المنامة الأندلسية
تاريخ النشر: 31/08/14 | 8:23الخوفُ من السفرِ بالطائرة ليس غريباً، ولكنها كانت طائرةً إسبانيةً فاخرة وعندما غُلقت أبوابها أصبحنا كصالة أفراحٍ طائرة، فما ان انطلقت في الجو وارتفعت في السماء حتى شرعت المضيفة الجميلة التعليمات بالكلام الاسباني السريع والمتشابك وأنتَ تفتشُ عبثاً عن كلمة تشبه اللغة الانكليزية، ولكنها ما تلبث ان تترجم الى الانكليزية وجارنا ابو الامين يقول: “شو قالت مقصوفة الرقبة؟”. كانت دماثة المضيفات وجمالهن المُطعّم بالجذور العربية الشرقية مما ينسي المرء هواجس ومخاوف الطيران فوق الغيوم، وقد أصبحنا في يد السحاب ولا رجعة. وكانت الرحلة الى إسبانيا بلاد الأندلس مما يشجع الإنسان على خوض غمار هذه المغامرة المثيرة. كنا نطير فوق البحر المتوسط بخط مستقيم، فكان لسان حالي يقول لقبطان الطائرة بعد أن مضى أكثر من ثلاث ساعات ولمّا نصل ضالّتنا المنشودة: إلى هنا أيها الطيار! أنزل بنا فوق هذه الجزيرة الجميلة نفعل ما فعله روبنسون كروزو. لكن الشاشة أمامي تشير الى أن الطيار لم يستمع الى هواجسي واستمرت طائرته في السباحة يشقّ حيزومها عباب الغيوم فوق جزيرة صقليا وسردينيا. كنتُ أتخيل عظمة الأنسان الذي صنع هذه الطائرة التي تقلُّ أكثر من ثلاثماية راكب يطيرون في السماء وقد سلّموا أنفسهم لهذا الطيّار العبقريِّ الذي شرع بالنزول فوق اسبانيا، وفجأة كأن الطائرة قد توقفت عن المسير ولم يعد لها ذلك الصوت الهادر وإنما خفوتٌ وسكوتٌ، وظلت هكذا الى أن حطّت على الأرض كالطائر الضخم الرشيق دون أن يهتز لها جناح فلم تبسط جناحاً ولم تقبض جناحاً كما يفعل الطائر الذي خلقه الله.
نحن الآن على أرض الأندلس أرض أجدادنا أرض الموشحات والملوك والشعراء والعلماء الذين علّموا أوروبا وصنعوا نهضة هذا العالم. تعرفنا على المرشد السياحي الذي يدعى ” قُسطة” وعرفتُ فيما بعد أن اسمه قسطنطين، ثم ما لبثنا أنا وأم جبران رفيقتي في حلّي وترحالي أن تعرفنا الى أفراد المجموعة فكانت أحلى وأطيب مجموعة رافقتها في سفر، حيث يشكل قسماً كبيراً منها فتياتٌ ونساءٌ من حيفا والناصرة وكأنهن فرقة موسيقية للطرب الشرقي الأصيل وعرسان قد جاءوا لقضاء شهر العسل، فيحلو الغناء ونحن في طريقنا الى غرناطة وقصر الحمراء حيث وقفنا في غرفة عائشة ام عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس، وأطللنا على التّلة التي وقف عليها هذا الأمير مخذولاً حزيناً مودّعاً آخر صروح المجد العربي العريق، وقد أبت إلاّ أن تترقرق دمعةٌ على وجنتيه فقالت له أمه بيتها الخالد:
” إبكِ مثل النساءِ مُلكاً مُضاعاً ** لم تُحافظ عليه مثل الرجالِ “.
في ذلك المساء الغرناطيّ الشّجي ما زلت أرى راقصة الفلامينكو تطرق الارض الخشبية بقدميها وتتلوى لتخرج قوى الشر من جسمها، كذلك العرض الذي قدمه شابٌ يرافقه قراءة مثيرة لقصيدة فلوكلورية لم أفهم من لُغاها شيئاً ولكنه استطاع بتعابيره وحركاته أن يصل الى اعماق الجمهور فكان التصفيق على قدر هذا الجمال المعبر.
وكان صباحٌ فتوجهنا الى إشبيلية أجمل وأكبر المدن الإسبانيّة والتي يشقها نهر الوادي الكبير وعلى ضفتيه شعرت بسعادة حقيقية وشعرت بسعادة الناس وشكرهم على ما وهبتهم الطبيعة من نظافة واعتناء بالزهور والاشجار واحترامهم ودماثة اخلاقهم فقلت لأم جبران إن الوقت يداهمنا ويجب أن نقضي وقتاً أطول في هذه المدينة فركبنا الحنطور ودار بنا في شوارعها ووصلنا كاتدرائية اشبيلية العظيمة التي كانت مسجداً وتدعى المئذنة جيرالدا وقد تحولت إلى برج الجرس. ثم عاد بنا الى شاطئ النهر الساحر. إنك إن جلستَ في مقهى أو وقفت على أحد هذه الجسور العظيمة تتنسم رائحة المياه والأشجار ورائحة السمك المقلي تنبعث من أحد المطاعم الإشبيلية أمرٌ لعمري له في الصدر ترديدٌ وتغريدُ. وأن يأخذك التاريخ في جندوله الى المعتمد بن عباد والشعراء الأندلسيين وتتخيل هذه الأسواق تعجُّ بالعلماء والشعراء والجواري المطربات على رأسهن تقف ولاّدة بنت المستكفي تقول بيتها الشهير ” أنا واللهِ أصلحُ للمعالي ** وأمشي مشيتي وأتيهُ تيها”، مما يثير أشجان تاريخنا وحضارتنا التي رحلت الى حيث لا نعلم متى تعود بنا صولة التاريخ اليها.
الناس يسيرون منبهرون بعظمة النهر، وبرج الذهب الذي بناه المرابطون على ضفة النهر، والأضواء بدأت تشعُّ ونحن سائرون الى المطعم المغربي، ففي اسبانيا يعيش أهل المغرب كأنهم اهل الوطن، فمن زقاق الى زُقاق يعج بالبائعات المغربيات اللاتي وقفن مرحبات بالضيوف الى اشبيلية الى أن وصلنا، وقد كُتب على المطعم “لحم حلال” تذكيراً للمسلمين وتشجيعاً لهم على ولوج المطعم وتناول اللحم مع الأرز تماماً كالمنسف الفلسطيني. لقد وقعتُ في هوى اشبيلية جوهرة اسبانيا وطاب لي السهر في هذه المدينة الساحرة العريقة حتى قلتُ لأم جبران إنني لن أذهب مع المجموعة الى الفندق وسأبقى هنا الى ساعة متأخرة، فوافقتني على الفكرة المغامرة خاصة أن الأجواء توحي بالاطمئنان والحياة الراقية السعيدة وغداً سنغادرها ومن يعلم إذا يكتب لنا العودة اليها في قادم الأيام.
وكان صباح ونزلنا في مدينة رواندا بلد الشاعر أبي البقاء الرندي صاحب مرثية الأندلس
” لكلِّ أمرٍ إذا ما تمَّ نُقصانُ.. فلا يغرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ.. من سرّه زمنٌ ساءتهُ أزمانُ
وهذه الدارُ لا تبقي على أحدٍ.. ولا يدوم على حالٍ لها شانُ”
وفي هذه المدينة شاهدنا حلبة مصارعة الثيران والحمامات العربية.
ثم توجهنا الى قرطبة عاصمة الأدب والثقافة العربية والإسلامية، والتي أنجبت الشاعر ابن زيدون، والشاعرة ولادة بنت المستكفي، والفقيه ابن حزم، والعالم عباس بن فرناس، والموسيقي زرياب.ودخلنا مسجدها الكبير وهو من أهم ابداعات المسلمين في الأندلس. وقد سرنا بمحاذاة واديها الكبير.
اليوم الأخير في الأندلس وصلنا الى طليطلة وكانت المرشدة السياحية تستقبلنا مرحبة باللغة العربية: ” أهلاً بكم في طليطلة” ويروقك لفظها العربي لاسم طليطلة مما جعلني أظن أن لها جذوراً عربية.. ومن المحزن لدى دخولنا الكاتدرائية التي كانت مسجداً هائلاً أن حاول أحد أفراد المجموعة الصلاة فأسرع إليه الحارس ومنعه من تأدية فروض دينه الاسلامية.
والملفت للنظر هو أنك إن وقفت على ضفة النهر العليا تستطع رؤية المدينة كاملةً بكل قصورها ومبانيها الجميلة. بعدها كعادة المرشد السياحي قسطة أطلق لنا الحرية للتجول في أسواقهاوقال لنا إنها تشتهر بصناعة السيوف والمرتسبان وهو الشكولاطة المصنوعة من اللوز فلم يبق احد إلاّ ورأيته يحمل علب الشكولاطة الطليطلية اللذيذة.
كانت رحلة العودة ليلاً انطلقت الطائرة من مطار مدريد الساعة الثانية عشرة ليلاً والكل مشبعٌ بالهواء الأندلسي العابق وخلال ساعات الطيران كتبتُ هذه المنامة التي أرجو أن تروقكم كما راقتني هذه الرحلة المشوقة التي أعتبرها أجمل رحلات حياتي.
د. سامي إدريس