رحلة الوقوف على الأطلال

تاريخ النشر: 28/04/12 | 13:41

ِقفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ/ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ,

هكذا بدأ شاعرنا العملاق امرؤ القيس معلقته الذهبية, بدأها واقفا على الأطلال, فقد هجرت حبيبته ذلك المكان فذهبت مع قبيلتها تشاركهم البحث عن موطئ لقدم جديد. فعلى طلة ذلك المكان المهجور بكى امرؤ القيس, فهناك كانت ذكرياتها وخطواتها وضحكاتها تعانق زوايا المكان. ذهب يبحث عن بقايا أناس قد هجروا مسكنهم ولم يعودوا إليه. هذا الموقف مضى عليه أكثر من الف وأربع مائة سنة مضت, فالتاريخ يعود مشابها لاحداثه التي مضت, ولكن بصورة مختلفة نوعا ما. فبدل الوقوف على أطلال الحبيبة, صرنا نقف على أطلال أحبتنا الذين هاجروا بعيدا , وخرجوا من بيوتهم التي أصبحوا لا يملكونها , بعد ان تركوا الأرض والمسكن , ومن بعدهم سكنتها الغربان تنعق بالخراب والدمار.

واما من هجر بلاده وعاد اليها زائرا ومفتاح باب بيته القديم معلق على صدر حفيده كالقلادة, بجانب قلادة المصحف الشريف. فتلك الذكريات علقت على صدر الأيام المأساوية القاسية, كمعلقة شاعرنا الكبير التي علقت بذاكرة التاريخ ونسجت بالذهب. فبعد غياب طال اربع وستين عاما, عاد إلى حبيبته عروس البحر لعله يلقى ترحيبا منها, فلم يجد اي ترحاب, وذهب ليبحث لمفتاحه عن باب فلم يجد له اي باب, فالأبواب أقفلت في وجهه ولم يعد أي شخص يكترث لضيافته, والناس غير الناس الذين عرفهم, والوجوه غير الوجوه السمحة ذات الكرم والبشاشة لزوارها وضيوفها, ولم يبق بيوت تسرج , وحتى الحناطير لم تمر من ذلك الشارع. فصوتها ما زال في أذني مترنما قارع, وصرت أجوب الأرصفة لعلي أجد عليها خطوة من خطوات التي مضت عليها سنوات المواجع. بحثت عن بعض الأصحاب والأحباب فما زالت ذكرياتهم في مخليتي تصارع, فعلى تلك الصخرة التي لم تزحزح كان يلعب صديقي يوسف, فسقط من عليها ضاحكا بضحكة نقشتها أوتار المسامع, واحتضنته الأرض وأبت إرجاعه, فقد اعادته إلى رحمها للمرة الأخيرة. فلحده كان خلف تلك الصخرة التي أسموها “ضحكة يوسف”, التي علت فوق صريخ المصانع, والذئاب خلف الصخرة تترصد كل الخطوات وعيونها قصف المدافع.

سرت في سبيل أظن انني قد مررت عليه, لا بل هرولت عليه, فصارت أرجلي تهرول وحدها دون شعور, واستمرت هذه الركضات إلى جيل الطلائع, جيل هدمته المآسي, فذلك قدرنا ولا هرب منه ولا مانع. كنا نتسابق على ذلك السبيل لعلنا نسبق ظلنا, فقد كنا طيبين بسطاء وأحلامنا صغيرة بناءة . مدت يدي إلى جيبي لأتناول منه المنديل الأسود, فعرقي طال الأرض وسقاها فقد اشتاقت إليه وحضنته وكان ذلك الاشتياق عمره اربع وستون سنة.وفجأة أيقنت ان جواز السفر ليس في جيبي , ذلك متحف الأختام العربية والعالمية, فعاودت أدراجي لعلي أجد جوازي الضائع , فوجدته راكعا يقبل ذرات التراب التي خطى عليها أصحاب الملائح, فربما يجد في تلك الذرات بعضا من مسك الروائح, التي تلحفت خطواتهم الزكية.

أخذني الإرهاق فرجعت من حيث أتيت حتى وصلت إلى صخرة صديقي يوسف, فجلست عليها وضحكت ضحكة أشبه بضحكة يوسف, لعلي من خلالها أصل إليه, ولكن هذه المرة إلى الأبد وبلا جواز.

‫2 تعليقات

  1. كتاباتك اخي عمار دائما بها ابداع جوهري بكلمات طيبة..اتمنى لك دوام التالق الجميل.

    مقالتك تزيدنا اصرار للتالق باداء ادوارنا بمسرح الحياة لخلق حياة كريمة..

    اخي الفاضل..لك في قلبي كل الحب والتقدير..بوركت على عطائك المتواصل..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة