نتف من الذاكرة "الرحيل من حيفا"
تاريخ النشر: 26/04/12 | 10:51في ربيع 1948 ،لا أذكرالتاريخ بدقّة ، لكن في مثل هذه الأيام قبل أكثر من أربع وستين سنة ، كنتُ يومها طفلا لمّا أنه ِالسادسة من عمري ، وقع ما بتنا نخافه وصرنا ضحاياه : لاجئين فيما كان في وطننا .
وقع الرحيل القسري المصحوب بالفزع والارباك والألم . تركنا حيفا ، من البوّابة شبه الآمنة والوحيدة المتبقّية حينها ، بوّابة البحر ، قاصدين عكا والشمال المجهول .
كنت طفلا صغيرا يومها ، لايذكر الكثير ، لكن ذاكرة الطفل الفزعة ظلّتْ تذكر أشياء ، رسخت عميقا فيها وبات مستحيلا محوها أو نسيانها .
كان الأهل يتحدّثون كثيرا عن القناصة اليهود المتمترسين في حيّ الهدار في أعلى المدينة ، آنذاك ، وعن القتل الذي بات عاديا . كان الكثيرون من ضحايا القنص عمالا بسطاء ، يسكنون قرب محطّة القطارات المركزيّة وفي حي المحطّة المجاور وغيره ، أرادوا الهرب من الموت الذي كان يدفعهم شرقا لينتظرهم رصاص القنّاصة المميت ، وأكثرهم”حوارنة “( أتوا من حوران في سوريا ) ، متاولة ( من جبل عامل في لبنان ) ومن منطقة جبل نابلس وجنين، جاؤا حيفا يبحثون عن العمل في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي في معسكرات وورشات الجيش البريطاني ، فوجدوا في حيفا موتهم الفاجع .
أسأل ُ نفسي أحيانا : كم من الدم الفلسطيني سُفِكَ ، حتّى يومنا ، ليعلو هذا ” العمران ” الإسرائيلي . وكم من الألم الانساني الموجِع ، الألم الفلسطيني ، المجبول بالدم والمعاناة والظلم” لزمَ ” بناء هذا ” الخلاص ” الإسرائيلي من هول ما لحق الإنسان اليهودي من غبن وعسف لم نكن سببه ومُقترفوه .
وأسأل نفسي كثيرا : أيُّة عدالة هي هذه ” العدالة ” المهيمنة في عالمنا وتبيح مثل هذه الآلام والمعاناة والقتل اليومي الذي بات مصير الانسان الفلسطيني من ستين عاما وقد يزيد؟
وكم سألت ُ نفسي : أية سعادة هِيَ هذه التي تقوم على شقاء الآخرين ؟ .
وسألت نفسي مرارا وتكرارا: كيف يمكن العيش المشترك ما لم يسأل الآخر نفسه عما فعله فيَّ ( فينا ) هو شخصيا وفعله من سبقوه وما لم يجر إصلاح بعض ما سببه هذا الفعل من قتل متعمد ، شتات وحزن ! وما لم تحدث قبلها انعطافة جدية تكشف عن نية حقيقية للتراجع عما كان ووقف نزيف الطرفين المتصارعين ؟ والبدء فعلا في إيجاد فرص تشهد بقرب حدوث هذه الإنعطافة وقرب الخلاص مما نحن فيه !
لا أنكر أهمية وضرورة البحث عما يوصل حقا إلى عيش مشترك ، بين من أسميهم الإخوة الآعداء ، لكن هذا البحث يفترض أن يكون نِدِّيّا ومشتركا فعلا ويفترض كذلك نشوء قناعة واعية ، عند طرفي رقعة الشطرنج ، قناعة بضرورته الحياتية للطرفين ، كيلا تبقى حياتنا مسرحا يتبدل فوق خشبته دور الممثلين كلما عاشت الحياة دورة أخرى !
حين أنظر للخضرة ، خضرة الشجر والزرع ،لا يغيب عن بالي أنَّ ما أرى ، شُيِّدَ أساساً لإخفاءِ جريمة ما كان .
يومها فقدَ والدي بيته الذي ابتناه في سمخ ، مسقط رأسي ، ليقضي فيه سنوات عمره الأخيرة قريبا من أخته خديجة وأهل زوجته الثانية ، أمّي . وخسر مكان عمله وضاع في غمرة الأحداث الدامية والترحيل القسري ، ضاع ما تمنّاه أن يَصيرَ وطنا ثانيا بعد وطنه الأول – الجزائر . فسمخ سقطت قبل سُقوط حيفا . وحُرِمَت أمّي من أرضها في سمخ ومن الدفء الذي تحتاجه المرأة كثيرا وتشعر به ، حين تدرك أنّ أهلها على مقربة ٍمنها ، وإن كانت مقربة بعيدة نسبيّا . في ذلك العام ، هُجِّرَ أهلها عنوة ، فحملهم الهجيج شرقا بعيدا الى الشتات الموجع وباتت لا تدري : في أيّ أرض ينزلون !.
وحين َأذكر ما حدث يومها ، أذكر كيف أن الرحيل عن حيفا قطع عمليّة التمدين التي كان يعيشها أبي وعائلته في الأربعة عشر سنة الأخيرة ، قبل الرحيل .
ولد أبي في بيئة بدويّة وفلاّحيّة مُحافِظة وَمُتخلفة ، يسودها الجهل المطبق والقيم القبلية والحمائليّة الضيقة . وكان وصوله الى دمشق – الشام في مُستهلِّ القرن الماضي بداية تغيير جذريٍّ في عقليّة ذلك الفتى المتفتّح على الحياة ، لكن احتلال دمشق ، في نهاية الحرب العالمية الأولى وخضوعها للمستعمرين الفرنسيّين أجهض هذه البداية . فبعدها هرب جدّي الى فلسطين ومعه ابنه ( أبي ) ، خوفاً من المستعمرين الفرنسيين وعسفهم . وسبق أن عرف بعض ظلمهم في وطنه الأوّل – الجزائر . وفي فلسطين سكن أبي في العفولة ، وكانت قرية عربيّة صغيرة من قرى مرج ابن عامر ، وفي قرية جسر المجامع ، على نهر الأردن ، وغيرها من الأماكن الصغيرة ، محطات القطار ، ذات العقليّة القرويّة المتخلفة . عاد أبي ليعيش ، في الواقع ، في بيئة قرويّة كتلك التي ولد وشبّ فيها ، كالعصبويّة العائلية والحمائليّة ، ضيقة الأفق والمحافظة . لكن ، شكّل انتقاله للعيش والعمل في حيفا ، المدينة ، عودة الى ما ابتدأه في دمشق – الشام .
بدأ والدي يكتسب أخلاق المدينة ، قيمها ونمط حياتها . وكان العمل في مصلحة القطارات البريطانيّة أكسبه نوعا من الانضباط وحب النظام واضطرّه لأن يتعلّم العربيّة ، لغته ، قراءة وكتابةً، والانجليزية ، لغة العمل ، قراءة وكتابة كذلك ، ووسّع مداركه الحياتية ، اهتماماته بكل ما يجري حوله وأفق علاقاته الانسانية ، وأخذت ، عنده ، تتبلور بدايات وعي وطني ، كُرهُ الٌمستعمر، بريطانيًّا أو فرنسيًّا كان ورفضٌ للاستبداد والظلم . وكبر فيه حبّ غير ُمُحدّد للحريّة وللثقافة . وقد انعكس كلّ ذلك على تربيتنا وحسّنا الوطنيّ المبكّر . كان أبي يعيش مرحلةَ ما قبل الصيرورة الاجتماعية :فكان سيصبح جزءا من الشريحة المدينية الوسطى ، الاجتماعية الوطنية الصاعدة من أصول فلاّحيّة – عمالية ،لا المُتحدّرة من أصول اقطاعية وبرجوازيّة عقارية .
لقد أجهضَ الرحيل القسري عن حيفا هذه الصيرورة الاجتماعية ، فقد استهدفت الدولة الجديدة الانسان الفلسطيني ، وطنه ، أرضه ،مسكنه ،عمله وحطّمت بكل قسوة عملية التمدين ، عند الكثيرين منهم في حيفا ،عكا ، اللد ، الرملة ، يافا ، عسقلان وغيرها . باتوا لاجئين في المخيمات وفي قرى لا تمتلك أيّ معلم من معالم الحياة المدينية.
وأسهم تحطيم وكسرظهر هذه الشريحة ومنع بلورتها اجتماعيّا ووطنيا في حرمان الفلسطينيين من ظهور نخبة اجتماعية بينهم ، كان يمكن أن تحدّ من غلواء ، غطرسة ووحشيّة ما وقع في ربيع ذلك العام وما أعقبه.
وما ان وصلنا عكا مبعدين من حيفا ، حتّى بدأ والدي وزوج عمّتي خديجة ، صالح حسين المهنّاوي ، الذي هو عمّ أمّي ، يعدّون في عَجَل ٍفزِع ٍالعدّة للرحيل ، وكانت أنباء المجازر المرتكبة في ديرياسين وغيرها ، الفعلية والمضخّمة عمدا ، تفقد الناس صوابهم وعقلهم . وكانت عكا المدينة تشهد طوفانا بشريا من مبعدي القرى المجاورة وحصارا قاتلا من الشمال والجنوب وتتهددها القوّات اليهوديّة ، التي أحكمت حصارها على منافذها الرئيسيّة عند النعامين ، جنوبا ، وعند السميريّة ، شمالا ، والدبّوية ، شرقا.
وكان أن عرف ، مُصادفة ، ابن عمتي ، محمّد ، وحيدها بين أربع بنات ، عرف بما نواه أبي ونواه أبوه . وفعلا حضرت سيّارتا الرحيل شرقا ومن ثم شمالا الى لبنا ن أو سوريا ، حضرتا لبدء الرحيل . لكن ابن عمّتي كان حاضرا ومعه سلاحه – رشاش برن – ، فأقسم أنّه سيقتل الجميع ويقتل نفسه إن جرت محاولة الرحيل . وهكذا بقينا ، فلم نرحل الى المجهول ، وجُنّبنا عواقب الضياع في شتاتٍ مُخيف .
بقينا في الوطن ، كان البقاء فيه مساومة ، فُرِضَت علينا قسراً ، لم نناقشها ولم تسنح لنا فرصة مناقشتها . كان علينا أن نقبل بالواقع الجديد ، الدولة المغتصبة ، إملاءات ، هويّة ، لغة ، ثقافةً غريبة ، مواطنة ونمط حياة . كان علينا ان نقبل بالبقاء لاجئين في الوطن ، إن شئنا البقاء ، فللبقاء ثمن يفرضه المُحتل وغطرسته. كان البقاء مجرَّد صدفة ، لكنَّه استحال صمودا واعيا.
والمُفارقة ، وان تكن ليس كذلك ، أنَّ ابن عمّتي ، محمّد ، وكان يومها شابا ، اعتقلته القوات اليهودية في مُعسكر” كردانة “البريطاني القريب من عكا ، بعد أن سلّمها الانجليز ذلك المعسكر، ونقلته الى معسكر الاعتقال في صرفند القريب من اليازور، وسط البلاد . وهناك ساموه أفظع صنوف التعذيب والاذلال ، قبل نقله الى معتقل عتليت الذي لايقل عن معتقل صرفند قسوة ووحشيّة . وأذكر أنّ زوج عمّتي كان يزوره في المعتقل ويعود الى بيته في عكا حاملا ملابسه ، لتغسلها عمّتي من بقع الدم الناجمة عن الضرب والتعذيب .
وبعد المعتقل حُمِلَ ، تحت وطأة التعذيب ، وكثيرون غيره على الرحيل الى الأردن.
بقينا، ب “أمر ” منه ، أما هو فقد ” اختار ” الرحيل هربا ممّا رأى ومما عانى في الأسر ، وقد حملته رياح الرحيل الى أستراليا ، حيث ضاع هناك كلّ أثر له وانقطعت أخباره .
وكنت كثيرا ما أتحدّث مع والدي وزوج عمتي ، على انفراد أو سواسية ، عن فكرة الرحيل الى الشمال أو الشرق وما كانت تعنيه لو تمّت فعلا ، كانا يسهبان في الحديث عمّا عاشاه وعاشه الكثيرون في تلك الأيام السوداء ووطأة الأحداث العاصفة وتسارعها والحكايا عن المجازر والفظاعات التي كان يمارسها الجنود اليهود ، حيثما حلّوا ، وغياب كلّ بارقة أمل يتشبّثون بها وعدم وجود قيادة مركزيّة موثوق بها ، توجّه الناس وترشدهم في ليل بلواهم . لم يكن قرارا مدروسا ًولم يكن مُفكّراً به ولا بعواقبه ، الناس فقدت صوابها وراح كل منهم يهرب من الواقع المخيف الى كل صوب ، فالأحداث هي التي أملته وفرضته بكلّ قسوة .
أتابع بشغف ما تكتبه من سيرتك التي تمثّل الصمود والتشبث
بالحياة الكريمة الأبيّة رغم قتامة الأحوال!