في رثاء منتصب القامة نبي الغضب الثوري سميح القاسم
تاريخ النشر: 23/08/14 | 15:55مات سميح القاسم حادي الوطن والثورة، وقيثارة فلسطين وحجرها ومتراسها، وسفير الشعر الوطني الجميل المغنى دون أن” يستأذن أحداً “. غاب أبو وطن فارس النضال والكلمة المقاتلة المتوهجة الغاضبة، وشاعر الشعب والكفاح والمقاومة والعروبة والغضب والنبوءة الثورية.
رحل شاعر الحب والألم والأمل والوجع الإنساني المبشر بالغد، الذي لم يخف الموت ويهابه، بل كان يكرهه، وقاومه بكل شدة وصلابة وكبرياء، وخاطبه قائلاً : ” أنا لا أحبك يا موت، لكني لا أخافك ” ولكن في النهاية انتصر عليه.
رحل الشاعر القديس، والصوت الوطني الشامخ الصداح المدوي، الذي تخطى الحدود، وطالما شدا للوطن والتراب، وهتف للوطن والإنسان، وغنى للعامل والفلاح.
مات سميح القاسم صاحب السربية وكولاج و”نشيد الصحراء” و”غزاة لا يقرأون ” و”دمي على كتفي” و”تقدموا ” وغيرها من القصائد المنبرية والجماهيرية الحماسية، التي كان يلقيها بصوته الجميل العذب المجلجل، فسكنت وجدان الناس واحتلت قلوبهم، وكانت بمثابة بيان شعري سياسي.
غادر سميح ” منتصب القامة يمشي.. مرفوع الهامة يمشي.. في كفه قصفة زيتون، وعلى كتفه نعشه، وهو يمشي وهو يمشي “.
ترجل عن صهوة القصيدة قبل أن يكمل نصه الأخير عن انتصار المقاومة في غزة الصمود والعزة، ودون أن تتكحل عيناه بتحرير الوطن من المحتلين.
مات شاعر الانتفاضة الذي كرس حياته في الدفاع عن الحق والعدل والحرية، وضد الجور والبطش والقهر والاحتلال والظلم التاريخي الذي لحق بشعبه.
رحل نبي الغضب، وخبز الفقراء، وأنيس المقهورين والمعذبين، ولسان الفلسطينيين وأبجديتهم، والعاشق الأبدي لتراب الجليل وزيتون الرامة، الذي سما بشعره فوق الجراح والعذاب.
سميح القاسم هو احد أعمدة الشعر السياسي الاحتجاجي المقاوم، ومن ابرز واهم الأصوات الشعرية الفلسطينية والعربية المعاصرة، ويعد من الجيل المؤسس للكلمة المقاتلة في فلسطين التاريخية، وشكل قوس قزح لثقافة الصمود والمواجهة ولشعر المقاومة والالتزام السياسي مع توأم روحه محمود درويش ورفاق دربه ومجايليه توفيق زياد وراشد حسين وسالم جبران وحنا أبو حنا وسواهم. عرفناه والتقيناه في ميادين النضال وساحات الكفاح والمواجهة مع السلطة، واستمعنا لقصائده في مهرجانات يوم الأرض وأول أيار وعيد المرأة العالمي وفي الندوات الشعرية ومهرجانات الأدب والفكر، وكان كابوساً لسياسات الاحتلال بكلماته القوية وصوته وظلاله.
ومنذ نشأته الأولى التزم سميح القاسم خط النضال ومقارعة الظلم ومقاومة التجنيد الإجباري المفروض قسراً على أبناء الطائفة المعروفية، وارتبط نشاطه السياسي والاجتماعي والثقافي والأدبي بالحزب الشيوعي وتعاليمه ومفاهيمه ومنابره وأدبياته. سجن واعتقل أكثر من مرة ووضع تحت الإقامة الجبرية، وتعرض للملاحقات والمضايقات السلطوية، وفصل من التدريس بسبب قصائده ومواقفه السياسية والوطنية والقومية، ورغم ذلك واصل درب الكفاح والنضال، ولم تهزه التهديدات، ولم تزعزعه المضايقات، ولم يدع أي فرصة اجتماعية أو سياسية أو وطنية دون أن يشترك فيها مادام الغاية من ورائها مصلحة الوطن والقضية ومستقبل الشعب.
كان سميح القاسم يكره الطائفية والتعصب الديني والعرقي والمذهبي، ويمقت التكفير والقمع الفكري، وكان يدعو دائماً للتسامح والوحدة والتآخي بين الأديان والطوائف وصيانة النسيج الاجتماعي والوطني لشعبنا.
حظيت أشعار سميح القاسم وقصائده وكتاباته السياسية والفكرية بشهرة واسعة، واعتبر من كبار الشعراء والمبدعين الفلسطينيين والعرب الذين ارتبط أدبهم بالثورة والمقاومة والحياة. ومن موقعه القيادي في دنيا الشعر والفكر والنضال وقف أبو محمد وأبو وطن سميح القاسم، رمزاً وطنياً وعلماً ساطعاً فياض العطاء، حاملاً المشعل والرسالة قولاً وعملاً، مغمساً قلمه في قلبه، ودمه على أكفه، مضمخاً بالحب والحنان والمحبة، كابن لهذا الوطن الذبيح الجريح والشعب الأصيل، الذي كان يستمد منه قوته وأصالته وشموخه وإبداعه.
وعلى مدى عمره الحافل بالعطاء والإبداع الشعري والتوهج، ظلت فلسطين حلمه وهاجسه الكبير وهمه الأول والأخير. وجسد في كتاباته هموم وطنه، وعبر عن آمال شعبه الفلسطيني بالحرية والانعتاق والاستقلال والخلاص من ربقة الاحتلال. وتشهد على ذلك قصائده الوطنية الثورية الملتزمة، التي تحاكي الواقع، وتناجي الوطن، وتتغنى بالزيتون والتراب المقدس وكل سنبلة في ربوع وطننا الحبيب والغالي، وتصور بطولات الشهداء وصمود المقاتلين والمعتقلين.
وقد تحولت قصائده إلى أغان وطنية وأناشيد وهتافات ثورية ترددها حناجر الجماهير في معارك التحرر والاستقلال الوطني، وأصبحت جزءاً من التراث الحي لأناشيد الثورة وأغاني المقاومة الفلسطينية.
وفي كل كتابات سميح القاسم المتنوعة، نلمس البعد الوطني والإنساني والتاريخي والنقدي والمستقبلي، ونحس بالدفء وحرارة القلب ونبضاته، ونلمس الأمل والتفاؤل والاستشراف المتطلع إلى غد أجمل ومستقبل أفضل متجدد. وغني عن القول، أن سميحاً كان دائماً الشاعر المتفائل، رغم الألم والمعاناة اليومية ومصاعب الحياة وقهر الاختلال.
إن إنساناً بحجم وعظمة المتماوت سميح القاسم، الذي كرس عمره وأدى دوره كمثقف عضوي وثوري رسولي من خلال الجبهة الثقافية، ووظف شعره وجنده للتعبير عن الروح النضالية والإنسانية المنافحة التي تدعو للمحبة والسلام بين الشعوب، إنساناً كهذا لا يمكن أن يغيب لحظة واحدة عنا، وسيبقى خالداً في وجدان وعقل أبناء شعبه ومثقفيه، ولن يموت أبداً.
سميح القاسم مبدع كبير، وقامة شعرية سامقة، ومصباح توهج بنور العمل والأمل، تجسدت فيه قيم الصدق والتواضع والخير والعدل والإنسانية وشموخ جبالنا الفلسطينية وروابيها وصلابة صخورها، وسيظل يملأ سماءنا وفضاءنا بروائعه الشعرية الأصيلة.
طوبى لسميح القاسم في الحياة والممات، ووداعاً يا شاعر القضية، ويا لوركا فلسطين، ورسول المحبة والجمال والذوق الرفيع، والصوت الهادر الصارخ المعبر عن آلام وهموم شعبنا الظامئ للحرية والشمس والفرح.
شاكر فريد حسن