ضياع الوقت وفساد القلب
تاريخ النشر: 01/09/14 | 1:19قال العلامة ابن قيم الجوزية: إنَّ بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلَّ، ونصحه لكل من اجتمع به، قال تعالى – إخبارًا عن المسيح: ((وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)) أي: معلمًا للخير، داعيًا إلى الله، مذكرًا به، مرغبًا في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به فإنَّه يضيع الوقت، ويفسد القلب، وكل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع الوقت، وفساد القلب، وتعود بضياع حظه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده، ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب؛ فإنَّه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها، وكان ممن قال الله فيه: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)).
بكت مما يصنع بنفسه
ذكر ابن أبي يعلى في “طبقات الحنابلة” عن عبد الصمد بن سليمان بن أبي مطر قال: بت عند أحمد بن حنبل رحمه الله فوضع لي صاخرة ماء، قال: فلما أصبحت وجدني لم أستعمله، فقال: صاحبُ حديثٍ لا يكون له ورد بالليل. قال: قلت: مسافر، قال: وإن كنت مسافرًا، حجَّ مسروقٌ فما بات إلا ساجدًا.
ومسروق هو مسروق بن الأجدع، أحد كبار التابعين، كنيته أبو عائشة الوادعي، اشتهر بالعلم والعبادة، فإذا كانت هذه عبادته في الحج، فكيف في الحضر! هذه زوجة تذكر عنه ما يفعله في الحضر، تقول: كان مسروق يصلي حتى تورم قدماه، فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه!!
أردت أن أتواضع لله بك
ذكر في “التعديل والتجريح” عن نافع بن جبير وهو من أئمة التابعين، وقد أخرج له البخاري في صحيحه في أكثر من موضع، أنه خرج في سفر ومعه شيخ من بني عبد الدار، فلما حضرت الصلاة قال نافع للشيخ: تقدم فصلِّ، ففعل، فلما فرغ من صلاته قال له نافع: تدري لم قدمتك؟ قال: نعم، لشرفي وسني. قال: لا، ولكن أردت أن أتواضع لله بك!
شتم الصحابة فأكلته الزنابير
أخرج أبو جعفر أحمد بن عبد الله الطبري المتوفي سنة أربع وتسعين وستمائة في كتابه “الرياض النضرة في مناقب العشرة”: عن أبي المحياة التيمي قال: حدثني رجل، قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر، فنهيناه، فلم ينته، فخرج لبعض حاجته، فاجتمع عليه الزنانير – هو ذباب لساع- ، فاستغاث فأغثناه، فحملت علينا فتركناه، فما أقلعت عنه حتى قطعته قطعًا.
أمنيات الأتقياء
ذكر أبو نعيم في “حلية الأولياء”، قال: عن يوسف بن الحسين قال: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: ما تمنت علي نفسي قط إلا مرة، تمنت عليَّ خبزًا وبيضًا، وأنا في سفر فعدلت من الطريق إلى قرية، فلما دخلتها وثب إلي رجل فتعلق بي، وقال: إن هذا كان مع اللصوص، فبطحوني وضربوني سبعين جلدة، فوقف علينا رجل، فصرخ: هذا أبو تراب، فأقاموني، واعتذروا إلي، وأدخلني الرجل منزله، وقدم إلي خبزًا وبيضًا، فقلت: كلها بعد سبعين جلدة. وأبو تراب هذا هو عسكر بن محمد الزاهد.
أبو بكر وكهانة الأعرابي
روى أحمد بسندٍ رجاله ثقات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلوا رُفقة مع فلان، قال: فنزلت في رفقة أبي بكر، وكان معنا أعرابي من أهل البادية، فنزلنا بأهل بيت من الأعراب وفيهم امرأة حامل، فقال لها الأعرابي: نبشرك أن تلدي غلامًا، إن أعطيتني شاة ولدت غلامًا. فأعطته شاة، وسجع لها أساجيع، قال: فذبح الشاة. فلما جلس القوم يأكلون، قال رجل: أتدرون ما هذه الشاة؟ فأخبرهم. أي أنها كانت حلوان كاهن، وهو الأعرابي الآنف الذكر، قال: فرأيت أبا بكر متبرزًا مستنثلًا متقيئًا.
أفلا قلتم لنا؟
ذكر الخطيب البغدادي من حديث سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده، قال: كنا مع عمر في سفر، فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: “سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته” ثلاثًا عوفي مما يكون في ذلك الرعد. ففعلنا، فعوفينا، ثم لقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا بَرَدة قد أصابت أنفي، فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا؟ قال: بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبًا حين سمع الرعد قال لنا: مَنْ قال حين يسمع الرعد: “سبحان مَنْ يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته” ثلاثًا، عوفي مما يكون في ذلك الرعد، فقلنا: فعوفينا. فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها!.
الصرصري المادح
هو يحيى بن يوسف الأنصاري الصرصري، علم من أعلام الإسلام، كان ضريرا، ولد سنة 588هـ، وقرأ القرآن بالروايات وسمع الحديث، وحفظ الفقه على مذهب أحمد بن حنبل، وحفظ اللغة، ويقال إنه كان يحفظ “الصحاح” للجوهري بكماله، وكان أديبا شاعرا ويلقب بـ”جمال الدين”.
اشتهر بمدائحه للنبي صلى الله عليه وسلم، وله ديوان كان سائرا بين الناس، حتى قيل عنه “حسّان زمانه”، ولم يشتهر عنه أنه مدح أحدا قط من المخلوقين من بني آدم إلا الأنبياء.
كان شديدا في نصرة السنة، وشعره مملوء بذكر أصول السنة، وذم مخالفيها، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وبشره بالموت على السنة، ونظم في ذلك قصيدة طويلة منها الأبيات المتقدمة.
لما دخل هولاكو وجنوده الكفار إلى بغداد سنة 656 للهجرة، كان الشيخ يحيى بها، فدعاه كرمون بن هولاكو للحضور، فأبى أن يجيب له، واعد في داره حجارة – وكان ضريرا كما تقدم – فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل أحدهم بعكازه ثم قتلوه شهيدا رحمه الله تعالى.
بيع الأبرار
كان عند يونس بن عُبيد حُلل مختلفة فيها ما قيمتها أربعمائة وفيها ما قيمتها مائتان.
فخلَّف ابن أخيه في الدُكان فجاء أعرابي فطلب حُلَّةً بأربع مائة فعرض عليه من الذي قيمتُه مائتان فاشتراها بأربعمائة.
فاستقبلهُ يُونس وهي على يده فعرفها، فقال له: بكم اشتريتها؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى ترُدَّهَا.
فقال: هذه في بلدنا تُساوي خمسمائة وأنا ارتضيتُها، فقال يونس: انصرف معي، فإن النصح في الدين خيرٌ من الدنيا وما فيها، ثم أتى إلى الدكان وردَّ عليه مائتي درهم.
وخاصم ابن أخيه في ذلك ووبخه، وقال: أما استحييت؟ أما اتقيت الله؟تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين!
فقال: ما أخذها إلا وهو راضٍ بها، قال: فهلا رضيت له بما ترضاهُ لنفسك.
وقيل لمجمع التيمي وقد جلب شاته للبيع: كيف شاتك، قال: ما أرضاها؟
فطنة الخادم
يروي الشيخ العمراني أن رجلًا من أهل صنعاء اسمه أحمد الفليحي، وقد كان من أهل العلم والصلاح، كتب وصيته التي أوصى بها أولاده أن يبنوا من تركته مسجدًا، وكان مع هذا الشيخ خادم يرافقه دومًا وكان نبيهًا ذكيًا.
وذات ليلة من الليالي وهو يمشي في الطريق والظلام حالك لا يكاد يرى شيئًا كان خادمه يضيئ له من خلفه يحمل الضوء ويمشي خلفه
فقال له الشيخ أحمد الفليحي: إن الذي يريد أن يضئ لابد أن يكون في الأمام لا من الخلف
فقال له خادمه: (هذا على مذهبك يا شيخ / أحمد) قال: وكيف على مذهبي؟ قال:قد قلنا لك من الأمام قلت من الخلف، لقد أوصيت أن يبنى مسجد بعد موتك، فلو بنيته في حياتك لسبقك النور في قبرك قبل أن تموت فما يدريك أن أولادك ينفذون الوصية بعد موتك.
فقال له: صدقت.
عند ذلك أمر ببناء المسجد وأشرف عليه حتى اكتمل بناؤه وصلى فيه.
لأموتن والإسلام عزيز
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن الحارث بن سويد قال: كان المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- في سرية، فحصرهم (العدو)، فعزم الأمير أن لا يجْشُر – يرعى- أحد دابته، فجشر رجل دابته لم تبلغه العزيمة، فضربه؛ فرجع الرجل وهو يقول: ما رأيت كما لقيت اليوم قطّ. فمرّ المقداد، فقال: ما شأنك؟ فذكر له قصته، فتقلَّد السيف وانطلق معه حتى انتهى إلى الأمير فقال: أقده من نفسك –أنصفه من نفسك -فأقاده فعفا الرجل عنه، فرجع المقداد وهو يقول: ((لأموتَنَّ والإِسلام عزيز)). أي مبادئ الإسلام عزيزة مصونه مطبقة.
بين الأحنف ومعاوية
دخل الأحنف بن قيس التميمي، سيد بني تميم على أمير المؤمنين معاوية بن ابى سفيان رضى الله عنه.
فلما دخل عليه سلم عليه وجلس فقال له معاوية: أنسيت يا أحنف! يوم الجمل ويوم صفين -يعني مع علي رضي الله عنه- فقال الأحنف وكان رجلًا شجاعًا: يا معاوية! إن السيوف التي قاتلناك بها في أغمادها في بيوتنا، وإن القلوب التي أبغضناك بها في صدورنا فإن عدت عدنا، فاحمر وجهه وسكت، فلما دخل إيوانه قالت ابنته: يا أبتاه! من هذا الأعرابي الجلف الذي يكلمك بهذا الكلام الغليظ وأنت لا ترد عليه؟
قال: هذا الأحنف بن قيس، هذا الذي إذا غضب غضب معه عشرة ألف سيف من بني تميم، لا يسألونه فيما غضب، وإنما يقولون: غضبت زبراء، وزبراء جارية للأحنف، فيسمون الأحنف زبراء، فلو أنني أغضبته سوف يغضب معه عشرة ألف سيف.
والأحنف بن قيس كان من أجود وأحلم العرب، مع أنه كان هزيلًا أحنفًا يمشي على رجلٍ واحدة مهلهل الشعر، لكن كله عقلٌ وحكمة وذكاء ودهاء، فـمعاوية صفح عنه وكظم غيظه.