الموت لا يعرف الانتظار
تاريخ النشر: 28/08/14 | 10:22(كلمة الكاتب في تأبين أخيه وصديقه ورفيق دربه)
محمد علي طه
أوجعني موتُكَ وأحزنني في زمنٍ ضاق صدرُهُ عن الحزنِ والوجع.
ذهب الذين أحبّهم. ذهب الذين أحبّهم.
تقولُ يا سميح:
أنا لا أحبُّكَ يا موتُ
لكنّني لا أخافُكْ
وأنتَ صغيرٌ عليْ
وبحري تضيقُ عليه ضفافُكْ.
وأقولُ لك: الموتُ لا يعرف الانتظار!
أخي وصديقي ورفيقي أبا محمّد، أبا وطن محمّد، سميح القاسم!
تودّعُنا اليومَ مرفوعَ الهامةِ بما قدّمتَ للحضارةِ العربيّةِ والثّقافةِ الإنسانيّةِ من قصائدَ وملاحمَ ومسرحيّاتٍ ورواياتٍ ومقالاتٍ، قصائدَ خالدةٍ، هلّلتْ للوطنِ، وغنّت للثّوّار من الجزائر إلى عدن، ومن كوبا إلى فيتنام، قصائدَ وهبتها لأجمل البلدان فلسطين، فأنشدها الرّجالُ والنّساءُ والأطفالُ في أزقّة الشّجاعيّة، في حارات خُزاعة، في شوارع بيت حانون، في ميادين البرازيل، تحت قوس النّصر في باريس، وفي ساحة الكرملين.
تقدّموا تقدّموا. كلُّ سماءٍ فوقكم جهنّمُ. وكلُّ أرضٍ تحتكم جهنّمُ، تقدّموا. يموت منّا الطّفلُ والشّيخُ ولا يستسلمُ.
ونودّعكَ اليومَ ونحنُ نراكَ منتصبَ القامةِ، أبداً منتصبَ القامةِ. لم تنحنِ أمامَ حاكمٍ مستبدّ، قيّد حركاتكَ، وفرض الإقامةَ الإجباريّة عليكَ أو سجنكَ أو سلب لقمةَ خبزكَ وطردكَ من عملكَ.
ربّما أفقدُ ما شئتَ معاشي
ربّما أعرضُ للبيعِ ثيابي وفراشي
ربّما أعملُ حجّاراً وعتّالاً وكنّاسَ شوارعْ
ربّما أخدمُ في سَوْحِ المصانع
ربّما أبحثُ في رَوْثِ المواشي عن حبوبْ
ربّما أخمدُ عُرْياناً وجائعْ
يا عدوَّ الشّمسِ لكنْ لن أساومْ
وإلى آخرِ نبضٍ في عروقي سأقاوم.
تغادرُنا اليوم، يا سميح، وتبقى بيننا ومعنا.. وفي وطنك إلى أبدِ الآبدين، وصوتُك الجهوريّ يجلجل من غزّة إلى الخليل، ومن القدس إلى الجليل، ومن تطوان إلى عُمان.
ترحلُ عنّا وتبقى كلماتكَ، أفكارُكَ، أشعارُكَ، مواقفُكَ الوطنيّةُ الجريئةُ:
تبقى خميرةً للأجيالِ،
تبقى منارةً للأبناء والأحفادِ،
تبقى ديمةً سكوباً للشّعب الذي بادَلَكَ الحبَّ،
تبقى بوصلةً لقوى التّقدّمِ والثّورةِ في بلادنا والعالم.
كلماتُكَ كانت رُمحاً في صدرِ الاحتلالِ، سناناً في وجه الغزاةِ، ثورةً على سجون الظّلمِ في كتسيعوت وأبو غريب وغوانتينامو. تصفعُ، تلطمُ أعداء الشّعوبِ، أعداء الشّمس.
ما جئتُ إلى رامة الوطنِ لأبكيكَ يا أخي ورفيقي.
لن أنافسَ حيدرَ والكرملَ، والنّخيلَ والزّيتونَ، والوردَ والقمحَ.
لن أنافسَ قّصْفَةَ الزّيتونِ التي غرستها يا سميحُ في يدِ الثّائرِ، ولا قَصْفَةَ الفيْجَن التي عوّذتكَ بها أمّكَ، ولن أتبارى مع بحور الخليل وبحور العرب المستباحة.
يا شاعرَ العربيّة التي نمتَ ملءَ عينيكَ عن شواردها ومعاجمها، وملكتَ أفعالها وأسماءها وحروفها من لاميّة صديقكَ الشّنفرى إلى روائع صديقكَ القرمطيّ.
يا شاعرَ الحداثةِ وما بعدها. أيّةُ جرأةٍ وشجاعةٍ تتدفّقُ من السّربيّةِ والكولاج!
يا شاعرَ العروبةِ وحادي قافلتها. تزورُ قصيدتُكَ ثوّار الأوراس وتصادقُ أخاكَ أحمد بن بللا.
تسبحُ في النّيلُ وتقفُ على الهرمِ ويرحّبُ بكَ أبو خالد ومحفوظ والشّيخ إمام والأسطى سيّد.
تمرّ بالخرطوم لتصافح الشّفيع.
تغنّي لليلى العدنيّة،
تبحرُ مع الجواهريّ في دجلة الخير،
تزورُ قبرَ صلاح الدّين،
وتخصّص، تخصّص ديواناً كاملاً للأميرة يبوس، زهرة المدائن، التي تخاذل عنها العربُ العاربةُ والعربُ المستعربةُ.
ما كانَ أبو وطن محمّد سميح سنيّاً أو شيعيّاً أو إسماعيليّاً أو يزيديّاً بل هو عربيٌّ عروبيٌّ لحماً ودماً، قلماً وموقفاً، مناهضاً لدويلات سايكس بيكو، عدوّاً لملوك الطّوائف وطوائف الملوك. يهزّ عروشهم، يعرّيهم، يفضَحُهُمْ منذ امرئ القيس أوّلِ أميرٍ عربيٍّ استنجدَ بجيش أجنبيّ وأدخلَ زناة الغربِ إلى بلاد العرب حتّى نوري السّعيد، عفواً، نوري المالكيّ الذي باع بغداد لكسرى وأصبح قَيْلاً عنده.
يا خيّا يا سميح!
بدأت صداقتنا في العام 1958 حينما زرتُكَ برفقةِ الصّديقين المرحومين الشّاعرين محمود درويش وسالم جبران.
ذهب الذين أحبّهم.
لم تعكّر صداقَتَنا قشّةٌ أو غبرةٌ.
هل تذكر يا خيّا عندما كنتَ شاباً صغيراً جميلاً متمرّداً تطاردكَ الشّرطةُ العسكريّة وتتحدّاها رافضاً التجنيدَ وتأتي إلى بيتي في كابول لتختفي بعيداً عن عيونها ؟
أتذكر حينما وضعوكَ في الزّنزانة التي سجنوا فيها المجرمَ ايخمان؟
أتذكر النّادل الذي كسرَ فنجان القهوة عندما كنّا نشربها في الزّبدانيّ؟
أتذكرُ ما قاله لكَ أبو العبد فيصل في وهج الانتفاضةِ في ليلةٍ مقدسيّةٍ نديّة ؟
أتذكر ما قاله لكَ الشّهيد أبو عمّار في جامعة بيت لحم ؟
أتذكرُ الدّكتاتور الأحمقَ، وكلّ دكتاتورٍ أحمق، الذي حاول رسولُهُ أن يغريكَ بزيارتهِ فأبيتَ ؟
سلام الله عليكَ يا أبا وطن! يا قمرَ هذا الوطن! يا ابن هذا الوطن! يا المنغرس الباقي في هذا الوطن زيتونةً راميّةً، صخرةً من صخورِ القدسِ.
لو كانَ عليَّ أن أولدَ ألفَ مرّةٍ
لشئتُ دائماً أن أولدَ هنا. هنا.
ولو كانَ عليَّ أن أموتَ ألفَ مرّةٍ
لشئتُ دائماً أن أموتَ هنا. هنا.