّ يُغنِّي فاشْربـوا ..
ج ـ جميل أن تحفظي لي أشعاري .. وأضحي قادراً على النطق المعبر عن ألمي .. أنا لا أحكي عادة عن معاناتي الشخصية في سجون الاحتلال .. فأنا أتوزع برقاً على أخوتي الأسرى والسجناء والكلمة الشعرية رسالة من طوفان غاضب بالنسبة لي وليست من نفس عادية تتأسى .. ولكن سأحكي لكِ قليلاً كي لا تعتبي عليّ ..
لقد استهدف الصهاينة تحطيم معنوياتي لكسر سد الصمود في قلبي كفلسطيني .. ساقوني مكبلاً بالأغلال .. ووجهوا إلي سلاحهم الأوتوماتيكي أخذوني معتقلاً من الرّامه إلى الناصرية وإلى صرفند .. أجبرتني السلطات العسكرية على العمل في غرفة الموتى بمستشفى ( رمبام ) في حيفا .. وأجبرتني على تكليس الجدران وشق الطرق والعمل في عزِّ الظهيرة الساخنة بالزفتة المغلية .. كأشغال شاقة .. إلا أني كنت أتصاعد بخاراً وشعراً وقوة على الحياة والمجابهة .. فكنت حين أعود إلي سجني خيمتي المسوَّرة بالأسلاك الشائكة في صحراء النقب أو الجليل أو حين أعود إلى الزنزانة الخشبية الضيقة كنت أمسك القلم المخبأ بين لحمي وملابسي .. لكتابة قنابل من مقاومة تأخذ طابع القصيدة .
وفرضت عليَّ الإقامة الجبرية .. واعتقلت .. وسجنت في منزلي .. وطردت من عملي .. وحرمت من السير في شوارع حيفا .. حيث كان يقال عني ( الشاعر الفدائي ) .. نعم .. إن الشعر ثورة وثورة مخيفة .. وسأسمعك شيئاً منها : ـ
منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفيِّ قصفة زيتون وحمامة ..
وعلى كتفي نغشي ..
وأنا أمشي
قلبي قمرٌ أحمر ..
قلبي بستان
* * * * *
س ـ 11ـ اسمعني شعراً كتبته في السجن يا سميح .. وأعرف أنك كتبت الكثير في السجن ..
ج ـ ربما هي حياتنا سجن في سجن .. ولكن ننبثق منه فرحاً وعشقاً لأن مساحته في أرضنا .. تحنو علينا ..
أمَّاهُ كم يؤلمني ..
أنَّكِ تجهشين بالبكاءْ ..
إذا أتى يسألكم عني أصْدقاءْ ..
لكنَّني أومن يا أمَّاه ..
أومن .. أنَّ روعة الحياة ..
تولدُ في معتقلي ..
أومن أنَّ زائري الأخير .. لن يكونْ ..
خفّاش ليْل .. مدْلجاً ، بلا عيونْ ..
لا بُدَّ .. أنْ يزورني النهَّارْ ..
ويرْتمي .. ويرْتمي معتقلي ..
مهدّماً .. لهيبُه النهَّارْ ..
* * * * *
س ـ 12ـ قرأت لك قصيدة بعنوان ” يهوشع مات ” وفيها تطوي ادعاء طاغوت إسرائيل في العهد القديم ـ يشوع الإصحاح الأول وتردم عليهم بثورة قصيدتك أعمدة بنوها إفكا .. وإني لأدهش أمام هذه المقاومة الجبارة وجهاً لوجه ولا يستطيع أي مخلوق كان استلاب وطنية سميح القاسم بسهولة وبطولته بسهولة من خلال تداول موضوع مواطني ألـ 48 وتعايشهم السلمي مع اليهود..؟؟
ج ـ هذه القصيدة كان يجب أن تكتب .. وكان من واجبي كعربي فلسطيني ألتحم بعرق ساخن من التعرض لأحلامهم وجشعهم وخططهم .. لأني مطلع ومطل على هوجائية الحلم الإسرائيلي كان من الواجب صعود أعمدة الدخان من الداخل .. لدمغ وجوه الصهاينة بالحقيقة ..
يا حائرين في مفارق الدُّروبْ ..
لا تسْجدوا للشَّمْس ..
لن يرقى لها صَدى صلاتكم ..
بينكم وبينهم سقْف من الذُّنوب ..
لا تسْكبوا الدُّموع .. لنْ ينفعكم ندمْ ..
الشَّمْس في طريقها .. راسخةُ القَدَمْ ..
لا ترْكعوا .. لا ترْفعوا أيديكُمُ إلى السَّماءْ ..
تدمَّرَتْ واندثَرَتْ أسطورة السَّماءْ ..
وأطرقَتْ على متاه بؤسكم جنازة الهباءْ ..
يا ويلَكم .. يا ويلَكم ..
سرعان ما تغوصُ في أعمْاقكم
أظافرُ الغُرُوب ..
يهوشعٌ ماتَ ..
فلا تسْتوقفوا الشَّمسَ
ولا تسْتمهلوا الغُروبْ ..
سور أريحا شامخٌ في وجهكم إلى الأبَدْ ..
يا ويلَكم .. يا ويلَكم ..
سرعان ما تغوص في أعماقكم
أظافرُ الغروبْ ..
يهوشعٌ راحَ ..
ولَنْ يؤوبْ ..
يهوشعٌ ماتْ ..
س ـ 13ـ أنت تحمل صورة الشاعر .. وتحمل صليب الحرية الثقيل فماذا تنتظر ؟؟ وما هو حلمك القريب ..؟
ج ـ صورة الشاعر .. لا .. أو نعم .. ربما صليب الحرية الثقيل هو الذي دفعني لتقسيم الشعر على العالم .. فبقي الأصل يغلب عليَّ .. لكني أحمل قلب شاعر طيب أنهكة حمل صليب الانتظار والعمر يا عائشة يمضي بنا والحلم لا يصعب تحديده .. حلمي أدركه ويدركه العالم . فلم يعد للعالم مجال للشك بحضارة ثورتنا ومشروعية أحلامنا وأحقية أطفالنا بالعيش على أرض عربية فلسطينية ذات سيادة فلسطينية ..
س ـ 14ـ نجفل ونرتعش كلما أغدقنا مطالبتنا بالضفة الغربية وقطاع غزة .. وكأن الجزء الروح من فلسطين 48 حق معلوم لإسرائيل ..؟ لو أقيمت دولة فلسطينية على أرض الضفة والقطاع .. وأرجو أن تعذرني .. هل ستبقى في حيفا المتطايرة من شغاف قلوبنا وتحت ظلِّ الحكم الإسرائيلي بجواز مرورك الإسرائيلي ..؟؟ أم ماذا ..؟؟
ج ـ أنتِ لم تستهيني بي كسياسي حتى الآن .. ولذلك فلن أستهين بك كسياسية أيضاً .. شاعرة فلسطينية وتعرِّضني لسؤال لمْ يخطر لي على بال .. لذلك سأقول لك .. إن انغراسي في داري حيفا في ذلك الحين سيشكل إمكانات جديدة لمفاهيم نضالية جديدة .. ولست أنا من يغادر وحريتنا على الأبواب فالخطوة الأولى تحتاج لنقطة وهدف يكمن في آخر الخط .. وأنا آخر الخط .. وأول الخط .. على طريق الخلاص .. واجبنا ومن حق دولة فلسطين حين تنهض على أرض الضفة والقطاع أن نجزل لها الحب والعرفان بأن نهفو إليها لكي تهفو إلينا .. ولا بد للهوة أن تردم !!
س ـ 15ـ كيف تردم الهوة يا سميح .. أتعني بانفتاح الحدود وتعميم ما يسمى بالسلام على كل أرض فلسطين .. ويحدث التبادل الاقتصادي وغيره .. وتشق القنوات ؟
ج ـ أولاً أنا طبعاً أتمنى أن يعم السلام .. وأحلم باستقلال فلسطيني .. وأرضى بأيَّة نقاط توافق منظمة التحرير الفلسطينية عليها .. واعتقد أنَّ موضوع الانفتاح والتطبيع وغيره يجب أن يبحث منذ الآن لنرى ما هي الخطوة التي سيسير عليها الفلسطينيون .. ولو أني أرى الأمر معقداً لدرجة التشاؤم ، وربما نردم الهوة بتحرير كامل الأرض ..
س ـ 16ـ هل لديك أصدقاء إسرائيليين ..؟
ج ـ طبعا .. هناك مثقفون من اليهود .. استطعنا وبفضل الجهود الأدبية المضنية أن نكتسب قلوبهم وآراءهم .. فباتوا يؤازروننا ويمنحون مهرجاناتنا تضامنهم وطبعاً هم الآن في قناعة تامة بأننا أصحاب حق .. ويدافعون معنا عن هذا الحق .. يستمعون لأشعارنا .. يتظاهرون معنا .. يحتجون معنا .. ويهتفون ضد العنصرية والسلطة الهمجية .. وهذا النمط من الصداقة الطوعية نحتاج إليه بشدة ولا يعرف مدى الحاجة إليه إلاَّ من يكابد عيشنا ويقف مواجهاً مثلنا .. والحقيقة أن كثيراً من المثقفين اليهود امتلكوا الآن مدى من الحرية لمواجهة القمع الروحي المزمن المفروض عليهم من بقايا العصر الفاشستي المحنط .. فأصبح من الصعب تماثلهم الكامل مع السلطات بل هم ينطلقون كما ننطلق .. ويتحدون كما نتحدى وستتسع رقعة التحدي وتعلو صرخة الحرية من الطرفين .. طرف أثرت فيه حناجرنا جراء التزام المواظبة والتثقيف والحفر المستمر .. وطرف عربي استطاع جرف الركام إلى المنحدر ليزرع بدلاً منه الشجر ..
س ـ 17ـ أنا أشعر بالفعل أننا كفلسطينيين بحاجة كبرى لتعميق الهمِّ الفلسطيني في الفهم اليهودي والعالمي .. وإن كنت أميل أولاً لتعميقة في النفس اليهودية .. ولكن هل تحم وزر التخلف التثقيفي العربي لليهود على كاهل الفلسطينيين .. أم على كاهل العرب ككل ؟؟؟
ج ـ لو تحدَّثنا بصراحة .. وها نحن فعلاً نتحدث بصراحة .. لأخبرتك أن العربي يشكل عام يتحمل الوزر الأكبر .. والفلسطيني يتحمل وزراً أصغر ليس هذا ناتجاً عن قياس الكم والحجم .. ولكن دعيني أسرد لك حكاية لتتأكدي من أن التقصير العربي كبير وخطير وإلى حدٍ مذهل .
بعد نكبة حزيران عام 1967م .. حضرت تظاهرات ثقافية وفنية إلى إسرائيل لتحتفل بالغناء والشعر من جميع أنحاء العالم .. نعم لقد حضر إلى إسرائيل دفعة واحدة فنّانو العالم الكبار وغنّوا للجنود المنتصرين على عذابنا وحزننا ودُمى صغارنا .. حضروا كلهم ليرقصوا ويغنّوا ويقولوا القصائد في مناخ نكبتنا وهزيمتنا .. بينما كان المفروض أن يحضروا إلى الدول العربية المنكوبة والجديرة بالمشاعر والتضامن .. وأن يقولوا الأغاني والقصائد بالأطفال الجرحى والصبايا المشردات والناس المعذبين المطرودين من زوايا منازلهم الشرعية بالسلاح الناري .. كان الأحرى أن يحتشد الجمع العالمي هذا للمطالبة بحقوق الإنسان المنهوبة .. لكن حدث العكس .. ولم يلتفت للجريح والسجين والمطرود والمعذب أي من هؤلاء .. والذنب ذنب من ..؟؟ إنه ذنب من لا يعرف كيف يخترق حواجز نفوس القوم بالثقافة والفن والإبداع ..!!
أتقن اليهود غزو الضمير العالمي عاطفياً فاكتسبوه عاطفياً حتى في أشد أوقات جريمته بشاعة ، لأنه حافظ على نمط استقطابهم ثقافياً ..
س ـ 18ـ طبعاً للثقافة جسور وقنوات وللغة العاطفية بين الشعوب مجاري الأنهار والغدران ، لذا يتوجب علينا أن نصل العالم .. بأشعارنا بثقافاتنا بإعلامنا .. طموحاتنا يجب أن تكمن مترجمة ويسهل وصولها .. موسيقانا مع كلِّ أذن غربية انتفاضتنا في كلِّ بيت وحفل عالمي ..؟؟
ج ـ من الصعب أن أقول أن الحال ما زال على ما هو عليه من جهود لا بالتأكيد .. ولكن ليس كما تمنين وتريدين ونريد .. فمثلاً دعيت في مستهل عصر الانتفاضة إلى بلجيكا للمشاركة بمهرجان تضامني مع شعبنا ، وقد أنشد المطربون أغاني حبيبة للانتفاضة .. وغنَّى مطرب بلجيكي أغنية فرنسية بعنوان انتفاضة .. وبكى الناس .. فالأغنية كانت مؤثرة جداً ..
س ـ 19ـ في وجداني طموح كبير .. وأملٌ .. لو أن الدول العربية ترتب مهرجانات للانتفاضة في دول العالم .. وتوصل الانتفاضة للرأي العالمي كما هي عليه بوسائل ثقافية فنية كيفما يناسب الشعوب لاكتساب التضامن .. وما يؤلمني أن الدول العربية تقيم احتفالاتها ومهرجاناتها في صدورها .. ويقلُّ السامعون من العالم .. ويبقى الحادي يردِّدُ حُداءه في قلبه .. نحن بحاجة إلى الانتشار بثقافة الثورة الفلسطينية وحبنا للناس والسلام بحاجة إلى ترجمة !!
ج ـ العالم الآن يرى ويعرف وهو الذي يصور أحداث الانتفاضة وصحفيو العالم الغربي هم الذين ينقلون الصورة والصوت والحجر والصرخة والمقاومة .. وينقلون للعالم تناقض الحجر مع الرصاصة .. وكل هذا حتى الآن لصالح الانتفاضة ..
س ـ 20ـ هل تغيَّر الفلسطيني في عين الغربي عن صورة أولها الإسرائيلي الإرهابي للغرب على أن الفلسطيني إرهابي قالت .. وهل برأيك أن العالم في غمرة التضحيات والبطولات الخارقة السلمية الفلسطينية سيصحو من إغفاءته ؟؟..
ج ـ العالم الآن يتحرر من جرعة البنج المغرقة التي حقنه بها ساسة الصهيونية والإمبريالية العالمية .. على مدى أكثر من أربعين عاماً .. لقد أجهزت الانتفاضة على جملة من المسلمات الإقليمية والعالمية التي شوهت صورة الفلسطيني أمام العالم .. ولم نعد اليوم مطالبين بالبرهنة على إنسانيتنا ولم نعد نحن المطالبون بإقامة الدليل على تحضُّرنا ولم نعد ملزمين بإقناع الرأي العام العالمي على أن الضحية تنزف وتقاوم .. وعلى أن الجزَّار هو إسرائيل .. كلُّ هذا بات مفهوماً لدى العالم .. فانتفاضتنا اخترقت أعتى الحواجز ودخلت بيوت العالم قاطبة .. وظهر الجندي المدجَّج بالسلاح والكمّامة والطفل الملثم برسوم الحمامة .. وشارة النصر ..!!
س ـ 21ـ ربما هي بذرة الشك التي ما زالت تثقب الذِّهنية والعقلية الغربية تجاه الفلسطيني .. هي الحاجز دون صراخ الغرب بجرأة وقوة وفي وجه شامير وشارون .. حيث ساهم أصحاب العصابات اليهودية عالمياً بغرس بذرة ذات فلقتين .. في الذهنية الغربية ، الفلقة الأولى أن الفلسطينيين جماعة إرهاب فقط وأن العرب يصرخون سنلقي باليهود في البحر .. والفلقة الثانية أن اليهود عشاق سلام ومحبة وحمائم ودودة .. وكان ذاك منذ عشرات السنين استطاع اليهود كسب الجولة التضامنية عالمياً منذ البداية .. في الحين الذي كان العرب يصكون على أسنانهم تهديداً ووعيداً إلى أن وصلت الحالة عند الغرب والعالم حدَّ التَّشبُّع بالتعبئة الأولى .. ولم يعد هناك مجال لغسل الأدمغة البشرية في العالم لصالح أصحاب الحق الشرعي ؟؟
ج ـ لا شكَّ أنَّ مهمة العرب الفلسطينيين بالتحديد صعبة لغسل الأدمغة التي ذكرت .. لهذا السبب الذي وصفته الآن .. أقول أن على العرب والفلسطينيين تكثيف حملاتهم الإعلامية والإنسانية وتوجيهها نحو العالم بالأجمع فالمهمة صعبة ولكنها ليست شائكة .. فالانتفاضة بيَّضت الكثير من جوانب الوجه العربي المشَّوه .. وأسهمت إسهاماً عظيماً بتوصيل مطالب أهل فلسطين وأحلامهم بحق تقرير المصير .. وأطلْعت العالم على خبايا المعاناة الضخمة التي يعانيها الفلسطينيون في ظل الاحتلال .. فالمخيم الذي لم يكن يدخله صحفي أجنبي بات مسكوناً بالصحفيين .. والصمود الذي يتمتَّع به الطفل الفلسطيني بحجره أمام دبّابة مدججّة يوضح حجم الإصرار على نيل الحقوق .. فالأمر ليس يمر بدون تحليل سياسي .. وإدراك .. وكما قلنا أنا وأنتِ .. على العرب ومنظمة التحرير الفلسطينية استثمار هذه الجودة العالية .. هذا الكنز الإنساني في انتفاضتنا .. لإقناع الرأي العام وقلب الموازين السابقة .. وأقول أن انتفاضتنا كفيلة بقلب أثقل الموازين الماضية .. لتتألق هي بمضامينها وحججها وتوقها للحرية ..
س ـ 22ـ على الأقل حطَّمت الانتفاضة المباركة نظريّة الشعارات .. بالممارسة .. وقلبت الأمزجة والقناعات في كثير من الشؤون .. وأضحت لسان حال العرب كلهم فهل تعتقد أن العرب سيسلمون بهذا ويعطونها حقَّ الأولوية بالمبادرة ؟ أم ستتم المزايدة والسباق نحو الخطوة الأولى للسلام دون اعتبار لشعلة الانتفاضة كطلقة رفَّت عملياً دون توجيه ..؟؟
ج ـ كلامكِ خطيرٌ جداً .. وكأنكِ تتهمين العرب بما فيهم منظمة التحرير بالبراءة من إشعال جذوة الانتفاضة .. وهذا الطرح يزعجني … ولا يزعجني .. فأقع في إرباك وكأني على جناح حوامة لا أسقط ولا أستريح ..
الواقع أن قولكِ يعني بأن للانتفاضة حقَّ الأولوية بالقرار بغض النظر عن قرارات الطرف المهم وهو منظمة التحرير .. والصحيح أن متاهات الموضوع تتطلب حرصاً وحبكاً .. وحتى الآن لم أختلف معك .. لأن الانتفاضة انطلقت من قلوب مملوءة بالمرارة والمعاناة والألم والإحباط وفقدان أدنى الشروط الإنسانية والسياسية .. وكان المحرك الأكبر لثوار الانتفاضة هو الاضطهاد والقمع والعسف ..
ولذلك وجدنا أن الجيل الذي راهنت عليه إسرائيل بأنه سينسى ويتفاعل وينصهر بالدور الإسرائيلي ويغدو مطيعاً مسالماً خانعاً .. رأيناه بركاناً يتأجج فداءً بالحجر والغصن وحفنة التراب .. وأؤكد لك كما تريدين بالضبط أن الانتفاضة تصاعدت بتلقائية وذاتية ولم توجهها فئة ولا تنظيم ولا تيار .. وتنامت حتى عمت الأصقاع .. نعم ..
ولكني أقدم لك دليل ضرورة ضبط وتنظيم ودعم وحماية هذه الأفواج الثائرة .. لأنها أولاً وأخيراً أفواج بشرية مظلومة .. ذاقت المرارة بتراكم العلقم فخافت عليها منظمة التحرير من الجوع والموت في العراء .. والخفوت .. فمنحتها كلَّ الدعم السياسي وكان طرح السلام وهذا أقصى دعم رفيع وعالي تقدمه منظمة التحرير لأبنائها .
س ـ 23ـ لم يكن هناك طرحٌ أو دعم من قبل منظمة التحرير يضاهي طرح موضوع السلام .. فلقد حللّت أنا شخصياً بأن المنظمة أعطت سياسياً للانتفاضة وأهلها كما لم يعط العرب أجمعين للقضية الفلسطينية .. ففي الوقت الذي غابت فيه طروح العدالة والتشريعات الإنسانية ، وقتلت إسرائيل الأبرياء وهدمت البيوت وسجنت وعذبت وكان متوقعاً من منظمة التحرير عمليات فدائية لتدعيم الانتفاضة.. أعلنت المنظمة رغبتها بالتفاوض والسلام وضيعت الفرصة على الكيان الصهيوني .. من أن يروج معتوهاً للعالم من جديد بأن منظمة التحرير وأهل فلسطين سيلقون اليهود في البحر .. وأنا مع موقف المنظمة المشرف السياسي الحذر وأرى أن الكثير من المكاسب والإيجابيات تحققت وستتحقق من خلال ضبطها للنفس وانسيابيتها المتينة الواثقة .. والآن أتمنى لو تقول لي كمطل مباشر على ساحتنا الداخلية ما هي الإنجازات التي خلقتها الانتفاضة داخلياً لأن هذا ضروري ومهم جداً ..؟؟؟
ج ـ على الصعيد السياسي فلقد تبدلت صورة الزعيم التقليدية .. فالانطلاقة كانت جماعية وشعبية .. وأصبحت القيادة جماعية الكل يشارك فيها دورياً يوم أنت ويوم أنا ويوم ذاك ويوم جارك .. وتجلت المفاهيم الثورية الجماهيرية المطالبة بإحقاق الحق .. فاشترك الجميع دون استثناء .. وهذه تعبئة تعجز عن خلقها أعتى القيادات .. الفردية والزعامية ..
وأيضا على الصعيد السياسي أوصلت الأصوات الثورية في الداخل قضية فلسطين بالعمل والممارسة وكشفت الأوراق الإسرائيلية كلها .. وهذا كان من الصعب تخطيه فتعرفت على زواياه كل أجهزة الإعلام العالمية .
ثانيا على الصعيد الاقتصادي .. فلقد تعمق الوعي في مسألة الإنتاج الوطني وضرورة تحقيق الإكتفاء الذاتي .. وأصبحت بضائع الاحتلال رذيلة لا يجوز تعاطيها وتلاشي الإحساس بضرورة شراء البضاعة الأجنبية ، ولم تعد محصلة الجودة العالمية .. وحني اقتلعت أزهار البيوت وزرع بدلاً منها خضار في حدائق المنازل لمواجهة الحصار قلنا بضرورة تحقيق الإكتفاء الذاتي الكامل وتداخل الصمود المادي بالصمود المعنوي .. ليرْقى إلى أفق المقاومة الشاملة وسيطرت الإشتراكية الاقتصادية على كل البيوت .. فتقاسم أهل القرية طعامهم وعملهم وقوت يومهم وازدادوا التصاقاً لتتويج الحاجة أم الاختراع ، أما على الصعيد الاجتماعي .. فلقد تراخت الأطر العشائرية والطائفية وتحقق تماسك ملحوظ في الأطر الوطنية .. القومية وتناثرت مع قنابل الغاز وصفير الزجاجات الحارقة ثارات قديمة وحمل الأهل عنوان المصير المشترك ، وقدمت الانتفاضة لجماهيرنا درساً رائعاً في الإنضباطية والتفاؤل الثوري والتلاحم بين اليد واللسان والتماثل بين العقل والقلب ..
إنها إمكانات جديدة لطقوس اجتماعية أروع وأرقى في علاقاتنا الفلسطينية التي ليس لنا طريق سواها لنتعاضد .
الحلقـة الثالثـة
س ـ 24ـ سميح ليتني أستطيع أن أقرأ صلوات الفجر الفلسطيني الآتي في عينيك ..؟
ج ـ في عيني نذر الشعراء القادرين على جس المرئيات بحاسة السمع استمعي وشكلي من كلماتي مجسمات تتنفس .. تعرفين حينئذ أوجاعنا الرصاصية .. المطاطية .. البلاستيكية .. الانفجارية .. الانشطارية .. وتخترقين حواجز الحدود الفولاذية لتلقي قنابل الغاز الشعثاء عن طريقاتنا يا عائشة ..
في عيني نذر للشاعرات العربيات وأنت أولهن في قلبك الأيام الواسعة محتشدة .. والعمر القادم يعوضنا ضياعاً تعبيرياً من قصائدك ودعوتك وإبداعك هذا النذر الرصين عتب وثقة نذر علي لو حمل الشعر فيكم يا أصدقائي حدقة الضمير وصدق الوجدان والتعبير لضبت أنفاسي وأسبلت عيوني بسلام تاركاً لكم الأمانة .. كيف لا تستطيعين قراءة صلوات الفجر الفلسطيني الآتي في أشعاري وفي عيني وفي مسبحتي .
س ـ 25ـ للشاعرة حق التساؤل والتمني حين تلتقي شقيق الروح أتى من بيت الأذان وأغاني الانتفاضة .. ومن بين صفوف المصلين في المسجد الأقصى النازف .. ولها أن تحجب عنك معرفتها بتراتيل صلوات الفجر الطالع عندكم .. لتسمعها على لسان الثورة في الداخل ..؟
ج ـ يا أيتها الشاعرة الغالية .. يا من أعتز بها ويفخر بها أهلها في أروقة بيوت تحيطها سنابل الحجارة إن تحطيم العظام وقتل الأطفال وإجهاض الأمهات ودفن الأحياء واقتلاع الأشجار الثمرة وإهانة الشيوخ وتجويع الرضع واعتقال الطلاب والطالبات ودفع الشبان إلى الجدران .. وتفتيش صدورهم عن مخباتهم وهوياتهم وإغلاق المدارس والجامعات وبناء الحواجز الإسمنتية الشائكة في الشوارع واقتحام المساجد ومصادرة أثاث البيوت وغزو المستشفيات وتحطيم أجهزة التلفزيون على بلاط المنازل .. وتحطيم المحلات وخلط الأغذية على الأرض بالكاز والتراب ..
آه يا صديقتي الشاعرة .. وإن السماح لعصابات لصوص الأرض المسلحة بالتنكيل بأصحاب الوطن .. وعمليات السطو المحمي بالقانون المسلح وسكب الأدوية في المستشفيات في الأحواض .. ومنع الصلاة ومصادرة الأذان آه مصادرة الأذان .. كل هذا يا عائشة .. كل هذا الفضاء المدلهم من الغبار الأسود لا يمنحنا سوى القوة والصمود .. والتحدي والانتفاض .. وتتمنين لو تقرئين صلوات الفجر الفلسطيني الطالع .. هذا هو الأمل بقاؤنا في أرضنا تحت فيء السموم وتدمير البيوت على رؤوسنا سينظف الفضاء الأغبر ويطلع الفجر الفلسطيني .
س ـ 26ـ لست أكثر منك ألفة بالأشواك وكلن جواز سفرك الإسرائيلي الذي تحمله في ردنك يظلم بسواد لغته وبصمات مانحيه لسميح القاسم .. ويدميني عن بعد فأشعر بشوكة دامية .
ج ـ لا قياس للغة العبرية في صفحات جواز سفري .. لا قياس لسطور جواز مروري .. لا حجم أبداً لجنسية على الورق يا عائشة .. ولا حدود لزمني الفلسطيني فليقل القائلون ما يشاؤون .. ويتبارى الناعون في ميدان روحي فلن أخرج من دائرة حيفا ولن أركن للصمت أو أخرج للصراخ خارج أرضي ولن أتشبث بالحياة .. فأنا الحياة الموغلة في جحيم الثورة النابضة داخل الجرح لن أخرج لأستريح .. لن أنام شقياً خارج حيفا .. ولي الحق أن أغتسل من دمائي اليومية الساخنة .. لأستعيد قواي .. فلقد اعتدت على التجدد فوق مذبح المواجهة اليومية .. هذا الجواز المروري .. يمكن في جيبي قذراً متسخاً بالدهان الأسود اللزج يُشوّه ردائي فقط .. وكل يوم أخلع ردائي وأغسله بشدة فأجد أسمي وعنواني وسط الدهن اللزج الأسود أبيض ناصعاً ” نظيفاً ” يصرخ أنا عربي فلسطيني أنا عربي ..!!
س ـ 27ـ شعرُك المشتعل على إسفلت تل أبيب وأمام المستوطنات الصهيونية اتهموه بالمهادنة .. وعادوا واتهموه بأنه المسموح .. الذي يحمل ترخيصاً من شياطين المحتلين .. هذا الشعر كم حجمه في رئتيك وكم حجم اتهامات المتقولين في وجدانك يا سميح ؟؟
ج ـ ازداد حزناً على حزن لهذا الكلام يا عائشة .. ولكن يكفينا أننا نصفع المحتل الغاشم كل صباح بوجودنا .. بحناجرنا .. بقصائدنا بدمائنا .. إن الرهان ذو شطرين .. فإما نخضع لأقوال المهزومين هؤلاء ونترك البيت والصغير وشجر الليمون وأرانب حوش الدار للعابثين الصهاينة .. ونرضى الملفقين وهذا هو الذل والتصاغر وقمة الهزيمة .. وإما أن نشرب الإتهامات العربية ونحولها بلسماً يشفى جراحنا وجراح الأرامل والحزانى والمضطهدين أنا يا عائشة ذقت سياط السجون وكرابيج الجلادين الصهاينة .. ولكني أجلد من بني وطني بجلدات أشد قسوة .. لن نترك الأرض ونحن أهلها هل المطلوب مني كي أقول شعراً ” أن أنزح عن بيتي كما تنزح ورقة تين عن غدير رقراق لتموت بعيداً .. هل يرضى أهلي العرب أن أحمل ابني الأكبر وطن محمد من مكمنه وسريره وأخلعه لألقي به وراء الحدود ..؟ إن شعري يشهد وما يفعله شعري براجمات حقد الأعداء معروف ..
أطفال الانتفاضة نساؤها وشبابها يدركون كم هو مهم شعر أهل فلسطين
لا خوذة الجندي ..
لا هراوة الشرطي ..
لا غازه المسيل للدموع ..
يصيح كل حجرٍ مغتصب ..
تصرخ كل ساحة من غضب ..
يضج كل عبٍ الموت لا الركوع ..
* * * * *
هذا هو ما نقدمه نحن المنزرعون في أرضنا ومن تقول بعكس ذلك فليتقدم ويتذوق طعم شرابنا وطعامنا ونومنا وليتحسس بيديه حجم برتقالات عيوننا الفسفورية .. فليتقدم .. لماذا لا يتقدم ..؟
س ـ 28 ـ أنا أؤمن بكل كلمة تقولها وأدرك مدى الوجع الناتج عن انغراس سميح القاسم وكل أهلي الفلسطينيين .. وأعلم عظمة الدور الذي يؤديه المثقفون أهل الأرض .. لتوصيل الثورة وإبقاء جذوتها مشتعلة أحمى وأسخن .. حدثني عن النتاج الثقافي الثوري في أرضنا ..
ج ـ يا عائشة .. إن بكاء المجرم المتحضر على ضحيته التي يعتبرها همجية وولع المحتل الغاصب بأرض جريمته والرد بالراجمات التكنولوجية على حجر في يد طفل يتصدى لدبابة وطائرة ومجنزرة كل ذلك صار مألوفاً .. وكأنه من السهل التغلب عليه طالما نحن على ترابنا .. وهم في غمرة زمانهم .. نتاجنا الثقافي هو الوسيلة الحضارية التي تأكد لهم من خلالها انتفاء همجية الضحية فلقد ساهم نتاجنا بتدعيم وسائلنا الثورية المتعددة .. الصحافة الجريئة الناقدة التي استقطبت أركان كثيرة في الكيان الصهيوني .. المسرحية الواعية الحاملة للرسائل والأهداف التنويرية .. كمسرح الحكواتي .. القصيدة الملهبة المعبرة عن حياتنا السرمدية المتحضرة .. والحقيقة أننا حين نستقي من معاناتنا العجيبة ثروات لنتاجنا الثقافي .. فإننا لم نتناول أكثر مما يمكن أن يعلق بطرق الشوكة من مائدة عامرة بالحلو والمر والعلقم .. ولكننا لا نوفر أسلوباً أو نهجاً ثقافيا.. لأننا متحضرون ونتعامل مع أبعاد حياتنا بإنسانية ورقي ..
س ـ 29 ـ أعرف من خلال حديثك هذا بأن الثقافة في أرضنا المحتلة نتيجة ثورة شعب .. وفي مفهومنا نحن الشعراء أن الثورات تنجب حضارة دائماً وحضارتنا كانت مختزنة كالأجنة فينا فهل آن أوان ولادتها كاملة لتصرخ وتتنفس بانتشار وامتداد ..؟؟
ج ـ لا أخفي عليك أن الكلمة الفلسطينية النارية بسطت وجودها الآن بفعل الواقع الثوري المعاش .. لأنه لم يعد فينا وعندنا كوابح توقفنا عن المسير الثورية أو الثقافية أو نظرية الوجود وصراع البقاء .. وأستطيع التأكيد على أن جرأة الأدب تشكل الآن صرخة في فلسطين .. ولكن سأنوه بصراحة .. وأرجو اعتبار حديثي مسجلاً لا يمحى .. ليس على شريط الكاسيت الذي يمتص حديثنا الآن .. ولكن على تلافيف دماغك كشاعرة فلسطينية وهذا ضروري لجميع شعراء المرحلة ..
إن اقتحام موضوع الانتفاضة والثقافة بمنظور السبب والنتيجة يقلني والمهم هنا أن أقول إن الانتفاضة يا عائشة لم تكن سبباً فحسب .. وباعتقادي أنها نتيجة .. وستتأكدين من ذلك حين تعودين لاقتحام مساحة تاريخ الأدب والشعر الفلسطيني .. وستعثرين على منطق مقنع مفاده أن الثقافة ليست نتيجة فحسب بل ستجدينها سبباً من أسباب رسم خطوط انتفاضتنا وخريطة أوضحت تضاريس ثورة قادمة بشكل أو بآخر .. وقد هالني حين طفقت أعد أنتولوجيا الشعر الفلسطيني أن أجد الحجر والغصن وحفنة التراب والصخرة والجذور والبذور .. رموزاً غامرة في الشعر العربي الفلسطيني وحين أطلعت على نتاجنا الثقافي وجدته قد خطط لثورة الحجر وألبسها الكوفية وشارة النصر ووضع ملامح الانتفاضة وأعطاها هوية خاصة .. كان النتاج الثقافي الفلسطيني يعد شعبنا فتشرب شعبنا جرعات الشعر والحماس والثورة .. وانطلق بخطىَّ واضحة ثابتة على خطوط معبدة ، ولا يجوز ولا يمكن أن تعني هذه الملاحظة تقليلاً من شأن الانتفاضة في الثقافة العربية وأزعم أن الأثر الحقيقي لهذا الزلزال الذي أعاد اصطفاف طبائعنا وأفكارنا بشكل أرقى سيظهر مستقبلاً ذلك أن تعبيرنا عن اللحظة المعيشة يختلف قطعاً عن انعكاسات هذه اللحظة وتداعياتها بعد عبورها .
س ـ 30ـ هل هناك أشكال أو صيغ بمقدورنا التعبير عن التجربة ..؟؟
ج ـ طبعاً .. إن الصيغة الراهنة المتعاملة مع حركة التجربة ومضامينها ونتائجها ومواقفها .. وبطولاتها كذخيرة حية يجب الانتباه إليها وتدوينها بأساليب لا تقل عن أساليب الممارسة الثائرة والصيغة الثابتة وهي المرجاة التي تتعامل مع التجربة بسكون كالدخان الذي يدوم طويلاً وفي تشكيلات شتى بعد خمود النار .. وهذه الصيغة طبعاً تحمل التجربة برموز وأبعاد فنية عالية .. ولكن لا أستطيع المفاضلة بين ما يكتب اليوم لإشعال الثورة ويمنحها وجهها المطلوب .. وبين ما سيكتب مستقبلاً فلكل نتاج مقوماته الفنية والنفسية والبرهان موجود فقصيدة الانتفاضة المنجزة الآن تتفجر وتتشظى على إيقاع المجابهة الدموية المشتعلة في الحارات والشوارع والبيوت . وهي ضرورية كالفتيل المشتعل ..
س ـ 31ـ هل تتصور أن قصيدة الانتفاضة ستكون أكثر عمقاً مع نيل المطالب .. ويخبو أوارها وضجيجها ؟ وتصبح أكثر هدوءا وتغوراً للذات ؟؟
ج ـ كما تعلمين فإن بناء دولة فلسطين المستقلة هي غاية الانتفاضة وحين ينال الفلسطيني غايته تتجمع أفكاره وآماله الكبار بقصيدة ممهورة بالتركيز والتأمل ، ودعيني أقل لك أن قصيدة الانتفاضة المعبأة بالضجيج والثورة لها وظائفها وأهميتها ومفعولها وهي مطلوبة كما يطلب الثائر موسيقى لخطواته الثائرة ليرقص عليها رقصة الفداء دون الثورة ونيل الدولة المستقلة .. يفرض التعمق والهدوء لمراجعة الكثير من الحسابات والنتائج ، وإن عملية الشعر عملية علمية دقيقة لتتناسب مع الظروف والمتغيرات لأن الثورة لا تنتهي عند حد .
س ـ 32ـ لكنني يا سميح أدعو المثقفين الفلسطينيين والعرب لأن يقدموا شعرهم وأدبهم الهادئ المتأمل المتعمق في أغوار النفس البشرية للعالم خلال فيضان الانتفاضة وتأجج شعلتها .. ليسهم العالم باستيعاب قضيتنا كما يفهم هو .. ونخاطبه بلغته ونجعل للانتفاضة لغتها الخاصة بأهلها ولا ننتظر القصيدة الهادئة لما بعد .. أن أي سبيل في هذا المضمار يعجل بحشد الرأي العام العالمي فمثلاً أنا سأصدر ديواناً من الشعر الفلسطيني باللغة الإنجليزية وقد جمعت قصائدي المنطوقة باللغة الإنجليزية والمكتوبة على مدى عشر سنوات .. لأوزعها في سخونة المرحلة عالمياً .. لتقديري أن القلوب مفتوحة الآن بحب الاستطلاع والاستقصاء وعلينا أن نسارع ونعجل بمخاطبة الضمائر في شعوب العالم بهدوء وتعمق وروية كي نكسب الجولة ..؟؟
ج ـ صحيح .. إن العالم الآن أكثر جاهزية لاستيعابنا من ذي قبل .. وقد خفت حدة البلادة والتجاهل عنده .. وخفت نسبة الانحياز .. وكما قلت بالضبط علينا الآن توجيه شعرنا وأدبنا بحكمة وعمق إلى العالم .. ومن يستطيع منا كتابة القصيدة بأية لغة عالمية فليقل الآن كل شيء يسهم بتوضيح صورة الفلسطيني يكون له أثر إيجابي على فلسطين وأنا سعيد جداً بعقليتك وأدبك وفكرك هذا ..
ـ أعتقد أن علينا الآن الذهاب لحضور الأمسية الشعرية لأصدقائنا الشعراء فاروق شوشه وفاروق جويدة وسعاد الصباح وبلند الحيدري .. فلقد قاربت الساعة على السادسة والربع الآن ..
وغادرنا لحضور الأمسية الشعرية والحديث لا ينقطع ..
في الساعة التاسعة انتهت الأمسية الشعرية ورجع الأدباء إلى الفندق .. وحين دلفت المطعم النوبي كان الدكتور سمير سرحا رئيس هيئة الكتاب والأب الروحي لمهرجان معرض الكتاب يجلس مع الأستاذ أكرم مصاروة مدير مهرجان جرش فانضمت إلى مائدة الصديقين وطفقنا بالحديث وكان للجمبري المشوي نكهة الغذاء المصري اللذيذ حتى الساعة الحادية عشر أنضم إلينا خلال ساعتين ثلاثة شعراء من نخبة الأصدقاء المغموسين في الشعر .. الشاعر محمد علي شمس الدين والشاعرة مليكة العاصمي والشاعر شوقي بزيع .. والحقيقة أن مشاعر كل منا كانت تقف عارية عاجزة عن التعبير ومغناطيس مهرجان معرض الكتاب يلم شتات الشعراء والأدباء العرب ليحمي القنديل الفكري العربي من رياح الغربة .. تحدثنا عن إمكانية منع الإنهيار اللغوي والثقافي .. ودار حوار متشعب الجوانب حول مائدة العشاء .. تحدثنا عن العدالة والحرية وشاركنا بعضنا بآراء دفينة احترنا كيف نتنفسها بسهولة حين نلتقي ..!!
كل مجموعة من ضيوف المهرجان تفرغ شحناتها الفكرية .. نجلس على المائدة لنتناول الطعام فنحوِّلها إلى ندوة..حتى أن الطعام يكاد يشكو ويقول كلوني كل طرف يجسد مسرحاً عربياً للأحداث والهواجس فمهرجان معرض الكتاب صاحب منهج مختلف .. قناعاته وملامحه تترك آثاراً عميقة في الحياة الأدبية العربية يقلب الكثير من الموازين السائدة ويلغي مفاهيم الروتين المتقن .. كل مبدع يحمل قلبه وهويته معه ويأتي وكل هوية ترفع لوناً مضمخاً بألوان خاصة لون الهم والحزن والعذاب والخوف على الأولاد من القصف والموت .. كان لون يدي محمد علي شمس الدين ، حين صافحته هالني احتراق يده اليمنى .. وجرحها العميق النازف دماً ..
قلت له سلامتك .. فقال احترقت يدي قبل حضوري بثلاثة أيام .. اشتعلت النار في البيت .. إثر انفجار أصاب المطبخ .. أسرعت أطفئ النيران بيدي وبملابس الأطفال والبطانيات ..
نظرنا في عينيه الزرقاوين .. كسماء لبنان المتوهج بغضب الأطفال .. هذا هو لبنان ومبدعوه شعراء المعاناة .. يلفون على جراحهم ابتسامات من خطوط العيون الصبورة .. ويأتون لقول الشعر في مصر لا يترددون عن لمس أوجاعنا .. ونحتشد من كل زاوية عربية وكل زاوية يمثلها قلب جاء ليحكي عن الفرح القادم والسياسة والثقافة والفن .. جمعنا مهرجان معرض الكتاب في القاهرة لنتفجر وضوحاً وننشر تمزقنا على حبال النهاية لنعود نأمل من جديد ونحلم من جديد .. ننسج حول الرفاق والرفيقات غلالات لا يكاد الحب العربي ينساها .. نتمازج برهانات الوحدة العربية ونقول : ـ مثل هذه المهرجانات العربية الحميمة الأليفة تجعل لنا جذراً لأطروحة التوحد الجامعة .
ومن المغرب طارت الصديقة الحبيبة مليكة العاصمي حاملة لنا معها سمرة جبل طارق المعشوشب وحدثتنا بلهجتها المحببة دون أن نمل صف التعبير المطروح على المائدة .. نحن في مهرجان القاهرة هذا لم نعطل ذهابنا وإيابنا بل أشعلنا فتيل السراج المنتظر وكورنا الإشاعات القاتلة ضد الثقافة وألقينا بها في النيل فأذابها فوراً ..
شرخ عميق انفتح في قلب الصديق العزيز شوقي بزيع .. حين قال جاء محمد علي شمس الدين مثقلاً بحروق الحرب الدامية مشجوج الصدر على الأولاد وجئت أنا لأصرخ شعراً آه يا لبنان .. فليس لدي طفل ولا زوجة .. أخشى الزواج لأني وزعت قلبي على أطفال غيري وبقي صدري خاوياً إلا من الشعر والنبض المجهول مصدره ..
وحين قال الدكتور سمير سرحان .. نحن لا نلم عيون الشعراء هنا لنواسيهم ، ولكن لنكشف عن حدة الصمت ونبني من أفكارهم وقصائدهم جدران البيت العربي في غمرة البحث عما نحتاج .
ومثل الدكتور سمير سرحان صور مدير مهرجان جرش أكرم مصاروة لحظات استقباله لضيوف مهرجان جرش وقال : ـ أفقد اللقطات التي تؤلم قلبي العربي وأتوهج بفرح لا حدود له أملاً واستبشاراً بوحدة صف المثقفين .
وما أن حان موعد انصراف الجميع لمحت ساعة جدار المطعم تشير إلى الحادية عشرة .. فتبادلنا التحيات على أمل اللقاء في الصباح ولم أرَ سميح القاسم ولا إميل حبيبي .. فراودني شعور بأنهما حضرا متعبين واستراحا .. وأنا أدرك حجم التعب والإرهاق الذي نصاب به خلال مثل هذه المهرجانات العربية .. نود لو يطول اليوم لأربعين ساعة ونكثف جهودنا وتبقى للزمن حناجرنا تبدد صمت الكون وبلادة الثلوج .. تبقى حناجرنا تطلق قصائدها وتحكي الضمير ولا تستكين
وصلت غرفتي وأنا أكثر رغبة بالنوم من النوم نفسه !! لكن جرس الهاتف أبى إلا أن يوقظني بعد إغفاءة قصيرة جداً إنها الصديقة الحبيبة المصرية الشاعرة وفاء وجدي .. تطمئن على صحتي من بيتها في بنها .. سألتني إن كنت أكلت المشلتت أم لا .. فقلت لها طبعاً وهل أقدر على مقاومة مشلتت صنعته لي أختي الحبيبة وفاء ؟
ذكرتني وفاء بقراءتها الشعرية يوم الخميس في الأول من شباط .. وتمنت لي نوماً هنيئاً وشكرتها على رقتها ووداعتها ونمت حتى السادسة صباحاً لأنهض وأشرب حليبي وأكتب بعض المقالات المطلوبة مني لمجلة الهلال والمصور .
ما أن شارفت الساعة على الثامنة حتى رن جرس الهاتف وكان المتحدث هو الصديق الكبير صالح مرسي يسألني هل وصلت الفاكهة .. المانجا والأزهار وما كاد يكمل سؤاله حتى دق باب غرفتي وحضرت الأزهار والفاكهة .. فتجاذبتني مشاعر الاعتزاز العظيمة الغامرة لقاء كل هذا الحب المصري والود الشفيف أحسست أني أمتلك العالم بين عيني فلا أعود أسأل عن جرعة ماء .. هذا الإجلال والاحترام والتكريم يستولي على دموعي فيغيرها لابتسامة واثقة فأنا كشاعرة عربية وفي بلد عربي يبعد بيتي عنه آلاف الأميال .. أشعر الآن ن بيتي واعتباري يسيران معي ويحطان رحالهما مع صغاري .. وكإمرأة عربية تتسرب من حنجرتها اللغة والشعر ومن رأسها الوجع والفكر .. أعثر على كياني بين أهلي المثقفين في تجمعات الأدب والثقافة .. فلا ينقصني سوى الفرح .
أكملت حديثي مع الصديق الروائي العربي صالح مرسي وأخبرني أنه سيحضر لشرب فنجان قهوة مع الأصدقاء .. فسرني ذلك كثيراً وبعدما أقفلت السماعة تناولت حبة من المانجا المرسلة من صالح مرسي وإذ ببطاقة مكتوب عليها إلى الشاعرة العربية الكبيرة والحبيبة عائشة الرازم ..وقرأت التوقيع وكان:ـ حمادة صالح مرسي وماما فتناثرت خواطري على أميال مديدة تبحث عن أطفالي الخمسة .. ترى كيف حالهم يا رب ..؟ اليوم الاثنين وهو موعد اصطحاب والدهم لهم إلى حديقة الطيور في المساء .. لا بد أنهم سعداء .. سعداء .. هكذا يجب أن أتصورهم للتخفيف عن عبء روحي .. فلست أنا من تستطيع أن تتخيل غير ذلك .. لو تخيلت غير سعادتهم لارتفع ضغطي فوراً وناءت مفاصلي واضطرب نبضي واجتاحني العرق وعم الضباب ناظري .. ولو تصورت غير ذلك لحملت نفسي في مقعد بليد ورجعت لأشاهدهم يقفزون ويركضون وراء الكرة وعلى أجنحة الدراجات .. !! ولكن ما الذي يتسرب إلى خيوط دماغي ..؟ ويطعمني بذرة البكاء وقشور الوجع ..؟ إن يد محمد علي شمس الدين لم تفارق واحة دماغي .. إنها ماثلة في تلافيف مزاجي الحزين .. أولاده الصغار .. الآن يحتمون بجدران الملجأ في بيروت الغربية .. تتناهش القذائف خبزهم ودراجاتهم وحقائبهم المدرسية وتتسابق باستلاب أجمل دفاترهم وأحلى صفحات الامتحانات التي تفرقوا بها .. أنا كحاسوب أغش صبري بغلواء الطمأنينة في ذروة خوفي على أطفالي .. وأستعيد قدراتي على تأليف سيمفونية النغم السعيد وأستقل بنفسي من أجل القصيدة في القاهرة .. وأطفال محمد علي شمس الدين ..؟؟ القصف .. ووحدة الموت والبراءة العضوية تقوم كدقات الساعة على رسغ الشاعر الجريح .. من يدري بتوازي نغم الحداء المركب وشعرك المعذب الموغل في إطفاء حريق البيت في بيروت الغربية ..؟؟
تناولت القلم ودلقت الحبر على ملاءات السرير وبعثرت أوراقي وأطفأت مكيف الهواء الساخن وغضبت .. وغضبت .. حتى ارتفع صوت القصيدة نحيلة دامية أصابعي كأصابع أطفال محمد علي شمس الدين وصرخت حنجرتي وأمرتها بالبرق والرعد أن لا تستريح وأن لا تريح .. كتبت : ـ
ماذا لو انحفر الخندقُ اليوْم
في السَّاعد المنشوي
ولا رشَح الماء بْرداً
على السَّاعد الحِّر كيْ ينطفي ..؟
وماذا لو استنْبتَ الحرُّ
زهْراً على الكفِّ
يرْجو سيولاً من الماءِ
والزَّهْرُ في النّاس ليْس قنوعاً
ولا يرْتوي ..
ويشْربُ دمّ الأظافرِ ..
والشَّاعرُ السَّاجدُ ..
اندْاح شعْراً .. وقافيةً للحوارْ ..
وللإصْفرار ولون البلازما .. سلاْم ..
سلامٌ .. لتلوْيح جلْد الأكفِّ
وتقشير هذا النضارْ ..
يقولُ الصغّارُ .. أبي ..
يا أبي ..
احْترس إنَّ غازاً أوار ..
يعبِّقُ أنفاسنا بالمغيب
ويملأ أضلاعَنا بالدُّوارْ ..
لا وقْت للصبر .. للإنتظار ..
تلعلعُ نارْ ..
وتجْثوا قريباً ..
وتنشرُ حوْل السّجاجيد ..
غيْم الغُبارْ ..
وتختنقُ القبراتُ بأقفاصها ..
ضَعْ عليْها الدّثارْ ..
أبي .. يا أبي ..
هدِّي النّار ..
نعرْفُك .. العُمر هوْلاً
وأنت نبيُّ القصيدِ
وتحضرّ فيكَ الصَّحاري
ويعْشبُ قحْط القفارْ ..
وتضْحي البراكينُ بينْ يديْك اعتذارْ ..
أبي .. يا أبي ..
نسْخنُ الآن .. خوفاً
فيا ربُّ .. يا حبُّ .. يا درْبُ
أينْ الفِرارْ ..؟
أجفَّ الشرابُ .. وجفّتْ مياهٌ بهذي الدِّيارْ ..؟
لكَ الآن أنْ تستوي
لا بتاجٍ وغارْ ..
وأنتِ المهولُ بأنظارنا لا يحارْ ..
حصارٌ .. حصارْ ..
وماذا لو احترقْت سنبلاتُ النُوارْ ..؟
وعُدّت محارقُ لبنانَ ضدّ النبيين ثارْ ..
لنا شمعة الأقحوان وللنّار
دحنون دارٍ لنا في اسْتعار ..
لنا شمْعة وتذوبُ تذوبُ ..
ويغفو الصغارْ ..
ويبكي السّريرُ .. وتبكي المخدّاتٌ
ينتحرُ الدْبُ .. يُصرخ إنيّ
وطقس الضحّايا ..
عدوٌّ لدودٌ على الإنتحارْ ..
أبي أطفئ النار ..
أنيّ هربنا صُدمنا بنارْ ..
وزردشتُ يرنو بحزن ..
ولا يشْرقُ الضوْء
يصْرُخ حتىَّ التوقُّد ..
لا للإله المعفو موْتاً ..
كفرتُ بنار مداها سُعارْ ..
توقَّف زردشْتُ عن حبه
فما عادت النَّارُ نفعاً وضوْءاً
وخفَّ بزردشت هوْل الوقارْ
فأحضَرَ آنيةً عبّاتْها دموعُ الإله
وناء بزردشت دمْع احتضارْ ..
وما استخْرج الماردُ الطَّاهرُ
اللَّوْن حتىَّ يرقِّمَ تسْعاً طهارْ
دعاءُ الإلهِ ونقْشُ المعابد ..
عيدانُ عطْر ..
وريحٌ .. وطيبٌ ..
وجوْهَرةٌ معْبدُ النّار صارْ
يومضُ .. يومضُ ..
يا زردَشتُ
أرى خاتمَ الشَّاعر
احْترق الآن ..
فافخرْ بنارك قد ذوَّبتْ جوْهَر العْظم ..
قد أوجَعتْنا ..
ونطَّهرُ الآن .. لا لا نموتْ ..
فيا أعجميَّ القصائد .. بشِّرْ
بفرْدوْس أحْيائنا ..
بشَّارْ ..
هنا .. ومتى ..؟
” كانت الأرضُ مظلمةً والنارُ مشرقة ..
والنَّارُ معْبودة .. مذ كانت النَّارُ ..”
مجوسٌ .. يجوبونَ رُقْعة بيْتي ..
وزمزمة من شفاه السكون
كشهْوة موْتٍ ..
ولكنَّي الخضرُ ..
والخضْرُ .. حيُّ ..
ويطغى على النَّار ..
يُطْفئها ولا .. لا .. يموتْ ..
فيا خَضْرُ ..
خُذ جذْعَ هذي الأكاليل ..
خضراء .. خضراء ..
ضعْها على موْكب ، الرَّقص ..
سيْراً إلى ضفَّة النًّهرْ ..
ثُمَّ اغطُسا ..
سيحميْكَ ثوْبان ..
بشرى المواسم ..
عشْب طري جديدُ ..
يُباركُ نار الأنامل ..
طيبُك الإخَضرار
وقُلْ للصغارً ..
سسنقْهرُ تنين لبنْانَ
نقطعُ أرْؤسه السبْعة الآن ..
حفوَّا بأيقونتي ..
فالجوادُ سيصهلُ ..
خاضَ صراعاً وأطْفأ تنين نارْ ..
وهاتوا من البيت أمَّ الصغارْ ..
اسعفوا وجْهها اجتاح دمعي
فلوْني أصبحَ أخضر .. أخْضرْ ..
لا نار تصْلي يديَّ ..
ستجلسُ فوْق الطَّنافِسٍ ..
والهْودَجُ الأخْضَرُ ..
اجْتاحَ كلَّ المواني
وبيروتُ .. تبكي وترْحَلُ في النَّاس ..
لكنْ تُغنيِّ ..
قد اتشَّح الثَّوبُ .. أخضرْ ..
قد ثبت العشْبُ تحْت جناحي ..
وفي قدميّ ..
أنا الخضرُ ا1.. الخضْرُ ..
قديسُ محنتكم
في المدارْ ..
* * * * * *
قاربت الساعة على العاشرة ففطنت إلى أني لم أتناول إفطاري .. فأسرعت أغادر غرفتي إلى المطعم دون أن اكتشف صوت معدتي الخاص .. فكل ما كان يتذبذب في كياني هو موت نحلة على كف محمد علي شمس الدين باستثناء الأصوات المتفردة الباحثة عن سميح القاسم ولماذا لم يهاتفني منذ أمس وأنا أعني بحدود لقاء طويل ألتهم إجاباته بعقلانية الأنبياء ومثالية القصيدة ..
وفي ذروة انسيابي إلى المطعم .. اغتالني الخوف من سفر سميح أو مغادرته الفندق إلى فندق آخر .. وكيف إذن أنجز قصيدتي الطويلة العابقة بياقات الأزهار الملونة والملفوفة بأقواس النصر ؟ وفجأة شاهدت الصديق الشاعر ممدوح عدوان وزوجته يحتسيان القهوة في الصالة .. وشاهدت الشاعر العزيز توفيق زيادة وزوجته يتناغمان حديثاً .. وكان الشاعر الصديق حميد سعيد والشاعر الصديق عبد الرزاق عبد الواحد والدكتور محسن الموسوي يشربون قهوة الصباح .. ولمحت الروائي حنا منية والقاص بهاء طاهر ينزويان بالحديث معاً .. وشاهدت السيد أكرم مصاروة يشرب قهوته مع الشعراء . وشاهدت .. وشاهدت .. أما سميح القاسم وإميل حبيبي فلم يشاهدهما بصري طبعاً استعجلت السؤال حال وصولي الصالة .. فارتفع صوتي مستفسراً أين ذهب سميح القاسم
وإميل حبيبي ..؟؟؟ هل تركا الفندق ..؟؟؟ فأجابني توفيق زياد : ـ لم أشاهدهما اليوم إطلاقاً ..
لكن الشاعر ممدوح عدوان صاح من بعيد ربما مازحاً : ـ احتج سميح القاسم لاستحواذك الحواري عليه فغادر مصر كلها .. يقول أن أسئلتك له متعبة ورد عليه الشاعر الصديق عبد الرزاق عبد الواحد :ـ لا علمت أنه يرفض اللقاءات الصحفية الطويلة ويمل منهل وهو الآن يعطي أحاديثه القصيرة لآخرين
ابتسمت ووضعت المسجل على المنضدة وأنا أقبل زوجة توفيق زياد وقلت : ـ صار لإكمال اللقاء والحديث مع سميح أهمية الحلم .. فقال لي توفيق زياد :ـ أصلاً سيكون هذا الحديث من شاعرين فلسطينيين ذخراً لذاكرة معبأة بصوت التاريخ وحوادثه وصوت الشعر الفلسطيني .. والحقيقة أني أشكرك على جهودك .. في الوقت الذي تستثمرين ساعات رحلتك الأدبية لتمنحي الأجيال معلومة واضحة غنية : وأضاف بنكتته الرائعة .. لكنه سافر اليوم .. ما كاد الشاعر الصديق توفيق زياد يخبرني بذلك حتى شعرت بوخزة حادة في قلبي فجلست بناءً على دعوة من الجالسين لأشرب فنجان قهوة .. وفجأة ابتَسَمَتْ لي زوجة الشاعر ممدوح العدوان قائلة : ـ هل تحبين الذهاب إلى السوق ..؟ وبدلاً من أن أجيبها على سؤالها قلت لها : ـ لقد تذكرت أن سميح القاسم سيقرأ أشعاره غداً ولا أعتقد أنه سافر كما إنه لم يخبر أحداً بنيته على السفر .. وتحول الموضوع فجأة من جد إلى أكثر جدية حين أقبل علينا من مدخل فندق الشيراتون هيليو بوليس طويلاً شامخاً الروائي العربي صالح مرسي فاستقبلناه وصافحناه وتجمع الأصدقاء حوله ..
خلال شربنا القهوة تبادلت الحديث مع توفيق زياد وحرصت على تسجيل حديثه الثري لتعزيز وريقاتي بدرره .. وكان سؤالي له : ـ
س ـ 1ـ ليتك تحدثني عن موضوع الإذابة .. وهي التي يجند لها العدو الصهيوني كل طاقاته الفكرية والقمعية حتى لا يبقى على الأرض من يقول أنا فلسطيني .. وحدثني عن بطولات أهلنا بالتصدي لهذه الخطورة وخصوصاً الذين يحملون جوازات السفر الإسرائيلية !! وهنا .. ابتسم توفيق زياد وعاد وعبس واشتد فرأيته يشبه صورة جغرافية مرسومة ملامحها أمامي بشكل خريطة فلسطين وتضاريسها .. فأحسست أنه هذه المرة سيتحدث جاداً .. هذا لأني حاولت تسجيل حديث له أكثر من مرة لكنه كان وفي كل مرة يملأ الجو صخباً ونكات وشعراً ويخرج عن السؤال ويخلق من الجو رياحاً للضحك الطفولي مما كان يدفع زوجته للترفق به تماماً كترفقها بطفل يبتدئ المرح الحياتي أمام عائلته .. فتارة تطلب منه أن يكون جاداً وتارة تضع يدها على كتفه تدللّه وتضحك حتى الغرف في الدموع معنا .. ولكن لا أذكر أنه أجابني على سؤال جاداً .. وأذكر أنه كان يرفض الحديث عن عطائه الشعري مفترضاً بالجميع وآملاً بالجميع أن يعرفوه دون سؤاله .. وحين بادرته بمقطع الشعر الرائع الذي نحفظه في كل سكناتنا ..
أناديكم وأشدُّ على أياديكم ..
وأبوسُ الأرضَ تحت نعالكم ..
وأقولُ أفديكم .. أناديكم ..
حين بادرته بهذا المقطع .. صرخ غاضباً وقال : ـ لا تحفظون غير هذا المقطع لأنه مغنى ؟؟.. مجانين !!! ليتكم تحفظون غيره لي ..؟؟ إقرأوا ماذا كتب توفيق زياد .. يا مجانين ..!! يا مجانين ..!!
وطبعاً لم يكن بوسعي إلا أن أركز نظري في ملامحه وهو غاضب .. وأهز رأسي مقدرة كل كلمة يقولها .. فعلاً .. أنك يا توفيق زياد على حق .. ولك الكنز الموروث بالشعر الفلسطيني المقاوم .. قل ما تشاء .. فكل لفظة تسقط في قلبي وترتع ولا تتناثر خارجة ..
أما اليوم فإن توفيق زياد كان مختلفاً .. ابتسم فخفت أن يغير الموضوع ويحوله إلى رداء خفيف يحتاجه في غمرة زنازين العذاب .. لكنه قال لي بعد أن شد ملامح وجهه .
ج ـ يا عائشتي .. حلوة يا عائشتي ؟؟.. زوجتي تحبك كثيراً ولن تغار انتبهي كيف تنظر إليك الآن بحب الأخت الكبرى .. يا عائشة .. يا شاعرة الأكباد الملتهبة والأحزان .. الأمر خطير .. وهي أخطر مرحلة في تاريخ فلسطين .. ولكن لن يتحقق لهم ما يريدون ..هذا أمر كبير وبحاجة لعناية الكبار كبار النفوس والرؤوس ، يعني المفكرين العرب .. الذين تعنيهم حياة فلسطين وبقاء اسم فلسطين .. هل تدرين أن المعلومات التي يتلقاها أبناء فلسطين في مدارسهم عن تاريخها تمارس بتخفيف الصلة والتواصل بين أبنائها وبينها ..؟؟
يا سلام يا عائشة .. إن شعراء فلسطين هم الآن شمعة الكلمة التي تحمل حب الوطن وتتضخم بجغرافيته وتاريخه وتراثه وهم الذين يرسمون وينقشون الوصايا للبقاء الذي يحافظ على الشعب الفلسطيني والهوية .. مهما تكاتفت المصاعب والأهوال .. الشعراء .. نحن .. سياسيو المرحلة الماضية والحاضرة والقادمة علينا العبء الأكبر بالتوجيه .. أعجبتني قصيدتك التي قرأتها في معرض الكتاب .. وصفقت لك طويلاً مع الجماهير هل تذكرين المقطع القائل :
صدِّقيني يا أخيَّة
في الوغى أبْقى طويلاً لا أُضاهي بالرَّعيَّة ..
كلُّ هذي النَّار ..
لم تحْرقْ حذائي ..
لا .. ولَنْ تصْلى الهويَّة ..
إنَّ هذا هو الشعر الذي نريد كي نسقطه للتوجيه والتوعية والنصح للأجيال الفلسطينية .. نحن في فلسطين نرفض الذوبان في المجتمع اليهودي .. وبقاؤنا وتكاثرنا مع الاحتفاظ بهويتنا العربية الفلسطينية وهذا يقلق الغاصبين ..
نعلن أننا باقون مهما لقينا من العذاب والاضطهاد .. نعتزُّ بهويتنا الفلسطينية .. يا عائشة إنها البندقية المصوبة إلى صدور الأعداء ..
هنا على صدوركم باقون كالجدارْ ..
وفي حلوقكم كقطعة الزُّجاج كالصَّبار
وفي عيونكم زوْبعةٌ من نارْ ..
ننظِّفُ الصُّحونَ للسادات ..
ونمْلأ الكؤوسَ في الحاناتْ ..
حتىَّ نسلَّ لقْمةَ الصِّغارْ ..
من بيْن أنْيابكم الزَّرقاءْ ..
ونَصنعُ الأجيالَ جيلاً ثائراً ..
وراء جيلْ ..
كأنَّنا عشْرون مسْتحيلْ ..
في اللد والرَّمْلة والجليلْ ..
إنَّا هُنا باقون ..
فلتشْربوا البحْرا ..
* * * * *
سمعتِ يا عائشة كيف نقاوم الإبعاد والتذويب ؟ بعناد وإصرار ونستطيع إنجاز المطلوب .. أما الخروج والبعاد والنَّحيب من بعيد فلن يساوي ثلث مفعول صمودنا في الداخل .. نحن أمجاد فلسطين .. نعم .
الحلقـة الرابعـة
أنادي جُرْحَكَ الممْلوءَ ملْحاً يا فلسْطيني ..
فلسطينيَّة شُبَّابتي ..
عبّأتُها .. أنفْاسي الخضْرا ..
وموَّالي عمود الخيْمة السَّوداء ..
في الصَّحْرا ..
وضجَّة دبْكَتي شوْقُ التُّراب
لأهْلهِ في الضِّفةِ الأخرْى ..
س ـ 32 ـ إنَّ الكلمة في المعركة رصاصة .. ويخشاها الأعداء وخصوصاً الكلمة الصادقة التي تخلق نبضاً للحجر بين أيدي الثوار .. وبين أيدي الصغار ..؟؟!
ج ـ إن الكلمة عندي يا عزيزتي ليست رصاصة فقط .. بل وأيضاً سلاح أبيض .. أوجهه له ولأعصابه وملامحه الغاصبة ..
وأُدميْ وجْه مغتصبي
بشعْرٍ كالسَّكاكين ..
* * * * * *
ثم تحرك توفيق زياد وقال لزوجته : ـ إذا لم تتبعيني إلى خان الخليلي الآن فسوف أتركك تكملين لقائي عنيِّ .. فضحكنا وودعناهما وسميح القاسم يقترب من المجموعة في الصالة وسعادتي بحضوره لا توصف .. وحين أخرجت شريطاً من حقيبتي أشار لي بيده لا .. لا.. وقال : ـ تعبت وبح صوتي ونزفت حنجرتي يا عائشة ، منذ الصباح حتى الآن وأنا أتحدث إلى الصحفيين الذين شدوا وثاق مواعيدي ..
قلت وأنا أعيد جهاز التسجيل إلى الحقيبة : ـ سلامتك ..! وما هي إلا ثوان حتى انهال عليه الأصدقاء بالأسئلة .. أين إميل حبيبي وأين كنت ..؟؟ فأخبرنا أنهما كانا غارقين في اللقاءات الصحفية وأن إميل حبيبي ما زال غاطساً حتى أذنيه .. حينئذ لم أشأ إزعاج سميح بالأسئلة واندمجت بالحديث الودي مع الضيف القادم صالح مرسي إلى أن ودعنا في الحادية عشرة والنصف ..
بقيت مكاني أطالع صحيفة الأهرام .. أركز عينيَّ على فراغ سطورها ولا أرى شيئاً غير تحركات سميح في مدخل الفندق وخطواته بين طاولات المقهى القريب يصافح بعض القادمين من الصحفيين وعيناي لا ترتفعان عن الجريدة .. وفجأة لمحته يمشي باتجاه موقعي فزدت عينيَّ التصاقاً بالصحيفة وطرف عيني اليمنى يختبر مكان الكاميرا والمسجل وأنا أهجش .. ربما تسبب هذه الآلات الصماء لسميح نفوراً وعقدة من الحديث ..!!؟؟
لكنه جلس وبادرني قائلاً : ـ أحس بتعب عنيف .. حتى إني لم أتناول فطوري .. قهوة وسجائر .. معدتي تؤلمني للغاية .. فقلت : ـ سلامتك .. وأنا أرفع عيني باتزان عن الصحيفة وأعود لأكمل قراءة اللا شيء وخوفي من مغادرته .. يحتل الجريدة .. قال : ـ سأطلب كوباً من الحليب .. هل تطلبين شيئاً ؟؟.. فقلت : كوباً من الحليب أيضاً .. قال : أراك مهتمة بصفحة الإعلانات خير إن شاء الله ؟؟ وكمن ضربني على رأسي صحوت وأختبرت الصفحة وإذ بها فعلاً صفحة إعلانات .. فضحكت حتى تلعثمت باعترافي وقلت : إني أريد الجلوس معك لأكمل الحوار وأخاف أن تنسحب .. فقال وهو يضحك يصوت عالٍ : ـ أنا مريض واللّه تعبت يا عائشة .. فقلت بسكون مفتعل : ـ سلامتك!
قال محتجاً : ـ سلامتك .. سلامتك .. أين تصرف سلامتك هذه ؟ وأنت تصرين على غضبك الدفين لو رفضت الحديث ..!!
رفعت عينيَّ ببطء وهدوء ونظرت في وجهه بعتب قائلة : ـ لم أخطط أبداً لأي حوار .. ولكن حديثك .. وأهزوجتك وموالك ومقاومتك وانتفاضتك أو انتفاضتنا وشعر القرية والقبيلة والبيت والمقهى الفلسطيني والوحدة والحرية والرفض وأدوات الحرب في فلسطيننا ووطننا العربي والشعراء والقراء وأغنيات الشباب الثائرة .. كل هؤلاء يحق لهم الغوص في ثقافة وسياسة سميح القاسم .. ولك أن تقول لا .. أو نعم ..
وابتسم سميح وأشار للنادل ليطلب كوبين من الحليب الساخن وقال لي : الأخيرة ..!!
قلت : ـ أيهما ..؟؟ قال : ـ إنسجي فنك الخاص بلقاء غير مألوف واسألي ما تشائين فسميح يتحدث على أوتار الأرغول الفلسطيني .. اسألي .. اسألي ..!!
قلت : ـ لا أسلوبك فيه تهكم ، وأنا لا أستطيع الحديث مع سميح إلا إذا انبجس ضوء الوجدان المقاوم المألوف فيه .. وليس الآن وقت للحوار السياسي أو غيره ..
هزَّ رأسه وراح يشرب كوب الحليب ..
وأنا أهاتف نفسي .. صحيح أن الحديث لا يؤخذ من شاعر لشاعرة .. وصحيح أن الوجع الرابط بين سميح القاسم وعائشة الرازم أزلي أبدي لا يحتاج لخطوط توضيحية ولقاء طويل بحاجة لأمواج من الأسئلة والأجوبة لتتحرك فورة الشعر المقاوم في التصريحات ولكنهما ملء البحر موجات وانصهاراً وشعراً وربما يصيران ملء الصغير لو لم يتحدَّثا .. إذن يجب أن يتحدثا ورحت أدقق النظر في خيوط غطاء المنضدة وأحتضن كوب الحليب بيديَّ الاثنتين وأشرب بلا وعي الحليب الساخن .. رفعت رأسي .. فظننته قمراً صغيراً يقول لي مبتسماً كمن يراضيني : ـ
ولْدتُ مثل حبَّة الرُّمَّان ..
ورحْتُ أنمو في الجهات السِّتْ ..
ويوْمَ أغْدو تَوْأماً للكرة الأرضيَّةْ ..
أُضيءُ بالحقيقة ..
وأمْسَحُ الدُّموعَ عن عينيْكِ يا صَديقة ..
وَبعْدَها .. لا بأسَ ..
إنْ وجْدتُ مقْتولاً ..
على مقاعد الحديقة
تجهمت ملامحي .. وحدَّقتُ في وجهه المتعب المصفر وقلت له وهو يقترب بمقعده منيِّ : ـ
ولا تبكي إذا سِلْنا دَماً
في يابس الودْيانْ
فإنَّ زنابقاً حمْراء ..
مخبَّأة لنا في الرَّمْل ..
لا تنمو بدون دماء وإنَّ القمْحَ والزَّيْتونَ والرُّمانْ
تظلُّ رؤى بلا جَدْوى
إذا لمْ يخصب الشُّهداء ..
.. امتقع وجه سميح حتى شاهدت صوراً لشهداء كثيرين يبتسمون في عينيه بعدما خلع نظّاراته وراح يمسحها ويقول : ـ يدهشني هذا الشعر في تفاصيل حياتك .. ويدهشني شعري في ذاكرتك .. هذه المقطوعة التي ذكرتها أُحبها كثيراً .. كيف تحفظين أشعاري ..؟!
قلت : ـ أشعارك وأشعاري محمود درويش وفدوى طوقان تحاصرني معزوفاتها ، فيتعملق الغناء مع قصائد توفيق زياد ..!!
س ـ 34 ـ صدقني يا سميح أنني أشعر بأن قلمك لسانناً وبأن وجهك المتجعد ماؤنا .. وأن قلبك رسالتنا وأن ظهرك حامل صليبنا .. وأن قصائدك هي الأشجار الكامنة في تربة فلسطين صلبة شامخة .. نحتاج قطف ثمارها فماذا أنت قائل ..؟؟
ج ـ أنا البرقوق والسنديان وعصا الراعي ..
العلت .. السبانخ البلان اللوز ..
البرتقال الزيتون الصوان ..
الأطفال السمر الأطفال الشُّقر ..
العجائز القرى المقابر ..
الأيدي العاملة الرخيصة ..
س ـ 35ـ سميح القاسم يرفض الرحيل عن الأرض .. وهو مدرك تماماً من يخاطب ويدرك موضوع خطابه وما يمكن أن يؤثر ذلك الشعر في النفوس .. بصدق وشرف يجمع مقالع من حياة الشعب البسيط الوديع .. ما هو حجم حب أرضه له مقابل ذلك ..؟؟
ج ـ أطل من الجرح العميق في خاصرة الوطن .. وإذا قتلت فيكفيني تورية أرضي لجسدي في الثرى كي أثبت وأغل .. وهذا حجم الحب الذي أطمع به ..
قلت وأنا أحاول معرفة الوقت بطرف عيني دون إشعار سميح بذلك :ـ أريد منك أن تجيبني بصراحة هل تشعر أنك نشيد مقطوع من شجرة ..؟
ضحك سميح وفرك عينيه ونادى الجرسون ليطلب قهوة بدون حليب وقال لي : ـ أشعر أني الشجرة والقصائد المكتوبة .. أمَّا غيري ففروع مقطوعة من هذه الشجرة ..!!
قلت : ـ جميل .. ولكن لدي سؤال يليق بتداعيات الوجع الفلسطيني فقط هل تعتقد أن سميح القاسم يصوغ الصرخة الفلسطينية شعراً ويوصلها للأسماع الإنسانية سياسةً ..؟
أجاب وهو يتململ مستعجلاً النادل : ـ أولا يهم كثيراً ما أشعر أنا به حيال كتابتي القصيدة والأهم ما يشعر به قراء القصيدة .. أما لو غاب قراء القصيدة .. وضاع قراء القصيدة .. فسأظل على خطابي المألوف .. وحضوري الفلسطيني هو ما يدل على السياسة .. وأود أن أوضح رأياً وهو أينما حلت كلمة فلسطين حلت كلمة السياسة .. وليست الصعوبة في تفسير القصيدة بقدر ما هي موجودة في أدمغة الساسة الذين يخدعون أنفسهم بعدم فهم كنه مصطلح فلسطيني طبعاً لن أجلس على بياض الورق أنتظر غيري للحديث عن السياسة .. في حين أكون فيه رب الوجع والمأساة والسياسة .. وعليك أن تثقي بأن القصيدة لا تخرج من أبوابي مزركشة جميلة كما يعتقد الناس بالقصائد .. ولكنها تخرج من مسامات كياني النازفة صارخة متناثرة وحينما ترى وجه وطني تصبح شديدة الشبه بعذاباته وملامحه وإذن هي سياسة متماسكة ..
س ـ 36ـ التحريض نحو الفعل .. هو ما نحتاجه في الأرض المحتلة التحريض بالشعر بالمسرحية وأنت أكبر المحرضين على الفعل فأين أقوى رسالة تحريضية في أشعارك تخطيت بها محاذير الكيان الصهيوني الذي تحمل جواز سفره ؟؟ إبان الانتفاضة ..؟
اصْهلي يا غيومَ الترقب في حمْأة السخط
ههو ذا يسْرج الرِّيحَ يمَتشق الموْتَ
فاتحة للقضاءِ وخاتمة للقَدرْ ..
هو الآن يطلْع من وهْمِهِ
هو الآن يرْسمُ سيماءه بالحَجْر
وينسَخُ أسماءه بالحجرْ
له المجْدُ في جمعْة الشارع العام
في مسْجد السَّاحة العارية
يقضقض بالقيْد أسْوارَ سجَّانه العالية
وأسْرار قاتله العاتية
ويسْري من الموْتِ يسْري على المْوتِ
يكتُبُ قُرْانه بالحَجَرْ
رسولاً بلا حاشية ..
يبشِّرُ في الغاشية ..
وينلْو سالته الآتية
ويدْعو إلى ملكوت البشْر
بأياته البيِّنات
نجوماً من الدَّمِّ تسطع في أفقٍ من حجرْ ..
س ـ 37ـ كل شاعر في الأرض المحتلة يعتقد أنه هو شاعر المقاومة ويستقبل شهادة الاستحقاق ووسام التقدير من النقاد والكتاب .. ولكن أتمنى على سميح القاسم أن يفيدني بمعلوماتٍ دقيقة عن حركة الشعر في الأرض المحتلة .؟؟
ج ـ نحن الآن في رؤية واقعية للأمور الأدبية والإبداع .. في الوطن المحتل ونولي حركة الشعر اهتماماً كبيراً ونضعها تحت مجهر التمحيص والتدقيق والبحث .. والحقيقة أن خوفنا على شعرنا وشعرائنا القادمين يشكل لدينا هاجساً مؤرقاً .. لأن فلسطين أنجبت شعراء أقوياء عالميين ونريد لها أن تستمر في الإنجاب .. والشعر سباق إلى التعبير عن قضيتنا وإيصالها إلى الرأي العام العالمي وهو الأنشودة المنشودة للثورة الفلسطينية .. عرفت حركتنا الأدبية شعراء وزعوا اهتماماتهم بين العمل اليومي والسياسي والأدبي واستنطقوا الجماهير وعلموا الجيل حب الأرض وملامح الثورة وثقفوا أنفسهم وطوروا لغتهم وخطابهم .. وكانوا الإشراقة لجيل قادم ..
وكان من هؤلاء الشاعر حنا أبو حنا الذي داوم على إبداع الشعر .. وتوفيق زياد يبدع حتى الآن مع أنه يفاجئنا بين الحين والآخر بفترات متباعدة وعصام العباسي من هذا الرعيل لكنه انشغل بالنثر عن الشعر لفترة طويلة ويفاجئنا بالشعر في مناسبات متباعدة أيضاً .. حتى حنا أبو حنا بنشر بعض القصائد بين الحين والآخر .. وعيس لوباني مثل الرعيل المذكور .. ولدينا مجموعة ثانية من الشعراء دفعتهم الأحداث المتسارعة في العالم وإحساسهم بواجبهم القومي الطليعي تجاه وطنهم وأهلهم أن يرفعوا أصواتهم ويشاركوا في صنع المستقبل .. ومنهم ميشيل حداد وشكيب جهشان وطه محمد علي ومحمود دسوقي وجورج نجيب خليل وعمر حمود الزعبي وجمال قعوار وسليم مخولي ومحمد نجم الناشف ووليد خليف .. والمرحوم الصديق الحبيب راشد حسين والمرحوم حبيب شويري والمرحوم لبيب خوري .. كما أن هناك شاعرين غادرا البلاد هما فوزي الأسمر وحبيب قهوجي ..
ولو نظرنا إلى شعراء المجموعة الثالثة ومنهم أنا سميح القاسم ومحمود درويش وسالم جبران وفوزي عبدالله وإدمون شحادة وسعود الأسدي ونايف سليم ومنيب مخول وفهد أبو خضرة وشفيق حبيب .. قلت لو نظرنا إلى المجموعة الثالثة لوجدنا أن محمود درويش قد غادر إلى الخارج عام 1970م .. وأنشغل كل منهم إما بالعمل الحزبي أو غيره .. وأجد نفسي وسط المجموعة صارخاً .. وسأحاول أن أشمل بحديثي كل المعنيين بأمر الشعر .. فلقد بَرَزَ إلى الوجود عدد كبير من الشعراء بعد عام 1967 منهم فاروق مواسي وسليمان دغش وعلي الصلح وضرغام جوعية وحاتم جوعية وابراهيم عمار وسناء سعيد ومصطفى مراد ومالك صلاحة ومحمد حمزة غنايم ونزيه خير ونعيم عرايدي وحسين مهنا وسميح صباغ وفتحي قاسم وسهام داود ووهيب وهبة وزياد شاهين وهايل عاقله ونزيه حسون وعدوان ماجد وأحمد حسين وعطا الله جبر وسلمان مصالحة ويوسف حمدان ومفلح طبعوني وناجي ظاهر ووليد أيوب ورشدي الماضي وسيمون عليوطي وحسين فاعور وفاضل علي .. وأتمنى أن لا يلومني أحد الأصدقاء لو نسيت اسمه ..
والواقع لو أني دخلت غرفة مظلمة فيها كل هذه الأسماء لأضاءت العالم بحروفها .. لكن الشعراء الذين لم يتوقف شعرهم ولم يتوقفوا عن الشعر وظلوا يشقون لأنفسهم مسارات شعرية مثمرة باستمرار منذ عرفوا الشعر منهم محمود درويش وأنا وتوفيق زياد وسالم جبران .. نحن الأربعة .. انصبت علينا شحنة الشعر دون توقف وإن خف توفيق زياد وسالم جبران .. وقد كان الصديق المرحوم راشد حسين نشطا .. والشاعرة سهام داود .. وتميز شعر توفيق زياد وسالم جبران بنكهة خاصة وكانا رياديين .. في حين احتلت أربعة أسماء فقط شعر المقاومة ..
س ـ 38ـ هل ساهم سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد وسالم جبران في اقتباس الأضواء بمجموعها عن الآخرين .. أم حديثك يعني أن شعر فلسطين المحتلة توقف عند الأربعة ولا أمل في رواد ومبدعين جدد ؟؟
ج ـ في كل الشعراء هؤلاء تأكيد على القصيدة المقاتلة .. وكلهم رسخوا مشاهد المقاومة .. ووضعوا بصماتهم في ساحة الشعر .. ولكن سرقة الأضواء واقتباس الأضواء ليست قضية حظ .. بقد ما هي مواظبة وتجسد فالشعر في السنة الأربعة وفي قلوبهم معركة دائمة جعلت لهم الحضور الأقوى وهذه هي القضية …
نجوماً من الدَّمِّ
تسطعُ في أفق من حَجَرْ ..
س ـ 39ـ أتساءل ما الذي تستطيع أن تفعله القصيدة بدون الشاعر الفلسطيني ..؟
ج ـ لا شك أن الشعر سيعيش مبتوراً بلا أطراف .. لو تواجد على ساحة الحياة بدون الشاعر الفلسطيني .. ولا يليق يا عائشة بالشعر أبداً عريه من الهوية الفلسطينية .. نحن النشيد ولا يستطيع الشعر إلا أن يسكن فينا ويخترقنا حتى النخاع .. حتى الشعر العالمي يستورد الآن من أغصاننا وترابنا وحجارتنا وصرخاتنا .. نحن نكون شعر مقاومة للشعوب .. كل الشعوب المقهورة تستنجد بعواصفنا الفلسطينية ..
س ـ 40ـ في كل قصائدك المقاومة .. لا تستثني صورتك من المشهد الثائر .. فأراك شهيداً ونبياً .. وصبياً .. يمتشق الحجر وفدائياً .. ولكن الأصعب أن تصور نفسك جثة .. فأقف حزينة كوقفة يمامة منكسرة أمام تمثال مخدوش ؟؟
ج ـ لو استعرضت شريط المنافي والرصاص والسكاكين والذهول في إنصاف الليالي واصطدام وحشة الروح داخلي وتعب القلب لعثرت فعلاً على جثة جميلة تنبض بلون الدماء .. لا تتعفن وفيها الحياة أقوى من كل موت مشوه الإطار ..
لا يليق بي الموت على قارعة الصمت والركود وأعرف أن الموت لي شهادة حصلت عليها منذ زمن طويل وها هي صورة قلبي في قصائدي ألتهم الحياة من خلالها .. من خلال قصائدي وأبحث عن موت لائق وعال يشبه شهادة الفلسطيني تماماً .. يناسب الأرض الثائرة والجثة الشهيد ..
تعالي يا حبيَّ الأغلىْ
والأعْلى ..
يا كاهنة الدّار .. نبحثُ عن موْتٍ لائق
في ميْدان لائقْ ..
نبحثُ عن طعْنة حبّ لائقةٍ ..
بالمحْبوبة والعاشق ..
نبْحثُ عن ميتة حُبٍّ
في معْركةٍ كبْرى ..
فوْق الأسْوارْ ..
فوْق الأسْوارْ ..
س ـ 41 ـ من أين تستمد لغتك يا سميح ..
ومن أين تستمدُ فرحك ..؟
ومن أين تستمدُ توازنك ..؟
ج ـ حين أغلق رتاج الباب على مهدي المهزوز خوفاً من أصوات الانفجارات في الشارع .. أصنع لغتي .. وأحوك ثوب قصائدي ، وحين أبسط حواسي الفلسطينية لتتعايش مع ما يصعب التعايش معه أحوك جنوني على جدران البيت وأعلن لغة قوة الحياة فينا .. فيحاول أهلي الفلسطينيون أن يحيوا متناسين لغة النمط النتنة .. ونمجد أفراحنا بأغانينا وأهازيجنا ودبكاتنا .. وأعراس قطاف الزيتون الأسود والأخضر .. واستمد فرحي من ربابة يحزها عجوز فقد أبنه الشاب وأحاط به شباب القرية بالدبكة .. واستمد فرحي من قوافل طلبات المدارس الصغيرات حين يهتفن لدولة الحلم .. فلسطين ولا يخشين أرتال الدبابات .. واستمد فرحي من برق سماء فلسطين قبل هطول المطر .. ومن رعد سماء فلسطين الذي يخلخل الأبواب ويوقظ نيامها .. مصادر الفرح كثيرة في حياتنا يا عائشة .. نحن مشغولون بصياغة حياة تفيض عن مشاريع الحيوات الأخرى .. وفرحنا كبير كبير بتوازن حياتنا وموتنا ولكن بقوة ومجد ..!!
ما دامَتْ لي من أرْضي أشبْار ..
ما دامَتْ لي زيتونة ..
ليْمونة ..
بئر .. وشجيرة صبَّارْ ..
ما دامَتَ في بلدي كلماتُ عرَبيَّة
وأغانٍِ شعبيَّة
ما دامت لي نفسي ..
أعلنها في وجه الأعداءْ ..
أعلنها حرْباً شعْواءْ ..
س ـ 42ـ شعر المقاومة في فلسطين لم يكن رائجاً قبل الستينات ولكن كان موجوداً .. ليتك تحدثني عن أسباب ازدهار شعر المقاومة ..؟؟
ج ـ مع نكبة حزيران تفجرت القصيدة الفلسطينية ووصلت شظاياها كل أنحاء المعمورة .. ووصل الصوت الفلسطيني إلى أبعد مدى .. ولأن رسالة الشاعر الفلسطيني بدأت بمبدأ الحفاظ على الهوية وصنع القيادة المناضلة وتثوير الجيل فلقد أنتجت ونجحت بمآربها وعمت المفاهيم وخلقت مناعة في قلوب الناس بجدوى شعر المقاومة .. ولو لم تثبت قصيدة المقاومة فاعليتها ونضجها السياسي لما ازدهرت ..بأزهار الثورة الفلسطينية ..
س ـ 43ـ لا شك أن شعراء المقاومة الفلسطينية تعبوا على أنفسهم بالبحث والمعاناة والدراسة والتثقيف واطلعوا على الآداب العالمية وثورات الشعوب ولم يكتفوا بالقمة النضالية التي أوصلهم إليها القارئ فهل تعتقد أن رحلة النضال تنطوي على هذه الملامح .. عند شاعر المقاومة ..؟
ج ـ صحيح أن شاعر المقاومة اغتنى بالتجربة وخاض معركة المصير من أجل البقاء في الأرض .. وأن له معاناة خاصة وتفاعل يومي مع الأحداث في الوطن المحتل .. ولكنهم استمروا في نتاجهم الأدبي المتطور يوماً بعد يوم .. وميزوا أنفسهم وهوياتهم بنضالهم الفعلي وليس بالكلمة حتى أن شاعر المقاومة وصل فيه الوعي حد تتويج قصيدته بالاستشهاد .. وهذا ليس خندقاً خلفياً إنه الخندق المتقدم للأبطال .. يشاهد شاعر المقاومة بأم عينه مجريات الدم والأمور ويرى الصور الحية والثقافة والفكر وتجربة الشعب النضالية فهل هذه ملامح عادية يا عائشة ..؟؟ إنها بطولة ندر مثيلها ..
س ـ 44ـ سوف أتطفل قليلاً وأسأل عن قصيدتك المعنونة بعنوان “إليك هناك حيث تموت ” ما موقفك من مواطن الضعف بالصديق المقصود … فيها ..؟؟ وهل أنت نادم على توجيهها لمحمود درويش وهي القصيدة المركبة بصور القدح .. الخارجة عن حدود الحق والحب الأخوي العظيم الذي جمعكما..؟
ج ـ هذا الوضوح في السؤال أستغربه .. وهذا التباين في الموقف الذي كونته استهجنه .. لذلك لا أفتح وردة مطوية على شذا وسأترك شذاها لأشعة الشمس تثيره على الخلائق ..!! وسأقول لك .. إن أخوتي ومحبتي لدرويش لا تجرحهما قصيدة ولا ملحمة ولا تنقص من مقدار ودنا هجرة أو رحلة ..
س ـ 45ـ لا يا سميح .. ليس هذا الجواب ما أريد وإنما رفة جناح المرتبط بالوطن والتاريخ القومي الذي عاشه الأجداد ومقاومة الليل والسلك الشائك أريد ذلك في قصيدة كما صورت رسالة محمود درويش بالأشواك حين فتحتها لأنه اختار الرحيل ويطلب منك الرحيل وصرختك في وجه صاحبك من ألمك تدعوه للعودة وارتداء العزة من تربة داره وحقله .. من ينسى فينا قصيدة إليك هناك حين تموت ..؟ إنها نكهة الشوق للأرض والجذور والظفر الملتهب في عين الغاضب .. كما إنها التعبير عن الالتصاق بالصبر والتنازل عن رفاهية العيش الغائم خارج رحم البيت .
ج ـ لن أعلق ولكني أعيد القصيدة لكل الرموز الراحلة عن أرض فلسطين وأغرزها في صدور الباحثين عن ليل مقمر هادئ خالٍ من مقلاع وحجر .. وأسمعك إياها .. وأسمعك إياها لتسمعيها بدورك للمعنيين .. واعتبريها رسالة بغض النظر عن مناسبة كتابتها .
أخي الغالي ..
تحيّاتي وأشواقي ..
إليك هناك في المستنقع الباقي ..
رسالتُك التي جازتْ إليَّ اللَّيْل والأسْلاكْ ..
رسالتُك التيّ حطّتْ على بابي .. جنَاحَ ملاكْ ..
أتعلمُ .. حين فضتْها يدايَ تنّفضتْ أشواك ..؟
على وجْهي .. وفي قلبيْ ..!
أخي الغالي ..
إليْكَ هُناكَ في بيْروت ..
إليْك هناكَ .. حيْث تموتْ ..
كزنبقةٍ بلا جذْر ..
كنهْرٍ ضيَّعَ المنْبعْ ..
كأغنيةٍ بلا مطْلعْ ..
كعاصفةٍ بلا عُمر ..
إليْك هُناك حيْث تموت كالشَّمس الخريفيّة ..
بأكفانٍ حريريَّة ..
إليْك هُناك .. يا جُرْحي ويا عاري ..
ويا ساكب ماء الوجْهِ في ناري ..
إليْكَ .. إليْكَ .. من قلبيْ المقاوم
جائعاً عاري ..
تحيَّاتي وأشواقي ..
ولعنة بينك الباقي
* * * * * *
اقترب إميل حبيبي باسماً ينوء بسعاله واحتجاجه على اللقاءات الصحفية المتواصلة .. فأذبت حديد الأسئلة وحين أوشكت على إطفاء جهاز التسجيل شعرت أن إميل حبيبي ما زال يتحدث : ـ حين قال : تسألني الصحفية عن حياة كريمةٍ في إسرائيل : ـ وأضاف غاضباً وهو يجلس بجانب سميح القاسم : ـ عليكم أن تعرفوا أن كل أسئلتكم لا تفي بمكنونات دواخلنا .. عليكم أن تعرفوا الموت البطيء الذي نتعرض له.. والضغوط غير الأخلاقية لتفريغ أرضنا وحرماننا من أبسط مبادئ الحياة الإنسانية الكريمة كالحصول على الوظائف والمهن والتعليم .. وممارسة القمع والاضطهاد .. كل هذا أو أكثر لسحب الأرض الفلسطينية .. ونحن الذين نواجه السلاح نعرف أن إسرائيل دولة تميزت بالتعبئة والتنظيم العسكري ودقة التوجيه والتخطيط .. وننتظر دقة التوجيه بمثيله والتعبئة العسكرية والتنظيم بنظيرهما من العرب .. نحن في الداخل ندعو العرب في الوطن العربي لتعزيز صورة العربي بملامحها الكريمة الجميلة المتناسقة المتسقة .. بوسائل الإعلام وأن يكون للعرب جمعيات عالمية في أنحاء العالم لإعلامه بالجرائم البشعة التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني .. لماذا تستغل إسرائيل بعض الأحداث التي قام بها بعض العرب كعملية اختطاف السفينة ” إكليلي لورا ” واختطاف بعض الطائرات وإلقاء قنبلة على مدرسة إسرائيلية في فلسطين المحتلة لماذا تزايد إسرائيل على هذه الأحداث وتضخمها وتجتذب أكبر المساعدات من خلالها وتستقطب الرأي العام العاطفي .. وبنفس الوقت تشوه صورة الفلسطيني لتجعل منه قاتلاً إرهابياً في أنظار العالم ..؟
واليهودي بطلاً أسطورياً عاطفياً إنساناً واليهودي الإسرائيلي يقتل ويدمر ويشرد ويسفك الدماء البريئة .. إننا لا نلوم العالم الغربي على جهله بواقعنا وبواقع القضية الفلسطينية .. لأن العرب يتحملون الجزء الأعظم من التقصير الإعلامي ولم يشرحوا قضيتهم للعالم الغربي إلا عن طريق الوعيد والتهديد العلني بتدمير إسرائيل ورمي اليهود في البحر .. وطبعاً خدموها من حيث لا يعلمون .. واستغلتها إسرائيل أحسن استغلال واستثمرتها لخدمة إسرائيل فوصفت إسرائيل نفسها بأنها أقلية مغلوبة على أمرها .. تعيش وسط بحيرة عربية كثيفة يبلغ عدد سكانها 130 مليون نسمة تحاول ابتلاعها وإغراقها في البحر .. حتى أن الحملات الانتخابية الأمريكية تركز على أسعار البترول وتعرض للمشاهد اليهودي والأمريكي صورة لمجموعة من وزراء النفط العرب في أحد اجتماعات الأوبك .. وتري المشاهد الأمريكي أن سبب شقائه وتعاسته هو جشع العرب الذين يبيعون لهم البترول بثمن مرتفع .. وبذلك نجحت الدعاية بتركيز العداء الأمريكي للعرب فقط دون وزراء الأوبيك الآخرين .. حتى نفذت الدعاية هدفها ذا الحدين القاصمين ، أولاً تخفيض سعر البترول لإسعاد الأمريكي ورخائه واستقطاب العداوة والكره للعرب كافة بتصويرهم وكأنهم هم السبب وراء المشاكل الاقتصادية الأمريكية ..
نحن نعلم أن إسرائيل مفككة ومعرضة للإنهيار وعنصريتها ستكون سبب نهايتها .. وعلى العرب التركيز على وسائل أعدائنا في إعلامهم وحربهم معنا ليستفيدوا منها ..
وهنا تدخل سميح القاسم قائلاً : ـ
ضروري جداً أن نثير قضية التعصب الديني في إسرائيل .. فإسرائيل تدعي بأنها ديمقراطية .. ولكنها في الواقع تنطلق من قومية تقوم على التعصب الديني .. ولو درسنا جيداً الزوايا الاجتماعية والتاريخية لحضارة اليهود لوجدناها مسروقة من أمم شتى .. وحتى هذه الحضارة التي حاولوا ترسيخها تتقاذفها الآن تيارات وعناصر شتى .. وتتقاذفها أحقاد وضغائن ومشاكل ستضعف كيانها حتى الهاوية .. فالتفرقة العنصرية بين اليهود البيض واليهود الشرقيين والغربيين تشير إلى الصراع العنيف داخل المجتمع الإسرائيلي .. وسبعون جنسية يهودية لن تشكل اختلافاً فيزيقياً يتعلق بنوع الشعر وملامح الوجه واللون فقط ، لكنه اختلاف في اللغة والثقافة والتربية والميول والعادات والتقاليد …إنها مهددة بالزوال .. فالأجيال اليهودية في إسرائيل حائرة بين البقاء على أرض مستقلة وبين العودة إلى المحميات التي أفرزتهم ..
ويضاف إلى ذلك أن الأجيال اليهودية حائرة بين التمسك بالتراث المعقد دينياً وبين الاستمرار والتغيير الشامل ، وأنا على قناعة تامة بأن هجرة اليهود الآن من الشرق لن تسهم باستقرار هذه الدويلة .. بل ستجني إسرائيل على نفسها بإضافة وقود على النار .. فسعى المجتمع الإسرائيلي اليوم لجمع الشتات اليهودي من مختلف الجنسيات والسعي لصهره وسط عوامل الاختلاف والتناقض سيسهم في زيادة التنافر والصراع والتناقض بين اليهود والصهاينة .. ونحن نعلم تماماً أن ديمقراطية إسرائيل كاذبة .. فهي تفضل هجرة اليهودي الأبيض على الأسود .. وهي تسعى لتفريغ الأرض من العرب الفلسطينيين وتجبرهم على ترك أرضهم .. وتفتح لهم باب الهجرة وتغريهم .. ولن أنسى أن إسرائيل تنطلق من قومية أساسها الدين .. والديمقراطية وأصولها مختلفة عن ذلك .. والآن ندعو لبناء استراتيجية إعلامية موحدة لتحسين صورة العربي وتوضيح ملامح الوجه المشوه الإسرائيلي الذي يغتصب الأرض ويبدو مظلوماً عاشقاً للسلام .
غيرت الشريط الأول وشربت الكوب الثالث من عصير المانجا .. بينما بلغ عدد فناجين القهوة التي شربها سميح ستة فناجين ، وبلغ عدد الفناجين التي شربها إميل حبيبي ثلاثة ..
انتقلنا إلى المطعم لتناول الغداء ..
وأقمت من نفسي جبلاً يتدحرج عليّ التعب .. ويبقى صامداً صلداً لا أريد أن أستريح .. وحالما مر محمد علي شمس الدين وحيانا وصافحنا بيده المحروقة .. قلت له : ـ لك عندي قصيدة وإذ بشوقي بزيع يدخل المطعم مع أكرم مصاروة لشرب القهوة .. ووعدت محمد علي شمس الدين بإحضار القصيدة ونهضنا لتوكيد تعب النفس وقوة القلب لمقابلة الصحفيين وأنا أقول لأكرم مصاروة : ـ مسرحية أهلاً يا بكوات تنتظرنا الليلة مع الفائزين بجوائز سعاد الصباح فأومأ لي برأسه إنها في البال ..
في الساعة الثامنة كان علينا الذهاب إلى المسرح القومي .. فوصلنا المسرح في الثامنة والنصف حيث تبتدئ المسرحية في التاسعة وصلنا مكتب مدير المسرح القومي الفنان الكبير محمود ياسين .. كان أبلغ وأروع باستقباله لنا من دور عظيم في عددٍ من أدواره القيمة .. غزلت عيناه خيوط الفكر والثقافة مع كل عبارة قالها .. كان يرخي الكلمات بصوته الرخيم كأنها من نتاج قلبه المتصل بحنجرته وحده وشهدت لمحمود ياسين بالتمكن النموذجي حتى في لغة الناس العاديين مع الناس .. هاتف الكاتب المسرحي لينين الرملي مؤلف مسرحية أهلاً يا بكوات .. وأهدانا المسرحية الكتاب .. وجاء محمود ياسين بكلام نضر تنبت منه السلوة في القفر صوته والشعر توأمان وبلاغته وكدت علائق البيان والفن والخلق بالفنان .. فلا يهجس الظن إلا بهكذا هو الفنان الأصيل .. قال محمود بعد لقاء وحديث دام نصف ساعة أكون على خشبة المسرح بعد دقائق وأكون حذراً بإرسال نظرتي الساجية نحو ضيوف مصر .. نورت مصر .. بيكم .. فالتمع التقدير كشعاع من حرير وازدادت رتبة محمود ياسين في نظري وفي تقديري .
وما كدنا نجتمع في الصف الأول .. ضيوفاً ومدعوين بيننا الفائزون الشباب من الأردن وفلسطين بجوائز سعاد الصباح .. حتى لمحت عيناي الأخت الحبيبة سامية عطعوط .. فقبلتها وأثنيت عليها نجمة لا تنكسر من خلال القصة.. وما أسرع أن تنمو المبدعة في القلوب القوية ذات العوالم الفاضلة كنت سعيدة بسامية إلى درجة الإحساس بأن مطرقة من الحب تضرب أجراس إبداع المرأة وتقول ها نحن النساء نرجع إلى الوطن بنجاحات ونقضم صدأ النفوس الصغيرة ولا نكترث لفخاخها .. أدهشتني مسرحية أهلاً يا بكوات ظهر فيها حسين فهمي ومحمود ياسين بمرونة الصلابة .. لا يلتويان ولا ينكسران .. فالمسرحية خطرة توالت فيها المشاهد بين عالمين .. عالم تلونه الخيبة بالتخلف وعالم يلوّنه الفكر والعمل .. ولكن الخيبة ضربت بسياطها رأسي لسيطرة التخلف على الفكر والعمل .. ولم أخرج بعلة ولا بعاطفة .. إنما استطاع المؤلف والممثلون أن يضبطوا الرسائل الموجهة كالمصارع الجبار المعارك بأقصى قواه .. جعلوا من المسرحية جسماً وثيق التركيب متعادل الأدوات .. لم تضطرب ولم تتململ .. حتى كانت عوالم الأمواج تموج بالنقيضين .. لتقول للجمهور المشاهد .. دع دماغك يعمل وتنبه فأمامك التحدي الكبير والخلاف على مصيرك أكبر .. إن هذه المسرحية تطرح قضية مصيرك ..
وفي الثانية عشرة تململ المسرح بحواس جمهوره وبدت الخيالات ترفع الأكف بالتصفيق الحار ووداع المبدعين ..!!
دخلنا الفندق وما أن طلبت مفتاح غرفتي حتى دخل إميل حبيبي وسميح القاسم من الباب لم أكن إلا متعبة لا يسوغ لنشاطي الليلي سبب .. ولكنني وقبل أن أتوجه إلى غرفتي قادتني قدماي إلى المطعم .. لِ أجد توفيق زياد وزوجته وقلة من الرواد يكملون مشوار اليقظة .. فمشيت إلى عريشة الطعام وكان كل لون فيها يتكلم دون أن اضطرب لصوته .. فمعدتي تعبة من خواطري وقلبي نبضه المتعارك نتيجة تناقض تياري المسرحية الديني المتزمت حد التخلف .. والحضاري المنفتح حد المهدد .. وقلبي يصدر نبضاً كصوت صلصلة الدرع حين يسقط عليها السيف أشعر بجوع ولا أشعر بشهية لتناوله .. طلبت الجمبري والسلطات وشراب المانجا .. وبدأت الحواشي تتوافد إلى العشاء .. وقد غادر توفيق زياد وزوجته ليحل مكانهما بديل مهاجر إلى مصر .. وعلى غير توقع حضر سميح القاسم للعشاء .. فناديته أن تعال وشاركني العشاء .. فقال : ـ
السلام .. وما باعث هذه المائدة كلها .. فقلت : ـ كأن النهار يكون الليل والليل والنهار يتآمران على أعصابي فلا أدري هل أتناول الطعام أم أرضي نفسي بعريضة من الألوان المكذوبة .. فقال : ـ إنك تجدين للألفاظ قلقاً خاصاً وظلاً ثقيلاً .. وأنا أخشى منك على ظلال مفرداتك .. وإن غضبت حولت ظلال مفرداتك لصورٍ غريبة .. ربما من مزايا الشاعرات الفلسطينيات هذا .. يحملن الغضب مزق القلب ويحملن القلب مزق الغضب ..
قلت وأنا أتناول جهاز التسجيل وأضعه على الطاولة : ـ أشعر يا سميح بأن قلبي أثقل من جبل هائل فيربكني في أعبائه .. ولكني أحاول التغافل عنه .. انتقاماً منه .. فأطوي عمري الفسيح أحلق بين السماء والأرض كطير يمتلك أقوى جناحين وما من مرة شرحت قلبي إلا ووجدت لذة الشعر والفكر كلذة الألم تفتك به شر فتك .. فأعود وألملمه من فتوقه وجراحه وأسجنه في قفص الوحدة إمبراطوراً يحكم العالم بدون تاج .
قال سميح : ـ ما أعظم ما تقولين .. وما أصعب ما يصدر عن قلوب شاعرات لا يمتلكن سفينة القلب الكبير .. أنت تبثين عالماً آخر من الآلام والأحزان ربما لأنك رسخت جذورك في الحياة وتجاوزت مرحلة البحث عن الاتجاه المطلوب .. فلك جهات الأرض الإنسانية في وقت يلهث الناس لجهات أجسامهم فقط .
قلت : ـ كما نجد في الكواكب من جمال .. فإن النفس البشرية تحمل جمالاً وفلكاً .. وكل فلك يدير صاحبه لإتجاه وجاذبية الدمع والمأساة الفلسطينية جاذبيتي .. قال : ـ توقعت أن تقولي ذلك .. ولو لم تقوليه لقلته أنا .. أفرغ العذاب قالبه فينا وصب في قلوبنا نوراً سماوياً جرى شعراً كنهر الكوثر في رياض الجنة وابتلينا بالاستهجان من الصديق والإنسان وتسلطت علينا الآلام فعشقناها بفطرتنا واستعدادنا الحسي والنفسي .. ثقلت الأرض بنا ولم تتكسر من حدة أوجاعنا .. فنحن نسائم العالم ..!!
انضم إلينا الشاعر بلند الحيدري والشاعر محمد علي شمس الدين والشاعرة مليكة العاصمي وتحدثنا حتى الثانية صباحاً شعرت أن حديث السياسة وحديث الشعر متلازمان وقد عرفت أن الأصحاب حين يلتقون لا ينامون فنحن اعتدنا على أن نوصل الليل بالنهار .. شرحاً وطرحاً وحواراً .. فاستأذنت والنوم يعرض علي نزعاتٍ وأخيلةٍ كأنوار الصور المنبعثة من إرهاق الرأس المثقل بالهموم والحب .
30/1/ الثلاثاء
صحوت على رنين الهاتف في الثامنة صباحاً وإذ بصوت الدكتور فتحي عرفات رئيس الهلال الأحمر الفلسطيني مرناً يرسل تحية الصباح باكراً .. فخلته في إشراق الصباح يبعث حنانه أشعة على وجوه المرضى وجرحى انتفاضة فلسطين وحين خيل إلى يسير بين صفوف الموجوعين لا يضحك ولكنه بابتسامته يمنح الموجوع بلسماً كنور التسبيح في إشراق جميل وقلب مرتعش بالرحمة على أهله .. رحت أتنسم ثمرات كلماته السريعة المنبثة لأطواء القلب .. ورحت أتعرف على ألوان مفرداته المتسارعة وأميزها لوناً لوناً .. ثم أستمع لمعاني عباراته قبل تحليلها .. فلم أكن بحاجة للتغير .. وأغرب ما تجاذبني عثوري على روح المناضل الصافية حتى في حديثه القصير .. حدثني عن ترتيب أمسية شعرية لي في قاعة مستشفى الهلال الفلسطيني بالقاهرة .. وسلط الفكرة على الانتفاضة وصور ما شاء من الجراح والبسمات .. طبيب يرتع النضال في قلبه ويديه ولسانه .. فيجعله آية للحس الإنساني تكشف الداء بفطرة المتمرس .. حتى ليختبئ المرض في المكان ويكون مكشوفاً لعينيه .. الدكتور فتحي عرفات إنسانية قائمة بذاتها وكأنما الجراح والبسمات والبلسم نسيت فيه كلها فأفعمت روحه بالصفاء .. والسهر والكد وديناميكية العمل المتواصل .. منطلقة تتطعم الآلام وأفراح المتألمين غير آسفة على مطمع .. تتذوق نسيم مكلومي الانتفاضة وعذابات شعب فلسطين في كل شاردة وواردة كما يتذوق النسيم رائحته من براعم الندى .. يحنو عليها ولا يجرح عطرها .. يسير الدكتور فتحي عرفات بين ممرات المستشفى يصافح هذا ويسأل ذاك ويربت على كتف هذا الموظف ويقبل ذاك المريض الملفع بضمادات الشفاء .. رأيته حين زرته أول مرة في المستشفى كشيخ يعز أطفال قلبه ويملأ ما حوله حباً ونشاطاً .. حتى خطواته الجذله المتسارعة كانت تزيح انقباضة القلب الشديدة وهو يفتح غرف المرضى بحركات سريعة استطلاعية مفعمة بالاستفسارات .. وبدا لي أنه يعرف كل حالة وكل الأسماء فضحكت حتى سألني ما بي أضحك .. قلت .. أضحك سروراً وسعادة لمعرفتي بأول طبيب يحفظ أسماء مرضاه .. فأجاب .. الله .. إنهم عائلتي يا عائشة .. كثير علي ذلك ..!!
* * * * *
تأليف – الشاعرة د. عائشة الخواجا الرازم – الأردن