وردة لكنها ذبلت
تاريخ النشر: 23/08/14 | 11:20كانت تتحدث وفي نبرة صوتها حزن شديد، قالت: كنت فتاة مدللة في منزل والدي، أحاطني الجميع برعاية تامة في ظل إخوة خمسة، فكنت محظية بالمحبة والمودة.
وكان جل اهتمامي نحو الدراسة التي تفوقت فيها، وهذا الأمر جعل الأعين تنصب علي والأيدي تدنو مني. ولما استقر بي المقام في المرحلة الثانوية بدأ قلبي يهتز للمرة الأولى عندما أخبرتني والدتي أن فلانًا تقدم لخطبتي، وقلت بصوت فيه عجب وكبرياء: “هذا لعب عيال”.. وبدأ الخطاب ينهالون علي بمعدل يفوق جميع زميلاتي حتى أني أسررت إلى إحداهن بقولي: “يظهر أن شباب مدينتنا كلهم قد تقدموا إلي”. وتكرر الأمر في المرحلة الجامعية مع بعض من الإضافات في طريقة الخطبة والسؤال، وكنت دائمًا أسأل: ما هي مواصفات الزوج؟.. لا أكتمكم سرًا.. جميع المواصفات والمهن والأشكال.. بل لو قلت اجتمعت صفات في خاطب اسمه (احمد) قل أن تجتمع في عشرة رجال ومع هذا رفضت، فأنا صاحبة المقام والمنزلة والذكاء والجمال.
لما تخرجت وبدأت العمل كان سيل الخطاب يزداد أيضًا مع اختلاف لاحظته، وهو كبر سن الخطاب وكان ناقوس خطر يدق في قلبي لم انتبه إليه إلا اليوم. ومرت الأيام.. فإذا بي أفاجأ بخطاب عجيب تدرون من هو؟ إنه مطلق ولديه طفل، صدمت لكني قلت في نفسي: هذا مسكين لا يعرف من أكون ومن أنا وله عذر. مرت الأيام بسرعة البرق، وقد انهمكت في عملي ولم انتبه أن قطار العمر يمر بسرعة البرق.
قاربت الثلاثين ولم يعد يطرق بابنا لخطبتي سوى كبار السن والمطلقين و… عدت يومًا من عملي وقد تم ترفيعي لمرتبة أعلى نظرًا لتميزي واجتهادي بالعمل، لكن ذلك سقط من عيني عندما رأيت ورقة صغيرة على وسادتي كتب عليها “يا ابنتي تقدم لخطبتك (فلان) وهو في مرتبة وظيفة جيدة وفي سن الشباب، ولا يمنع أن توافقي حتى وإن كان له زوجة وستة أطفال فالأيام تمر.. فكري وأخبريني”.
قرأت الورقة بتمعن وغيظ أكثر من مرة وتأملت في مفرق رأسي وقد بدأت اصبغ شعري باللون الأسود كل حين خشيت أن تظهر شعرة بيضاء.. ثم بكيت وقلت في نفسي: أهذه النهاية؟.
سارعت إلى والدي في المساء غاضبة، وقد نفد صبري وسألته: كيف تقبلون بمثل هذا الرجل ولديه ستة أولاد؟. فكان الجواب القاتل: لنا شهور لم يتقدم إلا أمثاله من المتزوجين وأخشي أن يأتي يوم لا يتقدم فيه أحد لحطبتك ونحن لسنا مخلدين لك في هذه الدنيا، يجب أن تتزوجي ونطمئن عليك قبل أن نرحل من هذه الدنيا. يا ابنتي البنت مثل الوردة إذا تأخر قطفها ذبلت، وأرى أنك دخلت مرحلة الذبول، يا ابنتي تقدم لك مئات من الخطاب وكنت ترديهم واحدًا تلو الآخر.. هذا طويل وآخر قصير، وذك وهذا، حتى لم تجدي أحد. وسرعان ما بكيت وقلت: ليتك يا أبي فعلت. قال: ماذا؟ قلت: أخذت بيدي ودفعتني إلى الزواج الذي ترضاه، يا ليتك ضربتني.. وعندها انفجرت بالبكاء.
وحتى اليوم لم يأت ذاك الشاب الطويل ولا القصير، ولم يأت الفقير ولا صاحب الوظيفة البسيطة… ولم يأت فارس الأحلام ولا فارس المنام.. فجمعت حسرات الانتظار والعجب..
محمود عبد السلام ياسين