تحليلٌ أدبيٌّ لقصيدةِ- “أيائِلُ مُشبَعةٌ برائحَةِ الهَلَعِ”
تاريخ النشر: 30/08/14 | 0:26تحليلٌ أدبيٌّ لقصيدةِ- “أيائِلُ مُشبَعةٌ برائحَةِ الهَلَعِ”
بقلم- عبد المجيد عامر إطميزة
لا تَبْحَثْ عَنْ زَماني العَتيقِ
في رُكامِ أَعْوامي المَنْسِيَّة
فَأَحلامي باتَتْ تَتأَرحجُ
مِثلَ بَندولِ سَاعةٍ/ مَا بَيْنَ المَوْتِ وَالحَياة
آهٍ .. قَلْبي تَصَدَّأ/ مُثْقَلًا بِحَكايا تَتَصدَّع
قَلبي ؛ غَصَّهُ الحُزْنُ/ هَدَّهُ امتِهانُ الرُّوح
لا تَبْحَثْ عَن ِالنِّسْيانِ/ في خَريِطَةِ أَوْجاعي
بَيْنَ إِحْداثِيّاتِ ضَعْفي/ أَو بَيْنَ فَواصِلِ شِعْري
لا تَنْبشْ أَدراجَ ذاكِرَتي
لا تَحتَ خُطوطِ أَحْزاني/ وَلا فوْقَ مِساحاتِ أَفْراحي
عَبثًا .. أَحْلامي رَحَلَتْ
عَلى أَجْنِحَةِ النُّورِ والظَّلام
هَرَبَتْ/ مِنْ مَداراتِ الرُّعْبِ الدَّامي
وَخرَجَتْ/ مِن ْجاذِبِيةِ كَوْكَبِ اللِّئام
ذاكِرَتي غَدَتْ مَزْكومَةً
دواةُ اللَّيلِ انسَكَبَتْ/ فَوْقَ خَرائِطي
مَحَتْ كُلَّ مَعالِمي
نَثَرَتْ عَلى جَسَدي/ بُثورَ غُرْبَةٍ وضَبابًا
مِن آهاتٍ وَأكْفَان
طَعَناتُ مَكائِد/ تَتَوالى ../ تَتَهاوى ..
من يَدٍ مَسْعورَةٍ تَغْرِزُها
حتَّى في أَنويةِ الزُّهور
هِيَ المُفارَقاتُ تَنَثُرني بِلُؤْمٍ
في حَدائقِ الظَّلامِ بِوَخَزاتٍ مُؤْلِمَةٍ
تَمْتَصُّ وَميضي/ بِاحْتِضانٍ مُسْتَحيلٍ
تَفرشُ مَخالِبَ وَصفِها
فَوْقَ/ أَنفاسِ الحَياةِ
وَتَحْتَ/ سَراحِ المَمَات
تَتَصاعَدُ التَّنَهُّداتُ مُشبَعةً لَهبًا
حتَّى النُّخَاع
آهٍ يَا …/ مَلامِحي الوَرْدِيَّةِ جَفَّتْ
لُسِعْتُ بِسوطِ الخَرير
وَوَشَمُوني بِمَاءِ الفَوضَى
حَتَّى مَفاتيح الأَلَمِ سُرِقتْ مِنِّي
تَركُوني أَتَأَرْجَحُ/ بَين الذَّاكِرَةِ وَالنِّسْيان
آهٍ …/ لَكَمْ أَخْشى رُؤيةَ أَيائِلي
تَتَناسَلُ / مُهَرْوِلَةً .. مُشبَعةً
بِرائِحَةِ الهَلَعِ وَالارتِجَاف
تَتَراكَضُ/ جافِلَةً .. خائِفَةً
ما بَيْنَ أَدْغالِ المَوْتِ وَشِراكِ الاحتِرَاق
عُيونُ الشَّرِّ/ تَتَربَّصُهم
في كُلِّ اتِّجَاهٍ وَآن
تَسْتَنْفِرُ حَواسَّ الذُّعرِ
تَسْتَثيرُهم ../ تَسْتَفِزُّ مَوْتَهم إلى المَوْتِ
(ديوان بسمة لوزية تتوهج ص 50-56)
ثانيًا: التّحليلُ الأدبيُّ- جوُّ النّصّ: هذهِ القصيدةُ تتحدّثُ عن الإنسانِ الفلسطينيّ الّذي عاشَ النّكبةَ، وُلِدَ أطفالُهُ، ولا زالوا يَضرسونَ الوَجعَ والنّكبةَ والهُويّةَ التّائهةَ، والعُمرَ المَهزوزَ المَهدورَ بطلقةٍ طائشةٍ، أو مُوجَّهةٍ في ظلِّ الاحتلالِ، وفيها نرى صورةَ الإنسانِ العربيِّ في الشّرقِ، وما يُكابدُهُ مِن حروبٍ تتوالى، تُجرِّدُهُ حقَّهُ في الحياةِ والأمنِ والأمانِ. فالواقعُ الصّعبُ الّذي تَعيشُهُ الكاتبةُ، وما فيهِ مِن ظُلمٍ اجتماعيٍّ، وتَسلُّطٍ سياسيٍّ، يَضغطُ عليها بأحاسيسِها المُرهفةِ، وبمنظارِ شعورِها الرّقيقِ، فتتولّدُ الأفكارُ، وتغتلي العواطفُ، فتَهيجُ عاطفةُ الشّاعرةِ، وتُصوِّرُ لنا مُعاناتَها في ظِلِّ الوقْعِ المُرِّ، ولِتُخفّفَ عن النّفسِ عذاباتِها، تَنطلقُ بهذهِ السّطورِ الشِّعريّةِ.
الأفكارُ الرئيسة: 1. أحلامُ الشّاعرةِ تتأرجَحُ ما بينَ موْتٍ وحياةٍ.
2. واقعُ الخوْفِ، والرُّعبِ، وامتهانُ الكرامةِ، والحزنِ، والتّهميش.
3. مُواجهةُ الشّاعرةِ للمُنغِّصاتِ والعقباتِ الكأداءِ الّتي يُحدِثُها الاحتلالُ، فكلُّ مُصيبةٍ تُذكِّرُها بمصيبةٍ أخرى، وهي عاجزةٌ عن وقفِ سيْلِها، وتُفضفِضُ عن أوجاعِها شِعرًا.
4. تَنهى الشّاعرةُ صديقَها، بتذكيرهِ بأحزانِها وأحلامِها الّتي أخذتْها الرّياحُ، وعصَفَتْ بها بَلاقعَ، وترَكَتْها خواءً، مِن خلالِ أجواءِ الحربِ والقتلِ والتّهميشِ وسلْبِ الحقوقِ.
5. المصائبُ وما تَراهُ وما تُحسُّ بهِ مِن مُحتلٍّ، أفقدَتْ ذاكرةَ الشّاعرةِ، فاجتاحَتْها الغربةُ في وطنِها، ولا يُسمَعُ منها إلّا الأنينِ والزّفراتِ الحَرّى.
6. يدُ المُحتَلِّ المَسعورةِ لا تُراعي حتّى براءة الأطفال.
7. الشّاعرةُ تُحِبُّ وتَعشقُ كلَّ جميلٍ، لكن ما يُحيطُ بها مِن ظلامٍ دامسٍ، أفقدَها حلاوةَ العيْشِ والإحساسِ بالجَمالِ.
8. تُسيطرُ على الشّاعرةِ الزّفراتُ والتّنهُّداتُ والتّوجُّعاتُ، فتُصبحُ حياتُها فوضًى واضطرابًا.
9. شعورُ الشّاعرةِ بالخوْفِ مِنَ المُستقبِل، والنّاشئةِ في جوٍّ مليءٍ بالحقدِ والخوْفِ والشِّراكِ المُنتصِبةِ في الأدغالِ، وعُيونُ الشّرِّ تَكمُنُ في كلِّ مكانٍ.
العاطفة :
1. عاطفةُ التّحسُّرِ والأسى والحُزنِ والخوْفِ والهَلعِ مِن واقعٍ مَقيتٍ.
2. التّفجُّعُ والتّوجُّعُ مِن مُمارساتِ الاحتلالِ.
3. عاطفةُ الشُّعورِ بالغربةِ في الوطنِ.
4. عاطفةُ الذّهولِ مِن واقعٍ لا يَرحَمُ يُفقِدُ الذّاكرةَ.
5. الفقدُ وضياعُ الأمَلِ والأحلامِ.
وتستمدُّ الشّاعرةُ أفكارَها ومعانيها مِن تجربةٍ صادقةٍ، وعاطفةٍ قويّةٍ، فلا ريْبَ في ذلك، فهي مُرهفةُ الأحاسيسِ، تُحِبُّ النُّبلَ، ويَعشقُ قلبُها الرّقّةَ والدّماثةَ، لكنّها تَعيشُ في وضعٍ مأساويٍّ يَسلبُ الرّقّةَ والأحلامَ، يُخيفُ حتّى الأطفالَ، ويَمحو الذّاكرةَ، ويَقتلُ كلَّ جميلٍ في الرّوحِ.
هيَ تَهرُبُ بقلبِها عن واقعٍ وحياةٍ، سلبَتْها الحقوقَ وأثقلَتْ عليها بالواجباتِ، وتَرى بأمِّ عيْنِها التّفرقةَ والتّمييزَ والتّهميشَ والتّقزيمَ والعبثَ بإنسانيّةِ الإنسانِ، وتَعجزُ عن التّغييرِ، فها هي تُعايشُ الأحداثَ بنفسِها، فانعكسَتْ تلكَ على أحاسيسِها ووجدانِها، وقد غلبتْ على المقطوعةِ نزعةُ الرّفضِ للواقعِ المُرِّ والمُزْري، فارتفعَ صوتُها رافضًا هذا النّسيجَ المَبنيَّ على عدمِ تقديرِ الإنسانِ لإنسانيّتِهِ.
تهرُبُ أمامَ العجْزِ وعدَمِ التّمكُّنِ مِنَ التّغييرِ إلى خيرِ جليسٍ، تَسطُرُ بقلمِها ما يَحلو لها شِعرًا تُفضفِضُ بهِ، وتُخفّفُ عن ضغوطاتٍ ألمّتْ وتُلِمُّ بعواطفِها وذاتِها وحُبِّها وآمالِها وأمانيها، لكن باعتدالٍ وبعباراتٍ موحِيةٍ، والإيحاءُ أبلغُ في تصويرِ الأحاسيسِ، وما هو مُختزَنٌ في اللّاشعور.
الخصائصُ الأسلوبيّةُ: أوّلًا: التّصويرُ الفنّيُّ- 1. الاستعاراتُ والصُّورُ الفنّيّةُ: الصّورُ الشّعريّة: لا تَبْحَثْ عَنْ زَماني العَتيقِ/ في رُكامِ أَعْوامي المَنْسِيَّة/ فَأَحلامي باتَتْ تَتأَرحجُ/ مِثلَ بَندولِ سَاعةٍ/ مَا بَيْنَ المَوْتِ/ وَالحَياة: صورةُ الماضي للشّاعرةِ، مُحمّلةٌ سنُوها بأثقالٍ ونسيانٍ وتهميشٍ، وأحلامُها تتأرجَحُ ما بينَ موْتٍ وحياة، كما بندول السّاعة يتأرجَحُ مرّةً يُمنةً وأخرى يُسرةً.
آهٍ .. قَلْبي/ تَصَدَّأ مُثْقَلاً/ بِحَكايا تَتَصدَّع: صورةُ قلبِ الشّاعرةِ تصدّأ مِنَ التّهميشِ، كما الحديدِ يُترَكُ فيَعلوهُ الصدأ، وتصدّعَ بفِعلِ القِصصِ المُرعِبةِ الّتي يُخلّفُها الحزنُ، وامتهانِ كرامةِ الإنسانِ مِن مُحتَلٍّ.
قَلبي؛/ غَصَّهُ الحُزْنُ/ هَدَّهُ امتِهانُ الرُّوح/ لا تَبْحَثْ عَن ِالنِّسْيانِ/ في خَريِطَةِ أَوْجاعي/ بَيْنَ إِحْداثِيّاتِ ضَعْفي/ أَو بَيْنَ فَواصِلِ شِعْري: صورةُ الشّاعرةِ تُحاولُ أن تفقدَ خاصّيّةَ النّسيانِ، بفِعلِ المُنغّصاتِ والعَقباتِ الكأداء، فكلُّ مصيبةٍ تُذكِّرُها بمصيبةٍ أخرى، وهي عاجزةٌ عن وقْفِ سيْلِها، فالخصمُ قويٌّ لا يأبَهُ، وتُفضفِضُ عن أوجاعِها شِعرًا.
لا تَنْبشْ أَدراجَ ذاكِرَتي/ لا تَحتَ خُطوطِ أَحْزاني/ وَلا فوْقَ مِساحاتِ أَفْراحي/ عَبثًا ../ أَحْلامي رَحَلَتْ/ عَلى أَجْنِحَةِ النُّورِ والظَّلام/ هَرَبَتْ/ مِنْ مَداراتِ الرُّعْبِ الدَّامي/
وَخرَجَتْ/ مِن ْجاذِبِيةِ كَوْكَبِ اللِّئام: صورةُ الشاعرةِ تَنهى صديقَها عن تذكيرِها بأحزانِها وأحلامِها الّتي أخذَتْها الرّياحُ الهوجُ، وعصَفَتْ بها مِن خلالِ أجواءِ الحربِ، والقتلِ، والتّهميش، وسلْبِ الحقوقِ، وتؤكّدُ على ذلك، بأفعالٍ ترادفيّةٍ ثلاثة مُتتالية، فيها مَعنى الفقْدِ والضّياع: (رحلَتْ، هربَتْ، خرَجَتْ).
ذاكِرَتي غَدَتْ مَزْكومَةً/ دواةُ اللَّيلِ انسَكَبَتْ/ فَوْقَ/ خَرائِطي/ مَحَتْ كُلَّ مَعالِمي/ نَثَرَتْ/ عَلى/ جَسَدي/ بُثورَ غُرْبَةٍ وضَبابًا/ مِن آهاتٍ وَأكْفَان/ طَعَناتُ مَكائِد/ تَتَوالى../ تَتَهاوى ../ من يَدٍ مَسْعورَةٍ تَغْرِزُها/ حتَّى في أَنويةِ الزُّهور:
شبّهَتِ الشّاعرةُ حالَها وقد أُفقِدَتْ ذاكرتُها، فما تراهُ وما تُحِسُّ بهِ مِن همومٍ ومآسٍ- كما الإنسان يُصيبُهُ الزّكامُ، فتنسَدُّ مجاري تنفُّسِهِ– بصورةِ صفحاتٍ مكتوبةٍ، محاها وغيّرَ معالمَ حروفِها حبرُ المحبرة الّذي انسكَبَ عليها، وانعكسَ ذلكَ سلبًا على الشّاعرة وروحِها، الّتي اجتاحتْها الغربةُ في وطنِها، ولا يُسمَعُ منها إلّا الأنينُ والزّفراتُ الحَرّى.
هِيَ المُفارَقاتُ تَنَثُرني بِلُؤْمٍ/ في حَدائقِ الظَّلامِ بِوَخَزاتٍ مُؤْلِمَةٍ/ تَمْتَصُّ وَميضي/ بِاحْتِضانٍ مُسْتَحيلٍ/ تَفرشُ مَخالِبَ وَصفِها/ فَوْقَ/ أَنفاسِ الحَياةِ/ وَتَحْتَ/ سَراحِ المَمَات: صورةُ الشّاعرةِ وقد توالَتْ عليها أيادٍ مسعورةٌ لا تُراعي حتّى براءة الأطفال.
تَتَصاعَدُ التَّنَهُّداتُ مُشبَعةً لَهبًا/ حتَّى النُّخَاع: صورةُ التّنهّداتِ والتّوجُّعاتِ تسري في مفاصلِ روحِ الشّاعرة، وتلسَعُ جسمَها الغضَّ، وتمحو كلَّ ما هو جميلٌ، وتخلقُ الفوضى والاضطرابَ.
آهٍ يَا…/ مَلامِحي الوَرْدِيَّةِ جَفَّتْ/ لُسِعْتُ بِسوطِ الخَرير/ وَوَشَمُوني بِمَاءِ الفَوضَى: صورةُ الشّاعرةِ تُحِبُّ وتَعشقُ كلَّ جميلٍ، لكن ما يُحيطُ بها مِن ظلامٍ دامسٍ، يوخِزُها بوخزاتٍ مؤلِمةٍ، أفقدَها حلاوةَ العيْشِ والإحساسِ بالجَمالِ.
حَتَّى مَفاتيح الأَلَمِ سُرِقتْ مِنِّي/ تَركُوني أَتَأَرْجَحُ/ بَين الذَّاكِرَةِ وَالنِّسْيان/ آهٍ../ لَكَمْ أَخْشى رُؤيةَ أَيائِلي/ تَتَناسَلُ/ مُهَرْوِلَةً.. مُشبَعةً/ بِرائِحَةِ الهَلَعِ وَالارتِجَاف/ تَتَراكَضُ/ جافِلَةً/.. خائِفَةً/ ما بَيْنَ أَدْغالِ المَوْتِ وَشِراكِ الاحتِرَاق/ عُيونُ الشَّرِّ/ تَتَربَّصُهم/ في كُلِّ اتِّجَاهٍ وَآن/ تَسْتَنْفِرُ حَواسَّ الذُّعرِ/ تَسْتَثيرُهم../ تَسْتَفِزُّ مَوْتَهم إلى المَوْتِ!: صورةُ الشّاعرةِ تخافُ مِنَ المُستقبلِ، وهي النّاشئةُ بصورةِ الغزلانِ، تتكاثرُ في جوٍّ مليءٍ بالحقدِ والخوفِ والشِّراكِ المُنتصِبةِ في الأدغالِ، وعيونُ الشّرِّ تكمُنُ في كلّ مكانٍ.
التّشبيهاتُ: أ. التّشبيهُ التّمثيليُّ: (فَأَحلامي باتَتْ تَتأَرحجُ/ مِثلَ بَندولِ سَاعةٍ/ مَا بَيْنَ المَوْتِ/ وَالحَياة): شبّهَتِ الشّاعرةُ تأرْجُحَ أحلامِها ما بينَ الموْتِ والحياة، بتأرْجُحِ بندولِ السّاعةِ مرّةً يُمنةً ومرّة يُسرةً، تشبيهٌ تمثيليٌّ.
أ. ومِنَ الاستعاراتِ المَكْنِيّةِ ما يلي: (لا تَنْبشْ أَدراجَ ذاكِرَتي/ لا تَحتَ خُطوطِ أَحْزاني/ وَلا فوْقَ مِساحاتِ أَفْراحي): شبّهَتِ الشّاعرةُ الذّاكرةَ بشيءٍ لهُ أدراجٌ، والأحزانُ بشيءٍ لهُ خطوطٌ، والأفراحُ بشيءٍ لهُ مساحاتٌ؛ استعارةٌ مكْنِيّةٌ في كلٍّ.
(أَحْلامي رَحَلَتْ/ عَلى أَجْنِحَةِ النُّورِ والظَّلام/ هَرَبَتْ): شبّهَتِ الشّاعرةُ كُلًّا مِنَ النّور والظّلامِ بطيورٍ تطيرُ ولَها أجنحةٌ.
(مِنْ مَداراتِ الرُّعْبِ الدَّامي): شبّهَتِ الشّاعرةُ الرّعبَ الدّاميَ بكواكبَ لها مداراتٌ.
(ذاكِرَتي غَدَتْ مَزْكومَةً): شبّهَتِ الشّاعرةُ الذّاكرةَ بإنسانٍ أصابَهُ مرضُ الزّكامِ.
(هِيَ المُفارَقاتُ تَنَثُرني بِلُؤْمٍ(: شبّهَتِ الشّاعرةُ المُفارقاتِ برياحٍ تنثر.
(َلكَمْ أَخْشى رُؤيةَ أَيائِلي/ تَتَناسَلُ): شبّهَتِ الشّاعرةُ تَكاثُرَ الأطفالِ في فلسطينَ بالأيائلِ؛ جَمالًا ورِقّةً.
(تَسْتَنْفِرُ حَواسَّ الذُّعرِ): شبّهَتِ الشّاعرةُ الذُّعرَ بكائنٍ حيٍّ لهُ حواسّ.
ب. الاستعارةُ التّصريحيّةُ:
(فَأَحلامي باتَتْ تَتأَرحجُ ): شبّهَتِ الشّاعرةُ تبَدُّلَ الأحلامِ وتَناقُضَها بالتّأرجُح.
آهٍ.. قَلْبي/ (تَصَدَّأ مُثْقَلًا): شبّهَتِ الشّاعرةُ ما يُحيطُ القلبَ مِن همومٍ بالصّدأ.
(ِبحَكايا تَتَصدَّع): شبّهَتْ فقْدَ الحِكاياتِ الحلوةِ لروْنقِها بالتّصدُّع.
(أَحْلامي رَحَلَتْ/ عَلى أَجْنِحَةِ النُّورِ والظَّلام/ هَرَبَتْ): شبّهَتْ تبَدُّدَ الأحلامِ وفقْدَها بالرّحيلِ والهُروب.
2. الكنايات: (أيائِلُ مُشبَعةٌ برائحَةِ الهَلَع): كنايةً عمّا يَلحقُ الطّفولةَ البريئةَ في فلسطينَ مِن خوْفٍ وجزَعٍ.
(آهٍ .. قَلْبي/ تَصَدَّأ مُثْقَلاً/ بِحَكايا تَتَصدَّع): كنايةً عن الأحداثِ الرّهيبةِ الّتي تحصُلُ في هذا المجتمع، وتتناقلُها الألسنُ.
(قَلبي؛/ غَصَّهُ الحُزْنُ/ هَدَّهُ امتِهانُ الرُّوح): كنايةً عن امتهانِ كرامةِ الإنسانِ، وما يلحقُ بهِ مِن أحزانٍ في منطقتِنا.
(في خَريِطَةِ أَوْجاعي): كنايةً عن انتشارِ الهُموم.
(أَحْلامي رَحَلَتْ/ عَلى أَجْنِحَةِ النُّورِ والظَّلام/ هَرَبَتْ/ مِنْ مَداراتِ الرُّعْبِ الدَّامي/ وَخرَجَتْ/ مِن ْجاذِبِيةِ كَوْكَبِ اللِّئام): كنايةً عن ضياعِ الأحلامِ العذبة، بفِعلِ اللّئامِ.
(نَثَرَتْ/ عَلى/ جَسَدي/ بُثورَ غُرْبَةٍ وضَبابًا/ مِن آهاتٍ وَأكْفَان): كنايةً عن الغربةِ في الوطنِ.
(هِيَ المُفارَقاتُ تَنَثُرني بِلُؤْمٍ/ في حَدائقِ الظَّلامِ بِوَخَزاتٍ مُؤْلِمَةٍ): كنايةً عن تبَدُّلِ الأحلامِ الجَميلةِ، وتحَوُّلِها إلى ضياع.
(تَتَصاعَدُ التَّنَهُّداتُ مُشبَعةً لَهبًا/ حتَّى النُّخَاع): كنايةً عن شِدّةِ التّوجُّع.
(آهٍ يَا …/ مَلامِحي الوَرْدِيَّةِ جَفَّت/ لُسِعْتُ بِسوطِ الخَرير): كنايةً عن تغيُّرِ الحالِ مِنَ النّقيضِ للنّقيضِ، ومِنَ الجَميلِ للقّبيح.
(لَكَمْ أَخْشى رُؤيةَ أَيائِلي/ تَتَناسَلُ/ مُهَرْوِلَةً.. مُشبَعةً/ بِرائِحَةِ الهَلَعِ وَالارتِجَاف
تَتَراكَضُ/ جافِلَةً.. خائِفَةً/ ما بَيْنَ أَدْغالِ المَوْتِ وَشِراكِ الاحتِرَاق): كنايةً في كلٍّ عن ضياعِ جيلِ الطّفولةِ.
(وَوَشَمُوني بِمَاءِ الفَوضَى): كنايةً عن تبلبُلِ الفِكْر.
(عُيونُ الشَّرِّ/ تَتَربَّصُهم/ في كُلِّ اتِّجَاهٍ وَآن): كنايةً عن انتشارِ الأذى في كلِّ وقتٍ، وفي كلِّ مناحي الحياةِ.
1. المجاز المرسل: (آهٍ .. قَلْبي): “ذكَرَتِ الجزءَ” القلبَ”، وأرادتِ الكُلَّ “نفسَها أو أبناءَ جنسِها”، مجاز مرسل علاقته الجزئيّة، أو السّببيّة؛ لأنّ القلبَ سببٌ في الحياة. وفي العبارةِ خرْقٌ تركيبيٌّ واختراقٌ بالحذفِ، حيثُ حذفتْ ياء النّداء (آه يا قلبي)، وفيهِ معنى التّوجُّع.
(من يَدٍ مَسْعورَةٍ تَغْرِزُها): ذكَرَتِ الجُزءَ” اليَدَ”، وأرادتِ الكُلَّ “الشّخصَ المُؤْذِي”، مجاز مرسل علاقته الجزئية. والغرْزُ تعبيرٌ مُوحٍ، حيثُ أنّ الغرْزَ مِن إنسانٍ مسعورٍ، وكأنّهُ جِنٌّ مِن أثَرِ السّعارِ، قد أفقدَها هذا الواقعُ الأليمُ جَمالَ الحياةِ، ولم تعُدْ للحياةِ معنى في ظِلّهِ.
إنّ كُلًّا مِنَ المَجازِ والعُدولِ والاتّساعِ، قد جاءَ ليُشيرَ إلى أهمّيّةِ الاستخدامِ الفنّيِّ البليغِ في العملِ الأدبيِّ؛ لتحقيقِ الأثرِ الجَماليّ، لأنّ: “أهَمّ العناصرِ الخاصّةِ بالقوْلِ الجَماليّ هو أنْ يَكسِرَ نظامَ الإمكاناتِ الّلغويّة، الّذي يَهدِفُ إلى نقلِ المعاني العاديّة”(1). والخروج إلى معانٍ ودلالاتٍ أخرى.
المبدعُ عندما يُبدِعُ أدبَهُ، يكونُ بذلكَ “قد خطا الخطوةَ الأولى نحوَ المَجاز، أي خروج الّلغةِ عن حقيقتِها، كما يقولُ علماؤُنا العربُ، أو عندما يعدلُ المُبدعُ عدولًا قويًّا في الّلغةِ، بحيثُ يَدخلُ المُبدَعَ الأوّلَ (بفتح الدّال)، في مُبدَعٍ آخَرَ (بفتح الدّال أيضًا)، مِن أجلِ إحداثِ بُنيةٍ نسيجيّةٍ إبداعيّة”.(2). هذا العدولُ أو الاتّساعُ أو الخروجُ، عبّرَ عنهُ المُحدِثونَ بمصطلحاتٍ مُتعدّدةٍ وإن اختلفَت، إلّا أنّها لا تَخرُجُ في مفهومِها العامّ عمّا حدّدَهُ علماءُ العربيّةِ، ويُمكنُ أن تكونَ معادلةً لمفهومِ “الاتّساع” أو “التّوسّع”، لأنّ الاتّساعَ “يتمخّضُ للدّلالةِ على كلّ مظاهرِ الخروجِ والعدول، في نطاقِ الجُملةِ عن ذلكَ الأصلِ، ويُصبحُ في النّظريّةِ الّلغويّةِ مُؤشِّرُ الصّراعِ بينَ إرادةِ القانونِ وحاجاتِ الفردِ إلى التّعبيرِ”(3).
ثانيًا: التّعبيرُ (الّلغةُ والأساليبُ)- الّلغةُ لا تَحملُ أيّةَ صفةٍ قبلَ تناولِها في العملِ الأدبيّ، لأنّ “الّلغةَ تُؤسِّسُ علاقةً خاصّةً أخرى بنظامِ الّلغةِ، باستخدامِ عناصر لغويّةٍ لبناءِ أنظمةٍ جديدةٍ خاصّةٍ بها”(4). الإبداعُ الفنّيُّ يقومُ على تأسيسِ الشيءِ عن الشيء، أي تأليفِ شيءٍ جديدٍ مِن عناصرَ موجودةٍ سابقًا(5). تتمثّلُ بالنّظامِ الّلغويّ الّذي يَنطلِقُ منهُ المُبدِعُ، “ليرتفِعَ بالّلغةِ عن عموميّتِها، ويتحوّلَ بها إلى صوتٍ شخصيٍّ”(6).
1.الألفاظ والتراكيب: أ. العنوان: أيائِلُ مُشبَعةٌ برائحَةِ الهَلَع: والأيَّلُ (بفتح الهمزة) والأُيَّلُ (بضمّ الهمزة): من الوحش، وقيل هو الوعل؛ قال الفارسي: سُمّيَ بذلك، لمَآلِهِ إلى الجبلِ يتحصّنُ فيهِ؛ قالَ ابنُ سيّده: فإيَّلُ وأُيَّلُ على هذا فَعيل وفعيل، وحكى الطوسيّ عن ابن الأعرابيّ: أيَّلٌ كسيِّدٍ مِن تذكرةِ أبي عليّ. الّليث: الأيّلُ الذّكر من الأوعال، والجمْعُ الأيايل؛ وأنشد: كأنّ في أذنابهِنّ الشّول/ من عبس الصّيفِ قرونُ الأيّل.
وقيلَ: فيهِ ثلاثُ لغاتٍ: إيل وأيل وأيل على مثال فعل، والوجه الكسر، والأنثى إيلة، وهو الأروى(7).
و(أيائل) جمْعٌ، وتحوّلتِ الياء الثّانية إلى همزة، وهذا جائزٌ في كلِّ الّلغاتِ، ويُعرَفُ في عِلمِ الّلغةِ والّلسانيّاتِ بالمخالفة (Dissimilation)، وأيائلُ هنا كنايةً عن النّشْءِ وميلادِ الأطفالِ الفلسطينيّينَ، فيهم جَمالُ الخَلْقِ والخلة، تُزيّنُهُمُ البراءةُ الّتي سرعانَ ما تتحوّلُ أحلامُهُمُ الجَميلةُ إلى خوفٍ كاملٍ مُتشبِّعٍ، كما تتشبّعُ قطعةُ القماشِ بالماءِ. والهلعُ: شدّةُ الحزنِ والخوفِ (هلَعَ: الهَلَعُ: الحِرصُ. وقيلَ: الجَزَعُ وقِلّةُ الصّبرِ. وقيلَ: هو أسوأُ الجَزَعِ وأفحَشُهُ، … قالَ الشّاعرُ: ولي قلبٌ سَقيمٌ ليسَ يَصحو = ونفسٌ ما تَفيقُ مِنَ الهلاع(8).
فيُصبحُ المَعنى: أطفالُنا يُحيطُ بهِم أشدُّ أنواعِ الجَزَعِ وأفحَشِهِ، وأيائلُ: خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ. مُشبعةٌ: نعتٌ مرفوعٌ، برائحةِ: شِبهِ جُملةٍ، الهَلعِ: مضاف إليه.
وفي العنوانِ حذْفٌ، وهو انحرافٌ وتحويلٌ واتّساعٌ وخرْقٌ في النّحوِ. و”أيُّ تَغيُّرٍ في النّظامِ التّركيبيِّ للجُملةِ، يترتّبُ عليهِ بالضّرورةِ تَغيُّرٌّ في الدّلالةِ.(9).
ب. استخدَمَتِ الشّاعرةُ في نصِّها لغةً سهلةً موحِيةً تُخاطِبُ عقولَ النّاسِ، وقد جاءتْ ألفاظُ مُعجمِها الشِّعريِّ مُناسِبةً، ومَعانيها مُطابِقةً للأفكارِ، ولقدِ اختارتْ ألفاظَها وكلماتِها مِن مُعجمٍ يوحي بالأسى والخوْفِ والحُزنِ، في نحو: أَعْوامي المَنْسِيَّة، المَوْتِ، آهٍ، تَصَدَّأ، تَتَصدَّع، غَصَّهُ الحُزْنُ، هَدَّهُ، امتِهانُ الرُّوح، ِالنِّسْيانِ، أَوْجاعي، ضَعْفي، خُطوطِ أَحْزاني، أَحْلامي رَحَلَتْ، الظلام، هَرَبَتْ، الرُّعْبِ الدَّامي، وكَوكبِ اللِّئام، مَزْكومَةً، دواةُ اللَّيلِ، مَحَتْ كُلَّ مَعالِمي، بُثورَ غُرْبَةٍ، وضَبابًا، آهاتٍ وَأكْفَان، طَعَناتُ مَكائِد، يَدٍ مَسْعورَةٍ، تَنَثُرني بِلُؤْمٍ، حَدائقِ الظَّلامِ، بوَخَزاتٍ مُؤْلِمَةٍ، مَخالِبَ، فَوْقَ أَنفاسِ الحَياةِ، سَراحِ المَمَات، التَّنَهُّداتُ، لَهبًا، آهٍ، جَفَّتْ، لُسِعْتُ بِسوطِ، مَاءِ الفَوضَى، مَفاتيح الأَلَمِ، سُرِقتْ مِنِّي، َالنِّسْيان، أخْشى رُؤيةَ أَيائِلي، مُهَرْوِلَة،ً مُشبَعةً بِرائِحَةِ الهَلَع وَالارتِجَاف، جافِلَة،ً خائِفَةً، أدْغالِ المَوْتِ، شِراكِ الاحتِراق، عُيونُ الشَّرِّ، تَسْتَنْفِرُ حَواسَّ الذُّعرِ، تَسْتَفِزُّ مَوْتَهم إلى المَوْتِ!
و(إذا كانتِ الّلغةُ نظامًا عامًّا مفروضةً على المُتكلّم، فإنّ الكلامَ هو الاستعمالُ الخاصُّ لها. (10).
لم يكتفِ النُّحاةُ حينما تكلّموا عن الّلغةِ بقوْلِهم: إنّ الّلغةَ وضْعٌ، بل أضافوا إليها-تأكيدًا- قولُهم: “وضْعٌ واستعمالٌ”، لأنّ “الّلغةَ عندما تنتظمُ في النّصّ الأدبيّ، تكتسبُ حياةً جديدةً، أكثرَ حيويّةً وعُمقًا ممّا هي عليهِ خارجَ النّصّ الأدبيّ”(11).
ج. ولقدْ جاءتْ تراكيبُها متناغِمةً بعضُها معَ بعضٍ، رقيقةً متينةً، موحِيةً فيها مِنَ الرّمزِ الجُزئيّ تعبيرًا عن رفضِها للواقعِ، فاستخدَمَتْ أسلوبَ “الاتّساع”، وهو واحدٌ مِنَ الأساليبِ التّحويليّةِ الّتي تطرأ على العباراتِ والتّراكيبِ النّحويّةِ، وقد أوضحناهُ آنفًا.
د. وقدِ اتّكأتِ الشّاعرةُ على مُفرداتِ الفِعل المضارع، لِما فيها مِن استمراريّةٍ، استمراريّةِ المأساةِ والحزنِ والأسى، ويوحي باستمراريّةِ الحدَثِ، وبرغبةِ الشّاعرةِ المُلِحّةِ في تَجاوُزِ المأساةِ، وفيهِ تأكيدٌ على موقفِها مِن رَفضِها للظُّلمِ والواقعِ المُرّ غيرِ القادرةِ على تغييرِهِ، فتَهرُبُ منهُ بشِعرِها ونبضاتِ أحاسيسِها، كما في مثل: لا تبحثْ (مُكرَّرة)، تتأرجَحُ، تَتَصدَّع، لا تَبْحَثْ، لا تَنْبشْ، تَتَوالى، تَتَهاوى، تَغْرِزُه، تَنَثُرني، تَمْتَصُّ، تَفرشُ، تَصاعدُ، أَتَأَرْجَحُ، أَخْشى، تَتَناسَلُ، تَتَراكَضُ، تَتَربَّصُهم، تستنفرُ، تَسْتَثيرُهُم، تَسْتَفِزُّ.
واستخدَمَتِ الفِعلَ الماضي؛ ليُفيدَ السّردَ القصصيّ، في نحو: باتَتْ، تَصَدَّأ، رَحَلَتْ، هَرَبَتْ، خرَجَتْ، غَدَتْ، انسَكَبَتْ، مَحَتْ، نَثَرَتْ، جَفَّتْ، لُسِعْتُ، وَشَمُوني، سُرِقتْ، تَركُوني.
ه. استخدَمَتِ الشّاعرةُ تارةً الألفاظَ في معانيها الحقيقيّة، لتوضيح أفكارِها ونقْلِ المعاني لمُستمِعيها؛ وهي ألفاظٌ سهلةٌ جميلةٌ تُناسبُ الغرَضَ الأدبيّ، ويَظهرُ ذلكَ في وصْفِها لمشاعِرِها، وخوْفِها مِن واقعٍ مريرٍ، وهروبِها إلى الشِّعرِ واليّراعِ، وتارةً أخرى كانتْ تلجأ للرّمزِ، كما في قوْلِها: “آهٍ/ لَكَمْ أَخْشى رُؤيةَ أَيائِلي/ تَتَناسَلُ/ مُهَرْوِلَةً .. مُشبَعةً/ بِرائِحَةِ الهَلَعِ وَالارتِجَاف/ تَتَراكَضُ/ جافِلَةً.. خائِفَةً/ ما بَيْنَ أَدْغالِ المَوْتِ وَشِراكِ الاحتِرَاق”: فابتعَدَتْ عن المباشرة، فلجأتْ إلى الرّمزِ حينًا، وإلى الإبهامِ والغموضِ تارةً أخرى.
(آهٍ يَا …/ مَلامِحي الوَرْدِيَّةِ جَفَّتْ/ لُسِعْتُ بِسوطِ الخَرير/ وَوَشَمُوني بِمَاءِ الفَوضى): فالدّلالاتُ الّلغويّةُ تكونُ أحيانًا قاصرةً عن نقلِ حالاتِ النّفسِ بكلِّ ثرائِها وعُمقِها، فهي تتعمّدُ بإلقاءِ بعضِ الظّلالِ على مَعانيها، وتَغليفِها بغلالةٍ رقيقةٍ تُجنّبُها خطرَ الابتذالِ.
و. نَلحظُ في النّصِّ عنصرَ الجُنوحِ إلى التّركيزِ والتّكثيفِ والتّجافي عن الشّرحِ والتّحليلِ، وهي سِمةٌ تنشأُ عن تطوُّرِ وظيفةِ الصّورةِ مِنَ التّقريرِ إلى الإيحاءِ، وهذا هو سِرُّ الإبهامِ والغموضِ أحيانًا. واتّسمَتِ القصيدةُ بمجموعةٍ مِنَ الخصائصِ الفنّيّةِ الّتي امتازَ بها الشِّعرُ الرّمزيُّ والشِّعرُ الحُرُّ، وأهمُّها الوِحدةُ العُضويّةُ والوحدةُ الموضوعيّةُ. “وقد أدّى اختلافُ طبيعةِ الشّعرِ الجَديدِ عن طبيعةِ الشِّعرِ القديمِ، مِن حيثُ بناؤُهُ ونظامُهُ القائمُ على العلاقاتِ المُتعدّدةِ بينَ عناصرِهِ، على تعدُّدِ دلالاتِهِ، فلم يَعُدْ يُفهَمُ، وإنّما أصبحَ غامضًا.
ويذهبُ عزّ الدّين إسماعيل، إلى أنّ القصيدةَ الحديثةَ غامضةٌ على مستوى رؤيا الشاعرِ ولغتِهِ المستعمَلةِ، “لأنَّه ما دامت الرّؤيا مغايرةً لِما هو مألوفٌ، وكانتِ الّلغةُ المُستخدَمةُ خاضعةً لطبيعةِ هذهِ الرّؤيا، فإنّهُ مِنَ الطّبيعي أن يُغلّفَ القصيدةَ إطارٌ مِنَ العتمةِ، ويَجعلَ الولوجَ إلى عالمِها شاقًّا” (12).
لقد حاولَ رُوّادُ الشِّعرِ العربيِّ الحُرِّ تحديدَ طبيعةِ القصيدةِ، مِن خلالِ جُملةِ مُصطلحاتٍ، أهمُّها (الوحدةُ العضويّةُ)، و(النّموُّ)، و(التّكاملُ)، و(التّلاقي الأضداد). والوحدةُ مرتبطةٌ بالنّموِّ والتّكاملِ. التّكاملُ يَعني حاجةَ العنصرِ إلى غيرِهِ حتّى يَحدثُ النّموّ، فالنّموُّ متكامِلٌ، والتّكاملُ يُحقّقُ الوِحدة، وهذهِ المُصطلحاتُ عامّةً، لأنّها لا تُحدِّدُ لنا كيفَ يَحدثُ هذا التّكاملُ مثلًا في القصيدةِ، فالتّكاملُ يَعني حاجةَ عنصرٍ إلى آخرَ، وتَفاوُتَ أهمّيّةِ العناصرِ في النّصّ.
فتنيانوف يرى أنّ العلاقةَ بينَ العناصرِ تقومُ على عدمِ التّكافؤِ الّذي يَخلقُ التّعاونَ والتّكاملَ. “إنّ عناصرَهُ (أي العمل الأدبيّ) ليستْ مُرتبطةً فيما بينها بعلاقةِ تساوٍ أو إضافةٍ، بل بعلاقةِ التّلازُمِ والتّكامُلِ الدّيناميكي”(13).
ويرى ياكبسون أنّ العلاقةَ في النّصِّ الأدبيّ إنَّما تقومُ بينَ عناصرَ مُهيْمِنةٍ وأخرى خاضعةٍ، وأنّ المُهيمِنَ هو الّذي يُحقّقُ للعملِ نظامَهُ، “بوصْفِهِ ذلكَ المُكَوِّنَ المِحوريّ في العملِ الفنّيّ: ذلكَ أنّهُ يتحكّمُ في المُكوّناتِ الباقيةِ، ويبتُّ فيها ويُغيّرُها. إنّهُ المُسيطِرُ الّذي يأخذُ على عاتقِهِ كمالَ البُنية”(14).
ز. وإذا قرأنا النّصّ قراءةً مُتأنّيةً، فإنّنا سنجدُ الخطابَ الشِّعريَّ فيهِ يتمركزُ حولَ شخصيّةِ الشّاعرة، ولكنّ تلكَ الشّخصيّةَ لا تبدو نفسًا أو ذاتًا أو فردًا منغلقةً على نفسِها، فالشّاعرةُ تَعتبرُ نفسَها امتدادًا متواصِلًا في التّاريخِ الجَماعيِّ، لشعبٍ عريقٍ مُتجَذّرٍ مُنتَمٍ إلى الأمّةِ العربيّة، ألا وهو الشّعبُ الفلسطينيّ، فالخِطابُ بصيغةِ المُتكلّمِ في النّصّ يُصبحُ دالًّا على الأمّةِ، فتتّحِدُ ذاتُ الشّاعرِ معَ روحِ الجَماعةِ، فالأنا لمْ تَعُدْ تعني في النّصّ أنا الشّاعر، بل أصبحَتْ (أنا) الشّعبَ والأمّة.
ح. استخدَمَتِ الشّاعرةُ (الهَلع)، وقد كرّرتْها بدلَ (الخوف) فهو أدقّ؛ لأنّ (الهَلعَ) هو أسوأُ الجَزعِ وأفحَشُهُ، وفيهِ معنى الّلؤمِ والتّوسُّعِ في الأذى؛ بينما (الخوف) أقلُّ درجاتٍ مِنَ الهَلعِ، ومعَ (الهَلع) شموليّةٌ في الأذى ومُبالغةٌ.
2. الأساليبُ الخبَريّةُ والإنشائيّةُ: أ. راوحَتِ الشّاعرةُ بينَ استعمالِ الأساليبِ الخبَريّةِ والإنشائيّةِ؛ فاستهلّتْ قصيدتَها بأسلوبٍ إنشائيٍّ: (لا تَبْحَثْ عَنْ زَماني العَتيقِ). ثمّ انتقلتْ في المقطعِ الثّاني إلى الأسلوبِ الخبَريّ، وهدفُها البوْحُ عن مخزونِ مشاعرِها الّتي أُحبِطَتْ جرّاءَ ما تُعانيهِ، واستخدَمَتِ الأسلوبَ الخبَريَّ؛ ليُناسِبَ الغرضَ، فاستخدَمَتْهُ؛ لتُجَسِّدَ مدى تقديرِها لمشاعرِها وأحاسيسِها، ولتأكيدِ ذاتِها بارتباطِها بوطنِها وأُمّتِها، وبحُبِّها لهُ في عالمٍ طغتْ عليهِ المادّيّاتُ، واستشرَتْ أمراضُها وما يَنتجُ عنها.
ومِنَ الأساليبِ الإنشائيّةِ: النّهي، كما في نحو: (لا تَبْحَثْ عَنْ زَماني العَتيقِ)، و(لا تَبْحَثْ عَن ِالنِّسْيانِ)، و(لا تَنْبشْ أَدراجَ ذاكِرَتي/ لا تَحتَ خُطوطِ أَحْزاني/ وَلا فوْقَ مِساحاتِ أَفْراحي): وكلُّها تُفيدُ الالتماسَ؛ مِن أجلِ خلْقِ جوٍّ يُوحي بالحياةِ والحرَكةِ.
ب. استخدَمَتِ الشّاعرةُ أسلوبَ المُتكلّم؛ لتأكيدِ الذّاتِ، والذّاتُ المخاطَبةُ تحاولُ الفرارَ مِن واقعِها الأليمِ، لتشكيلِ عالَمِها الخاصّ، وضميرُ الأنا يَستشعِرُ هوْلَ المأساةِ، ومرارةَ الواقعِ المُهينِ والمُزري، وتُدركُ أنّها تنتمي إلى زمنٍ رديءٍ مُرٍّ مُهين.
ج. استخدَمَتْ أسلوبَ الإيجازِ بالحذفِ، فقالت: كما في عنوانِ المقطوعةِ “وكما في نحو: “آهٍ .. قَلْبي” وتقديره: “آهٍ يا قَلْبي”، فحَذفتْ حرفَ النّداء.
3.المُحسِّناتُ البديعيَّة- أ. الطباق:
كما في مثل: (فَوْقَ / أَنفاسِ الحَياةِ/ وَتَحْتَ / سَراحِ المَمَات :فطابقتْ بينَ كلٍّ مِن: “فوق” وَ “تحت”.
وفي مثل: (مَا بَيْنَ المَوْتِ/ وَالحَياة) :فطابقَتْ بينَ كلٍّ مِن: “الموتِ” وَ “الحياة”.
وفي نحو: (لا تَحتَ خُطوطِ أَحْزاني/ وَلا فوْقَ مِساحاتِ أَفْراحي): فطابقَتْ بينَ كلٍّ مِن “لا تحتَ” وبينَ “لا فوقَ”.
وكما في مِثل: (عَلى أَجْنِحَةِ النُّورِ والظَّلام): فطابقتْ بينَ كلٍّ من “النّورِ وَ “الظّلام”.
(حَتَّى مَفاتيحَ الأَلَمِ سُرِقتْ مِنِّي/ تَركُوني أَتَأَرْجَحُ/ بَينَ الذّاكِرَةِ وَالنِّسْيان): كما طابقَتْ بينَ كلٍّ مِنَ “الذّاكرة” وَ “النّسيان”.
أ. الإطنابُ: كما في مثل: (أَحْلامي رَحَلَتْ/ عَلى أَجْنِحَةِ النُّورِ والظَّلام/ هَرَبَتْ/ مِنْ مَداراتِ الرُّعْبِ الدَّامي/ وَخرَجَتْ): والإطنابُ في كلٍّ مِن: “رحلَتْ” وَ “هرَبَتْ” وَ “خرَجَتْ”.
ثالثًا– الوزنُ والموسيقى- نظَمَتِ الشّاعرةُ مقطوعتَها على نمَطِ قصيدةِ الشِّعرِ النّثريّ، واستغْنتْ عن الموسيقى الخارجيّةِ بالإيقاعِ الدّاخليّ، الّذي يسري في عروقِها مِن استخدامِها للمساواةِ بينَ الجُمَلِ، كما في نحو: (تَتَوالى.. .. تَتَهاوى ..)
والمقاربةُ بينَ الأصواتِ، والتّكرارُ في نحو: (لا تَحتَ خُطوطِ أَحْزاني/ وَلا فوْقَ مِساحاتِ أَفْراحي)؛ فقد تخلّصَتْ مِنَ الرّتابةِ في القافيةِ المُوَحَّدةِ، وتَمكّنَتِ الشّاعرةُ بهذا في الانطلاقِ برحابةٍ أوسعَ في قاموسِها الشِّعريّ؛ لتُحَمِّلَهُ المَضامينَ الكبيرةَ، وجاءتْ سطورُ القصيدةِ حسبَ التّدفُّقِ العاطفيِّ للشّاعرةِ، ممّا ساهمَ في المحافظةِ على الوحدةِ العضويّةِ والموضوعيّةِ في النّصّ.
رابعًا- شخصيّةُ الشّاعرةِ: اتّسمَتِ المَعاني والأفكارُ والصُّوَرُ الفنّيّةُ الّتي اتّكأتْ عليها الشّاعرةُ بالبساطةِ والرّقّةِ والعذوبةِ، لكنّها عميقةٌ في مَعانيها، واسعةٌ في مدلولاتِها. ولجأتِ الشّاعرةُ فيها إلى الغموضِ حينًا، كيْلا تبتذلَ كلماتِها؛ مُستعينةً بالألفاظِ والتّراكيبِ المُوحِيةِ؛ لأنّ وقْعَها على النّفسِ أبلغُ، إذ تبدو الشّاعرةُ مِن خلالِها جيّاشةَ المَشاعرِ، رقيقةَ العاطفةِ، مُرهفةَ الإحساسِ، مُحِبّةً لأُمّتِها ولوطنِها، رافضةً للذُّلِّ والمَذلّةِ. والمَنظومةُ في مُجملِها صورةٌ ناطقةٌ ومُعبِّرةٌ عن شخصيّةِ صاحبتِها، ميّالةٌ للتّجديدِ والابتكارِ في صنعةِ الشِّعرِ المنثورِ، مِن حيثُ التّعبير والتّصوير.
الهوامش
1. النّظريّةُ البنائيّةُ في النّقد الأدبيّ/ صلاح فضل: 375، دار الشؤون الثقافيّة العامّة، بغداد ، ط3، 1980م.
2. علم تحليل الخطاب وموقع الجنس الأدبيّ/ مازن الوعر، آفاق الثقافة والتّراث، ع14، 1996: 16 .
3. التفكير البلاغيّ عند العرب – أسسه وتطوّره إلى القرن السادس ص 103، حمادي صمو، منشورات الجامعة التونسيّة – المطبعة الرسميّة – 1981
4. الّلغة والأسلوب والموقف/ جورج و. تيرنر، ترجمة: كاظم سعد الدّين، الثقافة الأجنبيّة، ع3، 1998 : 8 .
5. المعجم الفلسفي /جميل صليبا: 31، دار الكتاب اللبناني، ط1، 1971م.
6. لغة الشعر الحديث في العراق بين مطلع القرن العشرين والحرب العالميّة عدنان حسين العوادي، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1985م .
7. لسان العرب، ابن منظور ص274 ج1، دار الحديث، القاهرة، 2002
8. المصدر نفسه ج9 ص 116
9. البلاغة والأسلوبيّة، محمّد عبد الطلب، ص 391
10. voir Andre Martinet.Element de Linguistique generale.p20.Armand Colin.1999/10
11. وظيفة اللغة في الخطاب الروائيّ الواقعيّ عند نجيب محفوظ، عثمان بدري، موفم للنشر، الجزائر، 2000، ص 14
12. مفهوم الشعر في كتابات الشعراء المعاصرين: عز الدين إسماعيل/ فصول مج 1 ع 4 1981 ( ص 56 )
13. نظريّة المنهج الشكلانيّ: تزفتان تودوروف ـ تر : إبراهيم الخطيب ـ الشركة المغربية للناشرين المتحدين ـ مؤسسة الأبحاث العربية (ط 1 ـ 1982 ) ( ص 59 )
14. نظرية الأدب في القرن العشرين: ك.م نيوتن ترجمة عيسى العاكوب عين الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية مصر، ط1 ( ص 34 )
من كتاب (أعماق القول)- قراءة تحليلية في شعر آمال عوّاد رضوان/ الناقد عبد المجيد عامر إطميزة