فوضى الأزقّة المحشورة بين قوسين
تاريخ النشر: 26/08/14 | 23:09نحن الآن في زقاق متعرّجٍ وطويل. اللون الطاغي هو البني الفاتح، لكن يوجد بعض الأخضر أيضاً. كل شيء هادئ هنا، كأننا في جزءٍ مهجور من المدينة. يرتفع نظرنا إلى الأعلى، ويتوقف في رحلة استكشافه ناحية اليسار أوّلاً.
أبنية واطئة، ذات فخامة قديمة، بأحجار بنية اللون اخترقتها في بعض الأحيان رصاصات طائشة، تبدو كأنّها على وشك الانهيار. ثم إلى اليمين: تظهر بنايتان جديدتان، ترتفعان إلى الأعلى، وسط البنيان القديم المهجور. وواجهتاهما الزجاجيّتان تبشّران الحجر بمصيره الآتي يوماً ما.
في البعيد، ليست هنالك بنايات جديدة بعد، بل حركةٌ خفيفة، وصوت مقص كهربائي.
تحت الأبنية المتهرئة، حرفيون عجزة يعملون ويتحركون وسط أكوامٍ من الخردة، كأنّما هم يؤدّون رقصة محفوظة.
داخل أحد ورشات العمل الصغيرة، بين الأشياء التي تصنع، نرى على جدارٍ مقشّر، صورةً بالأسود والأبيض. صورة للأب – أو الجد – ببذلته الأنيقة يشرف بعطفٍ على كل شيء، وعلى الزمن الذي يمرّ.
بين ورشتيّ عمل، امرأة بدينة تعجن المناقيش. يمكننا أنّ نطلب منها الـ”منتي” الأرمنية، شرط أن “نوصيها” قبل يوم.
يلتقي الزقاق بطريق علينا أن نقطعه لنواصل لحاقنا بخيط البنايات القديمة، التي ما زالت متماسكة. تتحدى الوقت الذي يمرّ على المدينة التي صارت حديثة ومزدحمة وكثيفة، فلم تعد تسمح لنفسها برفاهية الأسقف المرتفعة، والبنايات القليلة الطوابق.
ينعطف الزقاق فترتفع في الوقت نفسه أبنية متواضعة قريبة من بعضها البعض. جنباً إلى جنب: خيّاط، مسمكة، محل سمانة، محل تلفونات وإكسسوارات.
فجأة يمتلأ الزقاق بحركةٍ كبيرة ويتّسع. صرنا الآن في شارع “الـوتوات”.
هنا، حبال زينة تربط بين جانبي الشارع. انتهى شهر رمضان، لكنّها ما زالت معلّقة. وهنا أيضاً، صور شبان يرتدون ملابس عسكرية، ملصقة على الجدران، عند مداخل البنايات. ثلاثة شبان تنتشر وجوههم الجامدة في كل مكان. أعلام خضراء وأعلام صفراء معلقة على أعمدة الكهرباء. تحتها، حلقة تتألف من مجموعة شبّان يشربون القهوة، فيما يجلس أحدهم على دراجة نارية متوقّفة. خلفه، وجه يشبه وجوههم وقد صار صورة على ملصق.
قريبا، أولاد يمسكون بثياب والدتهم، يعبرون من الدكّان، إلى المسمكة، فالخياط. يمسك ولد بمسدّسٍ بلاستيكي، فيما تحاول طفلة انتزاعه منه. تتدخّل الأمهات بصعوبة. تشدّ الأيادي الصغيرة، بعنادٍ، على قطعة البلاستيك. تنخفض الأمّهات ويصرخن عليهما. تحدث المشاجرة، تحت، في الأسفل، حيث لم تنمُ قوانين التهذيب بعد.
الأبنية هنا، حتى القديمة منها، مسكونة. عند المنعطف مقهى صغير، له “بار”، يديره رجل كبير في السن، بينما يجلس رجلٌ آخر، من العمر نفسه، وعيناه مرفوعتان باتجاه الشاشة المعلقة في الأعلى. الشاشة التي تذيع أخباراً ليست جيدة.
هناك أيضا نديم، رجل كبير في السن بنظّارات سميكة، في محل يحمل اسمه. محل نجد فيه زجاجات كحول ومياه ومرطبات. ثمّ تختفي الزينة عن أعمدة الكهرباء ـ لتحل مكانها الآن أعلامٌ معلقة لـ”الحزب الشيوعي اللبناني”. ستختفي المحال أيضاً، لتظهر مواقف سيارات وصحون لاقطة لتلفزيون “المستقبل”.
في نهاية الشارع تصير البنايات فخمة، مع إطلالةٍ على حديقة الصنائع. وفيه ستظهر حواجز إسمنتية مطليّة بألوان العلم اللبناني، وضعت لتخفف من سرعة السيّارات، حفاظاً على أمن أحد الوزراء. صرنا بعيدين الآن. والأزقّة التي تبدو محشورة بين قوسين، صارت فوضاها المتناغمة بعيدة، كحلم نقع فيه من مشهد إلى آخر من دون مقدمات.
بقلم فرات شهال الركابي – السفير