أسرار الفُرسان الألمان في حيفا ويافا والقُدس 1860-1939 م
تاريخ النشر: 29/04/12 | 10:33بعيداً عن الأنظار, وخَلف جِدار خرسّاني مُرتفع في الجانب الغربي للقُدس الشريف, يختبيء أحد أسرار الماضي, مَقبرة تَضُم 150 قبراً لِنساء ورجال ألمان أخُفيت قبورهم لِعقود خَلف فِكرة أنشاء “دولة يهودية” في فلسطين.
تعودُ مَقبرة الفُرسان في القُدس الى الطائفة البروتستانتية المسيحية الألمانية التي أنتقلت الى الأراضي المُقدسة خِلال الفترة 1860-1878 م, أي قبل عقد أو أثنين من الهِجرة الصهيونية الأولى الى فلسطين العثمانية, أذ أنتقلَ الفُرسان مِن المانيا لدوافع دينية ونتيجة للأضطهاد الذي لاقوه فيها بسبب مُعتقدهم الديني الرامي لتأسيس مُجتمع مِن شأنه أن يدفع عملية “أعادة بِناء المعبد اليهودي”, وكانَ ذلك ضرورياً لأنجاح عودة المسيح وظهور الجنة على الأرض بحسب مُعتقدهم.
أستقرَ الفُرسان الألمان في منطقة على بُعد نحو كيلو متر واحد من جنوب غرب القُدس القديمة, والمعروفة بأسم ” وادي الرفائيين”, وبعد ذلك بنى الفُرسان المنازل الألمانية على طراز منازلهم التي تركوها في المانيا, وكثير من هذه المنازل لاتزال سليمة لغاية اليوم في ما يُعرف اليوم بأسم “المُستعمرة الألمانية”.
المُفاجاة في المَقبرة, وما وراء البوابة المُغلقة ” لا تُفتح الا بِطلب “, أذ تَضُم قبر ” كريستوفر هوفمان” مؤسس جمعية المعبد الألمانية أضافة الى قبور سليمة للسُكان الألمان الذين توفوا أو قُتلوا في أواخر القرن التاسع عشر.
في مُكان بارز في المقبرة يقف النُصب التذكاري للفُرسان 550, والذين عاشوا في المستعمرات الألمانية في القُدس وحيفا ويافا والجليل, وقد ضحى الفُرسان الألمان بأرواحهم في الحرب العالمية الأولى وهم يقاتلون بجانب العثمانيين وجرى تدوين أسماءهم في نُصب خاص يعلوه الصليب بداخل المَقبرة.
يعود جذور الفُرسان الألمان الى “جمعية المعبد” الألمانية والتي تعود في أصولها الى حركة الاتقياء التي ظهرت في المانيا في القرن السابع عشر كحركة اصلاحية في الكنيسة الأنجيلية, لتتخذ عند اندلاع حرب القرم سنة 1853 م اتجاهاً جديدا, إذ ساد شعور في أوروبا أن نهاية الدولة العثمانية صارت وشيكة, فدعا زعيم الحركة كريستوفر هوفمان إلى سلخ فلسطين عن الدولة العثمانية وجعلها موطنا لما سماه : شعب الله, ورغم التأثيرات التوراتية الواضحة في دعوته, والمسوغات الدينية التي ساقها لها, فإنه لم يقصد بتلك التسمية اليهود, بل ما سماه ” الشعب المسيحي الإنجيلي”.
في أغسطس أب سنة 1854 م, عقد أتباع هوفمان اجتماعا للجنة سموها : لجنة أصدقاء القدس, وذلك للبحث في تنفيذ مشروعه, وسعوا إلى أن يتبنى البوندستاغ الألماني المشروع وأطلقوا جمعية سمت نفسها “جمعية تجميع شعب الله في القدس لبناء مملكة الرب “.
حصلت الجمعية على تبرعات مالية, وأخذت تضغط من أجل الحصول على أرض في القدس, بموافقة السلطات العثمانية التي كانت أصدرت سنة 1867 م قراراً يتيح للأجانب التملك في فلسطين إذا حصلوا على الجنسية العثمانية, ووافقت في العام التالي على طلب أعضاء الجمعية بتملك الأرض بعد تحديد مساحتها وموقعها .
ولأهداف دينية بحسب مُعتقد الجمعية, طلب هوفمان وأعضاء جمعيته شراء ثلاثة أميال مربعة عند جبل الكرمل في حيفا, دون الحصول على الجنسية العثمانية, وعندما رفضت السلطات طلبهم حصلوا على الأرض عن طريق التحايل, وتدخل القنصل البروسي لصالحهم, ليبدأ تشييد المُستعمرة الالمانية عند جبل الكرمل في حيفا سنة 1869 م, ومِن ثُم بناء مستعمرة سروانة الألمانية في شمال الدير اليوناني في يافا سنة 1871م وبناء مستعمرة المانية أخرى الى الشمال الغربي من الناصرة وشرق حيفا في الجليل سنة 1906م.
بنى الفُرسان الألمان مستعمرات أخرى في الجليل وشمال الدير اليوناني في يافا سنة 1871م، وفي سنة 1872م استطاعوا الحصول على قطعة أرض شمال غربي محطة سكة حديد القدس خارج حدود البلدية, بنوا عليها مستعمرة توسعت خلال ست سنوات لتصبح المقر العام لإدارة جمعية المعبد بمساحة خمسة وعشرين هكتارا.
اتخذت جمعية المعبد موقفاً عدائياً من اليهود قبل استيطان أفرادها أرض فلسطين, ولكن الفُرسان تعاونوا لاحقاً مع نوبات الغزو اليهودي الصهيوني في فلسطين, وعندما بدأ المستعمرون الصهاينة يهددون مصالح المستعمرات الألمانية, عاد الفُرسان الألمان إلى الموقف القديم المُعادي للأستعمار اليهودي, وقال هوفمان مؤسس جمعية الهيكل: “أن الأرض المقدسة ينبغي أن تكون ملكاً لشعب الله, واليهود لم يعودوا شعباً مقدساً, الفُرسان وحدهم من أوجد الشعب المُقدس الجديد”.
بعد وفاة كريستوفر هوفمان في القُدس في الثامن من ديسمبر كانون الاول سنة 1885 م, تسلمَ أبنه هوفمان رئاسة جمعية المعبد في سنة 1890 م, وقد قدمَ كريستوفر هوفمان قبل وفاته دراسات عن الكتاب المُقدس بمجلدين (1882-1884م ) وطريق سيرته الذاتية الى القدس بمجلدين (1882-1884م ).
تحالفَ الفُرسان الألمان مع العثمانيين أبان تحالف الأخيرين مع المانيا خِلال الحرب العالمية الأولى 1914-1918م, ودافعوا عن القُدس بجانب العثمانيين والفلسطينيين في معركة القدس ضد الغزو الصهيوني البريطاني للأراضي المُقدسة سنة 1917م, ونتيجة لتعاطفهم مع “حِزب العمال القومي الأشتراكي الألماني” في عهد الزعيم الأوروبي أدولف هتلر أمرت سُلطات الغزو البريطاني بطرد مُعظمهم من فلسطين الى أستراليا ومصادرة أملاكهم وبيوتهم الحجرية في الاراضي المُقدسة قبل سنة 1939م, ليكافحوا فيما بعد بجانب أقرانهم الألمان خِلال الحَرب العالمية الثانية 1939-1945م.
في أعقاب المعارك الضارية التي وقعت بين الفلسطينيين والقوات العربية مع الغزو الصهيوني اليهودي, ومِن ثُمَ أعلان المقبور ديفيد بن غوريون أنشاء “دولة يهودية في أرض اسرائيل” في مُنتصف ليلة الرابع عشر من مايو ايار سنة 1948م, أستُخدمت المنازل المهجورة في المستعمرة الألمانية بالجانب الغربي من القُدس الشريف لأيواء المُهاجرين اليهود الجُدد, ومنذُ نهاية القِرن العشرين تشهد المُستعمرة الألمانية تغيرات في طابعها الألماني عن طريق دمج سمات معمارية أخرى بمُجتمع يهودي صهيوني ناطق بالأنجليزية والعِبرية.